يوميات دمشق أشبه بالبورصة. يتأرجح نبض قلبها بين الصعود والهبوط. الورشة بدأت ومعركة الإعمار انطلقت. ستأخذ وقتا كي تستقر مؤشراتها لكنها ماضية. تحتضن المدينة رحابة كي تتسع للأحلام والتوقعات.
دمشق التي زرتها قبل أيام، ليست ذات المدينة التي زرتها غداة سقوط النظام. أمور كثيرة تغيرت، وأخرى على حالها. توقعات واسعة ينتظرها السوريون، ولا يزالون يدورون في فضائها، سواء في نهاية العام الماضي أو في سنوات الجمر والحرب.
في نهاية العام الماضي، كانت المدينة تنام في ظلام وأهلها لا ينامون. كانت “الشام” في حالة احتفالية. فرح بسقوط النظام، فرح بعودة الكثيرين إلـى مدينتهم وعائلاتهم بعد انقطاع لسنوات أو عقود في عذابات المنفى.
وقتذاك، كانت الرقصات تفيض على ضفاف نهر بردى وتعشعش في أشجار مدينة الياسمين. بين أغنية وأغنية، تصدح حنجرة بـ”ارفع راسك فوق أنت سوري حر”، ترحيبا بمنفيّ عائد، لا يقطعها إلا نشيد آخر للترحيب بعائد آخر وعناق آخر.
ارتبط الليل بالنهار. فوضى احتفالية. فائض عواطف. تواطأت المدينة مع عائديها وعانقتهم. لا وقت للمواقيت، لا سدود أمام فيضانات الدموع. لا إشارات مرور ولا سيارات شرطة ولا قواعد للسير والسهر. قبول بليل دون كهرباء. رقص في الظلام.
غزل للمدينة الهرمة. مديح لشقوق الشوارع والأبنية. احتضان للغازات الرمادية. لا وقت للمساءلة ولا نية للمحاسبة. قبول بفوضى البسطات والروائح في شوارع المدينة. الشيء الوحيد والهم الوحيد، هو الفرح بسقوط النظام. لحظات كان ينتظرها كثيرون لـ54 سنة أو 61 سنة. كل شيء مقبول أمام طغيان اللحظة التاريخية.
كانت الطموحات كبيرة، والأحلام واسعة والمشاعر متدفقة. كانت المواعيد تضرب مع التاريخ في قمة قاسيون، وكانت الندوات تعقد في مقاهيها. عاد السياسيون وعاد النشطاء والثوار.
عاد معارضو “نظام الأسدين” لبناء نظام ما بعد الأسد. لكلٍ تصوره لمستقبل البلاد ودوره في بناء سوريا الجديدة. لكلٍ خريطته لبلاد رسمها كثيرون بدمائهم وجروحهم في ثواني العقد الدامي والعقود الثقيلة. لكلٍ أحلامه التي تخيلها في سقوف زنزاناتهم في “جمهورية الصمت” وثقوب خيمات النزوح في عراء موجات التهجير، ولكل ناجٍ من “قوارب الموت”، قارب يعبر فيه بسوريا من ضفة إلى أخرى.
دمشق مختلفة الآن. المدينة منظمة أكثر. الخدمات متوفرة أكثر. شرطة وأمن. مـؤسسات ووزارات. استعادت المدينة عاداتها. واستعاد أهلها إيقاعهم. لا احتفالات ولا أغنيات في المقاهي والشوارع. التراتيل الثورية اختفت. اتسعت رقعة النور والكهرباء في سماء المدينة ونوافذها. تسللت العادات إلى شوارع الشام.
الخدمات أفضل. المؤسسات تتحرك. الضوء يزيد زياراته إلى البيوت والقناديل. ضاقت المدينة بسياراتها. عناصر شرطة ينظمون حركتها. إشارات المرور استعادت أنوارها. يستجيب سائقون ومارة لأوامرها.
الطوابير موجودة أمام صرافات الرواتب والأموال. موجودة في صناديق حديدية أمام الأفران. تقدم خدماتها للجائعين وللفقراء. أما طوابير الباحثين عن تسويات لوضعهم الأمني، فلم تعد موجودة كما كان الحال في نهاية العام الماضي.
هموم الناس عادت إلى الأرض. غلاء المعيشة. توقف رواتب المتقاعدين، تعليق عمل موظفين في القطاع العام. وعاد القلق من أوضاع أمنية في محيط دمشق وغرب سوريا وجنوبها. التوقعات كانت أوسع من الإمكانات.
الأحلام أسرع من الزمن. اختبارات عدة في الأسابيع الماضية أعادت الناس إلى الأرض. بلاد منهكة منهارة ومحاصرة، لن تنهض في أشهر. لا تكفي صورة أمام “السيف الدمشقي” للإفلات من طعنات “سيف العقوبات” الأميركي.
