صوت العاصمة – تحقيق خاص
في دمشق الأسد، ربما سيصبح التنفس بحاجة لموافقات أمنية خلال الفترة القادمة.
حيث تتدخل أجهزة المخابرات بأدق تفاصيل الحياة، يحتاج المواطن إلى موافقات أمنية حتى في أبرز الحاجات الشخصية، فإرن أردت إجراء عملية بيع أو شراء فأنت بحاجة لموافقة الفرع المسؤول عن منطقتك، وإن حاولت الهروب من سوريا بقصد الهجرة فإنت بحاجة لموافقة أمنية، حتى إن وددت الحج مؤخراً فأنت بحاجة لموافقة المخابرات كي تسطيع أداء إحدى الفرائض الدينية.
الدراسة الأمنية مصطلح بعثي قديم، مرتبط بدولة محكومة من قبل أجهزة مخابرات، حيث كانت الدراسة الأمنية تتعلق بعدة أمور أهمها الانتساب لأجهزة المخابرات او التطوع في الكلية الحربية، أو السفر إلى الخارج في بعثة، وأحياناً تطال أشخاص مغتربين في دول اوربا وامريكا.
تجاوزت الدراسة الأمنية كل ما سبق، ووصلت إلى خطوة غير مفهومة في السنتين الأخيرتين، وهي الحاجة لموافقة أمنية إن أراد موظف حكومي تقديم استقالته، لغرض السفر أو ربما تغيير المهنة .
مئات، وربما آلاف الاستقالات من الدوائر الحكومية تنتظر دورها في رفوف الأفرع الأمنية، ربما يستمر الانتظار لأشهر ليأتي طلب الاستقالة بالرفض لأسباب مجهولة، ربما يكون أحد أفراد العائلة من الدرجة العاشرة مطلوباً بقضية تخص أمن الدولة او تمويل الإرهاب، فتعتبر المخابرات أن هذا الشخص متآمر مع ذلك المطلوب ويتم رفض استقالته ببساطة.
تفاصيل كثيرة ربما لا يتذكرها الناس أنفسهم، وسط حرب طاحنة في محاولة لكسب لقمة العيش، تجدها مدومة حرفياً لدى مخابرات النظام، أين كان المواطن يسكن، وما هو عدد أفراد العائلة، ومن غادر منهم القطر، هل لدى العائلة معتقلين على خلفية نشاطات سياسية، وأين استأجر بعد ان هجر منطقته الساخنة، وتفاصيل دقيقة عن أولاد العم والعمة والخال والخالة وعائلات الأنسباء وما تبقى من الأقارب، جميعها توضع في الملف الأمني الخاص بالشخص الراغب بترك الوظيفة الحكومية.
الاستقالات بشكل عام هي من اختصاص مكتب العمل بمحافظة دمشق، ولكن سيطرة المخابرات على مفاصل الدولة حولت ملف الاستقالات بشكل كامل إلى الأفرع الأمنية، لتُسبب عرقلة واضحة للراغبين بالاستقالات، خاصة أولئك الراغبين بالسفر بعد حصوله على لم شمل إلى إحدى دول اللجوء، ويعلمون يقينياً أن خروجه بدون عودة.
مضت أربع أشهر ومحمد ذو الــ 40 عاماً ينتظر توقيعاً واحداً ليُكمل الأوراق اللازمة التي تخوله السفر إلى ألمانيا حيث استطاعت زوجته التي غادرت وأطفاله قبل عامين، استكمال طلب لم الشمل للزوج، حالهم كحال الآلاف ممن فضلوا إرسال الزوجات والأولاد إلى اوربا وانتظار لم الشمل، خوفاً من تركهم وحيدين في عاصمة الموت والاعتقال.
لم يكن “محمد” يتخيّل أن الاستقالة من وظيفة حكومية، يكاد راتبها لا يكفي لمنتصف الشهر، أن يكون بذلك التعقيد، فالتحضير لتقديم الاستقالة يحتاج لأسبوع كامل من الأوراق وإلى ما ذلك، وحتى الخروج إلى لبنان لحضور المقابلة في السفارة اللبنانية غير مسموح لي كموظف، يضيف محمد في حديث لمراسلنا. مُشيراً إلى أن السفارة أعادوا له المقابلة التي لم يستطيع الخروج إليها في الوقت المناسب قبل الحصول على الموافقة الأمنية للاستقالة الوظيفية.
