بحث
بحث
صيدليات سوريا.. في أيدي باعة أدوية وتجار
إحدى الصيدليات في دمشق- أرشيف صوت العاصمة

صيدليات سوريا.. في أيدي “باعة أدوية” وتجار

حالتا وفاة جراء منح المرضى أدوية خاطئة من قبل “باعة أدوية” لا يملكون أدنى معرفة طبية

قبل أسابيع، أودت حبة دواء وفرها صيدلي في سوريا بحياة رجل في العقد السادس من العمر يدعى عامر كان مصاباً بمرض الربو. وفي منتصف أيار الماضي، توفي شاب في الـ24 من العمر يدعى عبد المنعم زكريا في مدينة حمص بعد ربع ساعة فقط من حقن زوج لصيدلانية يمارس مهنة طب الأسنان إياه بإبرة أعطيت في العضل بدلاً من الوريد، لمحاولة معالجته من تشنج وألم في الرقبة.
وتشير حالتا الوفاة إلى المخاطر الناتجة من انتشار ظاهرة “باعة الدواء” الذين يمتهنون الصيدلة، وتعدد مخالفات ممارسيها، ما يؤثر على صحة المرضى وحياتهم، علماً أن عائلة عامر أوضحت في حديثها لـ”العربي الجديد”، أنَّ الصيدلي أعطاه دواءً لا يجوز أن يتناوله مريض ربو، ولم يسأله عما إذا كان يعاني من أمراض مزمنة.

وتنتشر ظاهرة تأجير بعض خريجي الصيدلة شهاداتهم لأشخاص لا علاقة لهم بالمهنة، ولا يملكون أدنى معرفة طبية، في مقابل مبالغ محددة، وذلك لأسباب عدة، منها عدم قدرتهم على توفير تكاليف فتح صيدليات، ورفضهم تأدية الخدمة الإلزامية في الريف لمدة سنتين، بحسب ما ينص المرسوم رقم 15 الصادر عام 1967 لتنظيم مهنتي الصيدلة والطب. 
ويذكر صيادلة في دمشق لـ”العربي الجديد”، أن “صيادلة وخريجين جدداً من كليات تدرس المهنة، خصوصاً من النساء، يؤجرون شهاداتهم إلى أشخاص غير صيادلة، وأن آخرين يفعلون ذلك في حال عملوا في مختبرات، كما يشغّل بعضهم أقاربهم في صيدليات”. 
ومع تعدد أوجه المخالفات، يواجه عشرات وربما مئات من أبناء دمشق وباقي المدن السورية مصيراً مشابهاً لعامر وزكريا، في ظل انتشار ظاهرة “امتهان الصيدلة” وسط غياب إجراءات الرقابة، وواقع عيش أكثر من 90 في المائة من السوريين تحت خط الفقر، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، ما يجعلهم يقصدون صيادلة للتداوي بدلاً من الذهاب إلى متخصصين.

تأجير الشهادات
وبين أمثلة تأجير الشهادات، الصيدلي جهاد العبد (28 عاماً)، الذي اتخذ هذه الخطوة فور تخرّجه من كلية الصيدلة عام 2019، بسبب عدم امتلاكه الإمكانات المادية لفتح صيدلية، وهو يخبر “العربي الجديد” بأنه حاول مرات عدة فتح صيدلية، ثم أيقن أن المشروع يحتاج إلى رأس مال كبير، قبل أن يعرض عليه شخص لا يمتهن الصيدلة استئجار شهادته، والعمل بها مستخدماً اسمه. 
ويقول: “درست الصيدلة سنوات، ثم جلست في البيت في نهاية المطاف بعدما جعلني الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب أؤجر شهادتي بدلاً من العمل بالمهنة التي أحببتها، وتحصيل رزقي منها”. 
ويرفض العبد كشف المبلغ الشهري الذي يحصل عليه من تأجير شهادته، لكنه يشير إلى أنه يكفيه لعيش حياة كريمة من دون القيام بأي عمل. أما عن خطورة الظاهرة على حياة المرضى، فيوضح أنَّ الشخص الذي استأجر شهادته ليس صيدلياً لكن زوجته الممرضة ستعمل بنفسها في الصيدلية”. 

من جهتها، اضطرت سميرة عطية (31 عاماً)، وهي صيدلانية تملك صيدلية مُستأجَرة في منطقة صحنايا بريف دمشق، إلى التوقف عن العمل كي تربي أطفالها الثلاثة بعدما اختفى زوجها عام 2016، وتقول لـ”العربي الجديد”: “زوجي مفقود ولدي مصاريف خاصة بالمنزل والصيدلية نفسها التي تعتبر مصدر دخلي الوحيد، فقررت توظيف أختي التي تخرجت من معهد تجاري في الصيدلية نفسها خلال فترة الصباح، وعامل مختبر في فترة المساء”.
وتعترف سميرة بخطورة الخطوة، لكنها تشدد على أنها وسيلتها الوحيدة للاستمرار في الحياة، وتقول: “أدير الصيدلية على الهاتف، في حال استدعت حالات معينة دقة التعامل مع أنواع أدوية ذات مواصفات دقيقة ومعقدة، فلا يستطيع أي من عامل المختبر أو أختي التصرف من دون الرجوع إلي”. 

صيادلة “أشباح
وفي جولة أجرتها “العربي الجديد” على صيدليات في دمشق، وسألت فيها عن بعض أنواع الأدوية وتركيبتها وتأثيراتها وكيفية أخذها، رفض أكثر من 6 أشخاص موجودين فيها توفير إجابات بحجة أن الصيدلي المسؤول عن الأدوية غير موجود حالياً، وطالبوا بالرجوع للاستفسار لاحقاً.

