أجهزت الحرب الأهلية في سوريا على الكثير بين بنى تحتية وإمكانات اقتصادية وأصول ثابتة وأمعنت في تدمير البناء الاجتماعي والنسيج الوطني وخلفت وراءها ركاماً من القتلى والمصابين والمعاقين واللاجئين والمهجرين وملايين المتضررين نفسياً واجتماعياً.
وفي نهاية عام 2024 أغلق باب الحرب الأهلية بسقوط النظام السابق، وربما يكون أدى ذلك إلى فتح نافذة تطل على مرحلة جديدة وسوريا جديدة، إذ إن نحو 14 عاماً من الصراع تترك آثارها في كل ركن في سوريا، سواء كان مرئياً رؤى العين أو محسوساً بالأيدي وعبر ظلال الاقتصاد والتعليم والصحة والسكن الثقيلة، أو في هيئة قلوب وعقول أعياها انتظار نافذة تطل بها على طريق جديد وأمل، ولو من بعيد.
السوريون على عتبة جديدة
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سلط الضوء على هذه النافذة قبل ساعات، مسمياً إياها “فرصة سانحة يمكن أن تضع سوريا والسوريين على عتبة حقبة جديدة”، لكن منبهاً كذلك إلى أن طريق الوصول إلى هذه العتبة طويل ومليء بالعقبات، حيث التعافي، سواء من حيث إعادة البناء الاجتماعي والمادي أو الاقتصادي أمر بالغ الصعوبة، ولا ينبغي الاستهانة به.
تعافي سوريا يتطلب رؤية وطنية واضحة أولاً تؤدي إلى إصلاحات عميقة يصحبها تنسيق فعال بين كل المؤسسات مع إتاحة الوصول إلى الأسواق أمر بالغ الأهمية لتحقيق قدر من الإنعاش الاقتصادي. أما البعد الاجتماعي فلا يقل أهمية أو خطورة عن الاقتصاد، فقد ناله ما ناله من تدمير ويحتاج إلى بذل كثير من أجل إنعاشه هو الآخر.
على هامش إطلاق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريراً باللغة الإنجليزية عنوانه “تأثير الصراع في سوريا: اقتصاد مدمر، فقر منتشر، وطريق مليء بالتحديات أمام التعافي الاجتماعي والاقتصادي”، استعرض الأمين العام المساعد للأمم المتحدة مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للدول العربية عبدالله الدردري في مؤتمر صحافي بث من نيويورك عبر “زووم”، قائمة أرقام أقل ما يمكن أن توصف به هو أنها “مروعة”.
يقول الدردري إنه بمعدلات النمو الحالية لن يستعيد الاقتصاد مستوى الناتج المحلي الإجمالي قبل الصراع قبل عام 2080، وتقدر خسائر الناتج المحلي الإجمالي على مدار 14 عاماً من الصراع بنحو 800 مليار دولار أميركي وثلاثة بين كل أربعة أشخاص يعتمدون على المساعدات الإنسانية ويحتاجون إلى دعم التنمية في المجالات الأساسية، مثل الصحة والتعليم والدخل والبطالة وانعدام الأمن الغذائي والمياه والصرف الصحي والطاقة والسكن، وتضاعف معدل الفقر إلى ثلاثة أمثاله تقريباً، من 33 في المئة قبل الصراع إلى 90 في المئة حالياً، في حين ارتفع الفقر المدقع إلى ستة أمثاله، من 11 في المئة قبل الصراع إلى 66 في المئة حالياً.
وأشار الدردري إلى أن الصراع أدى إلى مقتل ما يقارب 618 ألف شخص واختفاء 113 ألفاً آخرين، ويرجح أن كثراً فقدوا أرواحهم بسبب انهيار النظام الصحي، لا سيما أن ثلث المراكز الصحية تضررت من الصراع، وتعطل ما يقارب نصف خدمات الإسعاف.
وعلى صعيد التعليم بين 40 و50 في المئة من الأطفال المتراوحة أعمارهم ما بين 6 و15 سنة لا يذهبون إلى المدرسة. وبالنسبة إلى السكن والمأوى قال مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للدول العربية إن ما يقارب ثلث الوحدات السكنية للتدمير أو لأضرار بالغة خلال سنوات الصراع، مما ترك 5.7 مليون سوري في حاجة إلى مأوى.