هكذا بدت دمشق من تحت. أما من فوق، فأصبحت ملامحها واضحة. الإعلان الدستوري صدر. النظام السياسي تبلور. إنه نظام رئاسي وفترة انتقالية لخمس سنوات.
الحكومة تشكلت. “هيئة تحرير الشام” حافظت على الحقائب السيادية، وتركت حقائب أخرى إلى تكنوقراط دون ثقل سياسي، ضمنت وزراء من جميع المكونات، عرقية ودينية وطائفية، من دون محاصصة طائفية. ستستكمل الصورة بتشكيل الهيئة التشريعية.
الرسالة إلى السياسيين والطامحين في السياسة بينة. صدرت في “يوم النصر” في 29 كانون الثاني، وهي حل جميع الأجسام الثورية، العسكرية والسياسية والمدنية. إذن، لا مكان لأحزاب سياسية وتكتلات سياسية.
الأولوية من فوق، هي لتوفير الأمن وتحسين الاقتصاد. توفير الأمن بحل الفصائل ودمجها بوزارة الدفاع الجديدة بلغة الحوار أو نار السلاح، أو تسويات. هذا ما حصل. بات المسيحيون يحرسون مناطقهم والدروز والأكراد، تحت “مظلة الدولة”.
أما العلويون في الساحل، فمسـألة أخرى. تمرد الفلول، كان اختباراً داخلياً وإيرانياً للحكم الجديد. بدأ بتمرد عسكري مبرمج قتل فيها عناصر من “الأمن العام” وانتهى بفصول دامية من القتل لا تزال جروحها مفتوحة.
تشكيلة الحكومة وخيارات الوزراء تدل على أن تحسين الاقتصاد أولوية، والمفتاح في رفع العقوبات. دول عربية وإقليمية وأوروبية مدت يدها إلى دمشق. كل دول حليفة لدمشق، مستنفرة لتحريك العجلة بسرعة.
العقوبات الأميركية تضع سقف المساهمات في إطلاق عجلة الاقتصاد. واشنطن منقسمة بين تيارين: واحد، يرى الحكم السوري الجديد “قاعدياً”. ثان، مستعد للانخراط مع الحكم الجديد وفق مبدأ خطوة مقابل خطوة.
أصحاب التيار الثاني، قدموا إلى دمشق قائمة بثمانية مطالب، بعضها تجد دمشق صعوبة أو استحالة في قبولها، يتعلق بالنشاط السياسي للفصائل الفلسطينية واستهداف شخصيات في سوريا. ردت دمشق برسالة خطية على المطالب الأميركية، وهي تراهن على زيارة وزارية إلى واشنطن لحضور اجتماعات “البنك الدولي” وإلى نيويورك لرفع العلم الجديد في أروقة الأمم المتحدة.
الزمن كالسيف، والشعب ينسى “معجزة التحرير” بسرعة. رجال أعمال ووزراء قرروا ترك أشغالهم ومصالحهم في الخارج، للعودة للمساهمة في تفكيك القنابل المزروعة في المؤسسات، وفك العقد في الهيئات، والبحث عن خيارات بديلة للعيش تحت “سيف العقوبات”، ورشة كبيرة كشفت حجم المجازر التي ارتكبها النظام في المؤسسات الحكومية.
تكنوقراط وخبراء في رأس الوزارات. لكن هذه الوزارات والمؤسسات تركها موظفون كثر. في المقابل، انضم إليها موظفون من إدارات إدلب ومناطق النزوح. بين استبعاد موظفين والإقامات المؤقتة لـ”الزائرين” تكون ساعات العمل والانجاز قصيرة، وتكون ذخيرة “خوض الحرب للالتفاف على العقوبات” قليلة.
خلطة تراجع الوضع الاقتصادي أو عدم تحسنه، وتهديدات الوضع الأمني، ينتظرها متربصون في الداخل والخارج للانقضاض في اختبار جديد. وهناك جهد لدى أصحاب القرار في نزع فتيل هذه القنبلة.
الوضع في شوارع دمشق وكنائسها وجوامعها ومقاهيها، مريح أكثر مما هو على وسائل التواصل الاجتماعي. مقلق أكثر مما يبدو على السطح في قصائد المداحين. خطوة تنشر الارتياح كما حصل لدى حماية “الأمن العام” الأعياد المسيحية في دمشق والزيارات السياسية الرفيعة.
إشاعة تعمم الخوف، كما حصل لدى تداول أخبار عن عمليات خطف في العاصمة، أو تحذيرات عدم السفر الصادرة من أميركا وبريطانيا أو منع عواصم غربية لدبلوماسييها من النوم في دمشق.
خبر يشجع مهجرين على العودة، وآخر يدفع شباباً للتفكير في الهجرة. تتأرجح قلوب السوريين بين يوم وآخر. التحديات كثيرة. الورشة تشكلت وخطة الإعمار بدأت ومعركة تفكيك الألغام والقبض على الأحلام انطلقت.
المصدر: موقع المجلة