ويسخر محمد، أنني موظف ديوان بسيط، لست عالماً في الذرة أو موظفاً في البحوث العلمية أو ضابط استخبارات حتى تتطلع جميع الأفرع الأمنية على ملف استقالتي وتوافق عليها، ولن تنتهي رحتلي هنا، فلم يُسمح لي بالمغادرة خارج سوريا حتى حذف اسمي من دائرة الهجرة والجوازات والمعابر الحدودية بصفتي موظفاً حكومياً.
عفاف وهو اسم مستعار لموظفة في وزارة الكهرباء لدى حكومة النظام، وأم لثلاثة أطفال تنتظر الموافقة على استقالتها التي تأخرت لأشهر طويلة، والسبب يعود لاعتقال شقيقها لدى الأفرع الأمنية منذ سنتين، بقضية سياسية، وذلك بحسب ما أخبرها ضابط تابع لفرع مجهول، بعد اتصاله بها عبر الخليوي، مضيفاً لــ “عفاف” نحن نعلم أن لديك لم شمل إلى هولندا، فكيف سنوافق على خروجك إلى خارج سوريا وأنت لديك أخ “ارهابي” ؟. ترد عفاف على الضابط المجهول الذي اتصل من رقم “خاص” بأن زوجها ينتظرها وجميع أوراقها نظامية وليس لديها مشاكل مع الدولة، ولا علاقة لها بقضية أخاها المعتقل. يعتذر الضابط بلباقة غير مسبوقة وينهي حديثه بأن خمسة أفرع أمنية لم توافق على استقالتها، مع تقديم وعد باستدعائها للحديث بالتفاصيل. ومنذ شهور وعفاف تنتظر مكرمة من مخابرات النظام لتجتمع بزوجها، وتخاف الخروج من سوريا بطريقة غير شرعية إلى لبنان أو تركيا، فربما يتسبب ذلك بأذى لما تبقى من عائلتها، او لأخاها المعتقل.
أما ابو توفيق فيقول ساخراً من تلك الإجراءات، لا أرغب بالسفر، ولا أملك جواز سفر اساساً، كل ما أريده هو الاستقالة والخروج إلى قريتي في محيط دمشق، لأسكن في منزلي الذي انهيت عماره مؤخراً، فلم أعد أقوى على العمل، ولست مضطراً الآن إلى ذلك الراتب، فأولادي الأربعة مُغتربين، وهم من طلبوا مني ترك الوظيفة والجلوس في القرقة بعيداً عن صخب دمشق وأجرة المنزل المرتفعة. رغم ذلك، تم استدعائي ثلاثة مرات إلى أفرع أمنية لبحث ملف استقالتي قبل الموافقة عليها خلال الأشهر الثلاثة الماضية
ولا تغيب الرشاوى كسائر دوائر الدولة، عن موضوع تسريع الاستقالات، وتحريك الملفات الساكنة في رفوف الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، ومكتب العمل في محافظة دمشق. فبدون مبلغ محترم، يمكن أن تطول مدة انتظارك، يقول “خالد” الموظف في مديرية المالية بدمشق، مضيفاً أن الأمر لا ينتهي عند الحصول على الموافقة الأمنية، فعلى الموظف المستقيل ملاحقة إزالة اسمه من النقاط الحدودية، وانتظار عودته مواطناً طبيعياً بدون قيود الوظيفة الحكومية.
عشرات القصص لموظفين وأطباء ومُدرسين تُحكى يومياً في شوارع دمشق، المدينة التي كانت ولا تزال سجناً كبيراً يحوي ملايين السُجناء، تعيش أجهزة المخابرات معهم في أدق تفاصيل حياتهم. تعمل بجهود كبيرة لأذلالهم خاصة أولئك الراغبين بالخروج من سوريا بدون عودة، تتلذذ الأجهزة الأمنية وجميع مفاصل الدولة بتعقيد أمورهم قبيل مغادرة الأراضي السورية.