في لحظة فارقة من التحول السياسي والإداري، ومع تشكيل حكومة جديدة وتعيين إدارة جديدة للمصرف المركزي، يبرز إلى السطح مجدداً مقترح جريء ظل مطروحاً في أروقة الخبراء منذ سقوط النظام السابق: إصدار عملة سورية جديدة وحذف ثلاثة أصفار من العملة الحالية، كخطوة إصلاحية تتجاوز البُعد الفني لتكون إعلاناً حقيقياً عن بداية جديدة في الإدارة المالية للبلاد.
المشكلة ليست في غياب المال… بل في غيابه عن المصارف:
ما تواجهه سوريا اليوم لا يمكن وصفه بدقة على أنه “أزمة سيولة”. فالنقود الورقية (الكاش) موجودة فعلياً، لكنها خارج النظام المالي الرسمي.
السبب؟ سنوات من الممارسات التي ساهمت في تآكل ثقة المواطنين بالمصارف، وجعلت من الإيداع فيها مخاطرة غير محمودة العواقب.
ما الذي أبعد السوريين عن النظام المصرفي؟
خلال سنوات حكم النظام السابق، تحوّلت المصارف من مؤسسات مالية إلى أدوات رقابة وأحياناً ابتزاز، بفعل مزيج من التدخلات الأمنية، والفساد، والسياسات النقدية العشوائية:
● تدخلات أمنية مباشرة في حركة الأموال، خصوصاً التحويلات والمبالغ الكبيرة.
● فرض “إتاوات” على بعض العمليات المالية، خاصة من رجال أعمال أو جهات كانت تتبع لمسؤولين نافذين.
● اشتراط تنفيذ عمليات بيع العقارات عبر مسارات مصرفية أمنية، ما جعل العملية مرهونة بالموافقة السياسية أو الأمنية لا القانونية فقط.
● محدودية السحب المسموح به حتى من الحسابات الخاصة، لأسباب لا تتعلق بالسيولة بل بالرقابة والتضييق.
● الخوف من تقلب القرارات الحكومية والمصيرية بشأن الأموال، في ظل غياب بيئة قانونية واقتصادية مستقرة.
كل ذلك دفع الأفراد والمؤسسات إلى سحب أموالهم من المصارف والاحتفاظ بها نقداً، ما خلق اقتصاداً خارج السيطرة، وعمّق الفجوة بين الدولة والسوق.
الحل المقترح: عملة جديدة مع حذف ثلاثة أصفار:
يرى خبراء تحدثوا لـ”الاقتصادي” أن إصدار عملة جديدة، مع حذف ثلاثة أصفار من العملة الحالية، يمكن أن يكون خطوة إصلاحية ذات أثر مزدوج: مالي ونفسي.
أن تتحول الـ100,000 ليرة إلى 100 ليرة “جديدة”، هو ليس مجرد إعادة تسمية، بل بداية ترتيب جديد للنظام المالي، إذا ما تم ضمن خطة شاملة.
فوائد إصدار العملة الجديدة وحذف الأصفار:
إعادة الأموال إلى الدورة الرسمية: إعادة الأموال إلى الدورة الرسمية ربط استبدال العملة بمهلة محددة يجبر من يحتفظ بالأموال نقداً على الكشف عنها وإيداعها.
كبح التضخم الرمزي: حذف الأصفار يخفف من تضخم الأرقام ويُسهّل التعاملات والمحاسبة.
تحسين صورة العملة: تحسين صورة العملة تعزز من ثقة المواطن والمستثمر بالاستقرار الاقتصادي.
تضييق الاقتصاد غير الرسمي: تضييق الاقتصاد غير الرسمي إعادة توجيه الكتلة النقدية إلى القنوات المصرفية الرسمية.
إعادة الاعتبار للمؤسسات المالية: إعادة الاعتبار للمؤسسات المالية مع إجراءات مرافقة، قد يكون التغيير فرصة لبناء ثقة جديدة بالنظام المصرفي
استعادة الثقة بالنظام النقدي: إصدار عملة جديدة يساهم في تحسين المزاج العام، ويدفع الأفراد للتعامل من جديد مع البنوك.
سحب السيولة من السوق السوداء: إذ يضطر من يحتفظ بالنقد خارج المصارف إلى إظهاره ضمن مهلة محددة، ما يُعيده إلى الدورة الاقتصادية.