ويعتبر الصيدلي منذ أكثر من 15 عاماً والذي يقيم في دمشق معين صالح، في حديثه لـ”العربي الجديد”، أن “هذه الحالات تؤكد وجود أشخاص يمتهنون الصيدلة، أي باعة أدوية، وهذا مصدر خطر كبير على صحة المرضى، ويشير إلى تحوّل مهنة الصيدلة والطب في سورية إلى تجارة مربحة وسط غياب الرقابة، وتفشي الفساد والمحسوبيات لدى الأجهزة الطبية المختصة”. 

يضيف: “في بعض الحالات، لا يمكن تخيل خطورة لعب صيدلي موجود في حارة دور الطبيب بسبب عدم قدرة السكان على الذهاب إلى عيادات تفرض رسوماً كبيرة للمعاينة. والأسوأ أن يصف شخص لا علاقة له بمهنة الصيدلة أدوية لا يعرف تركيباتها وآثارها الجانبية لمرضى، ما يؤدي إلى كارثة في حال عانى المريض من تداخلات الدواء التي قد تقوده إلى الوفاة، أو أن يعطي هذا الشخص إبراً لمرضى من دون امتلاك أدنى معرفة طبية”. 
ويؤكد صالح أنه يرفض بيع دواء لأي شخص، مهما كان وضعه الصحي، من دون تقديم وصفة من طبيب مختص، ويشرح أنه قد يلجأ إلى هذا الأمر في حالات نادرة جداً لمعالجة أمراض الرشح، وأوجاع عبر إعطاء مسكنات، ويشدد على رفضه الكامل إعطاء إبر، ويشرح أنَّ مهنة الصيدلة تحتاج إلى تنظيم ممارستها ووضع ضوابط قانونية لها في ظل تخرج آلاف الطلاب سنوياً، خصوصاً بعد إنشاء 14 كلية لهذا الاختصاص في الجامعات السورية الخاصة، كما يطالب بتحديث مناهج التدريس في الكليات العامة والخاصة معاً، والتي باتت قديمة. 
ويتحدث صالح عن أنَّ “امتهان الصيدلة بات ظاهرة تنتشر بالتزامن مع بيع من يسمون نفسهم صيادلة الدواء المهرب بلا وصفات طبية. وأصبحت الأدوية المهربة تجارة مربحة في ظل انقطاع أصناف أدوية تنتج محلياً”. 
ويوضح أن “تأجير شهادات الصيدلة كان يحصل شرط أن يكون المؤجر والمستأجر صيدليان. أما اليوم فقد يعمل والد صيدلي أو قريبه أو شخص آخر لا علاقة له بالمهنة في مكان العمل الخاضع لشروط امتلاكه الشهادة، فيما تتجاهل نقابة الصيادلة هذه الظاهرة”. 

وفي السياق، تعترف حكومة النظام السوري بانتشار ظاهرة تأجير شهادات الصيدلة ومخالفات أخرى، لكنها تصرّ على أن نطاقها محدود جداً ويشمل عدداً قليلاً من الأشخاص، وتشدد على أن اللجان المختصة في نقابة الصيادلة ومديريات الصحة تقوم بجولات دائمة لرصد المخالفات وقمعها، علماً أن العقوبات المتخذة في حق المخالفين تراوح بين تنظيم محاضر ضبط وإغلاق الصيدليات بالشمع الأحمر، وفرض غرامات بمبالغ مالية كبيرة تراوح بين مليون ومليون ونصف المليون ليرة (300 و450 دولاراً)، وتحويل الصيدلي الأساسي إلى مجلس تأديب، والشخص الذي يمارس المهنة من دون امتلاك شهادة إلى القضاء.

كلفة فتح صيدلية 
وفيما يؤثر الوضع الاقتصادي المتردي وانخفاض قيمة الليرة السورية مقابل الدولار على قدرة خريجي كليات الصيدلية على فتح صيدليات خاصة بهم، يقدر صالح الكلفة الحالية لتجهيز صيدلية بحوالى 50 مليون ليرة (13 ألف دولار)، من دون الأدوية البسيطة التي تراوح كلفتها بين 5 ملايين ليرة (1500 دولار)، و8 ملايين ليرة (2400 دولار). 

وتحتاج الصيدلية أيضاً إلى أجهزة لقياس الضغط والسكر والوزن والطول، إضافة إلى جهاز كمبيوتر للحسابات وإدخال الأدوية والصندوق.
ويوضح صالح أن شركات ومعامل الأدوية لم تعد توفر طلبات الدواء من دون دفع ثمنها، وهو ما كانت تفعله قبل الحرب، وتأخذ ثمنها مباشرة، وليس على دفعات. 
ويشرح أن كلفة فتح صيدلية قبل الحرب كانت لا تتجاوز مليوني ليرة (600 دولار)، تؤمن كل التجهيزات، ومتطلبات شراء كل أنواع الأدوية من الشركات ومعامل الإنتاج. 
وبين فقدان مهنة الصيدلة معايير عملها وعجز خريجي صيدلة عن فتح صيدليات خاصة، يدفع سكان في دمشق ومناطق أخرى في سورية حياتهم ثمناً لجشع ممتهني الصيدلة وتجار الأدوية وسط تجاوزات قانونية وفساد مستشر في القطاع الصحي التابع للنظام السوري. 

المصدر: العربي الجديد