مكافحة غسل الأموال والاقتصاد الموازي: من خلال اشتراط إثبات مصدر الأموال أثناء الاستبدال.
دروس من تجارب دولية:
تركيا (2005):
بعد تضخم هائل خلال التسعينيات، أصدرت تركيا الليرة الجديدة بحذف 6 أصفار.
النتيجة: استقرار نقدي، وتحسن الصورة الذهنية للعملة داخلياً وخارجياً.
البرازيل (1994):
واجهت تضخماً مفرطاً، وأطلقت “الريال” ضمن حزمة إصلاح شاملة، مما ساعد على ضبط السوق وإعادة بناء الثقة.
ألمانيا (1948):
استبدلت عملتها بعد الحرب ضمن خطة صارمة، مع تحديد مهلة قصيرة للاستبدال، ما أدى إلى عودة السيولة إلى النظام الرسمي، وانهيار السوق السوداء.
لماذا الآن؟
مع وجود حكومة جديدة وإدارة جديدة للمصرف المركزي، يرى المراقبون أن اللحظة مناسبة لاتخاذ خطوة جذرية تعيد ضبط الإيقاع النقدي والمالي في سوريا.
لكنهم يحذرون من أن إصدار العملة الجديدة دون إصلاح مؤسسي حقيقي، سيحوّل الورقة الجديدة إلى مجرّد قشرة فارغة.
شروط نجاح العملة الجديدة:
مهلة استبدال محددة وصارمة، مع مراقبة مصادر الأموال الكبيرة.
استقلالية حقيقية للمصرف المركزي.
إصلاح شامل للقطاع المصرفي، مع تحديث آلياته وضمان أمان الودائع.
خطاب رسمي واضح، يربط الإصلاح النقدي برؤية اقتصادية واقعية.
وقف التدخلات الأمنية في الشأن المالي، وإخراج الاقتصاد من معادلة الابتزاز السياسي.
الانتباه خلال عملية استبدال العملة من أي محاولة غسيل أموال من قبل الفاسدين.
الثقة أولاً… ثم النقد:
يقول أحد الخبراء لـ”الاقتصادي”: “الناس لم تفقد ثقتها بالليرة لأنها ورقة رديئة الطباعة، بل لأنها صادرة عن منظومة لا تحمي أموالهم. إذا تغيّرت المنظومة، فإن الناس سيعودون طواعية إلى المصارف، وسيتنفس الاقتصاد من جديد.”
في النهاية، العملة الجديدة قد لا تكون معجزة، لكنها قد تكون البداية… بشرط أن ترافقها إرادة سياسية حقيقية، وشجاعة في مواجهة جذور المشكلة.
عملة جديدة… لمرحلة جديدة على كل المستويات:
تبديل العملة وحذف الأصفار لا يقتصر فقط على الجانب المالي أو الفني، بل يحمل رمزية نفسية وسياسية عميقة في السياق السوري. فإصدار عملة جديدة يُتيح للسوريين التخلص من الصور والرموز المرتبطة بعائلة الأسد التي طالما تصدرت واجهات الأوراق النقدية، وكانت تذكيراً دائماً بمنظومة حكم ديكتاتوري طبع الحياة العامة بالهيمنة والخوف.
وقد سبقت سوريا إلى ذلك دول مثل العراق بعد 2003، حين قامت السلطات بإصدار عملة جديدة تخلّصت من صور صدام حسين، كخطوة رمزية مهمة في مسار الانتقال من حكم شمولي إلى نظام جديد.
من جهة أخرى، فإن حذف الأصفار يُخفف العبء النفسي والمادي المرتبط بتداول مبالغ نقدية ضخمة. فاليوم، بات حمل رواتب أو مدفوعات يومية يتطلب أكياساً وحقائب، ما يثقل كاهل المواطن ويعرضه لمخاطر أمنية وسرقات، ناهيك عن الإحراج الاجتماعي وتدهور الثقة بالعملة.
لهذا، فإن تبديل العملة ليس مجرد خطوة نقدية، بل جزء من معالجة أعمق تتعلق بالكرامة والهوية والسيادة الاقتصادية. وإذا ما اقترنت هذه الخطوة بإرادة حقيقية في الإصلاح، فقد تشكّل بداية لمرحلة أكثر توازناً واستقراراً في حياة السوريين.
المصدر: منصة الاقتصادي