وتعرض أكثر من نصف محطات معالجة المياه وشبكات الصرف الصحي لأضرار أو توقفت عن العمل، مما أدى إلى حرمان نحو 14 مليون سوري، أي نحو نصف السكان، من المياه النظيفة والصرف الصحي والنظافة الصحية، وانخفض إنتاج الطاقة 80 في المئة وتضرر أكثر من 70 في المئة من محطات الطاقة وخطوط النقل، مما أدى إلى انخفاض قدرة الشبكة الوطنية بأكثر من ثلاثة أرباع.
اللافت أن سوريا، التي كانت دولة متوسطة الدخل، كانت تنمو بصورة مطردة حتى عام 2010 حين اندلع الصراع. إنه الصراع الذي دفع إلى تسجيل تراجع يعادل نصف قرن. وبعدما كان خمسة في المئة فقط من السوريين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية قبل عام 2010، أصبح 75 في المئة من السكان يعتمدون عليها. ليس هذا فحسب، بل نصف السوريين باتوا إما مهجرين داخلياً وإما لجأوا إلى دول أخرى.
هذا بالنسبة إلى من بقوا على قيد الحياة، أما من قتلوا أو أصيبوا أو أصبحوا معاقين، فإن التقرير يؤكد أنه لم يتسبب أي صراع آخر في التاريخ الحديث في مقتل وإعاقة وإصابة هذا العدد الضخم من السكان، ناهيك عمن اختفوا قسراً، وتقدر أعدادهم بنحو 113 ألف شخص، أو أجبروا على الفرار على مدار 14 عاماً.
يشار إلى أن ما يقارب 6 ملايين سوري، أي نحو 28 في المئة من السكان، ونسبة كبيرة منهم من الأطفال أصبحوا من ذوي الإعاقة، مما يعني أن واحداً بين كل ستة مواطنين أصبح معاقاً، وهو ما يعني أن قدراته باتت محدودة على كسب العيش والمشاركة الكاملة في جهود إعادة الإعمار.
الحديث عن جهود إعادة الإعمار يستدعي الـ6 ملايين سوري الذين فروا من سوريا على مدار 14 عاماً طلباً للأمن. بحسب التقرير فإن اللاجئين السوريين صنعوا واحدة من أكبر أزمات اللجوء في التاريخ الحديث.
وغالب اللاجئين السوريين (نحو 5 ملايين شخص) يقيمون في الدول المجاورة على رغم الضغوط الاقتصادية الكبيرة على الدول المستضيفة. لبنان يستضيف 1.4 مليون سوري، نصفهم فقط مسجل رسمياً، وهو ما قفز بعدد سكان لبنان بنسبة 30 في المئة تقريباً ليصبح نحو 5.3 مليون شخص. كما جرى توطين مليون سوري في دول أوروبية، 60 في المئة بألمانيا، و10 في المئة بالسويد، والباقون موزعون على باقي دول الاتحاد الأوروبي الأخرى.
واقعية عودة اللاجئين
وينظر التقرير إلى مسألة عودة اللاجئين إلى سوريا نظرة واقعية، فيرى أنه احتمال غير مؤكد إلى حد كبير، ويمثل تحدياً كبيراً، وذلك بسبب الوضع الراهن المتمثل في دمار واسع النطاق، وانهيار البنى التحتية، ومحدودية الفرص الاقتصادية، واستمرار المخاوف الأمنية.
يشار إلى أن استطلاعاً أجرته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين العام الماضي أشار إلى أن اثنين في المئة فقط من اللاجئين السوريين يعتزمون العودة إلى سوريا خلال عام، وأن 37 في المئة يفكرون في العودة في غضون خمسة أعوام، بينما يأمل 57 في المئة في العودة في وقت ما خلال العام الحالي.
تجدر الإشارة إلى أن الاستطلاع جرى قبل سقوط النظام في سوريا، وهو ما يعني أن توجهات ورغبات وتوقعات عودة اللاجئين السوريين ربما تغيرت. من جهة أخرى تقدر المفوضية عدد من عادوا بالفعل بعد الأحداث الأخيرة بنحو 270 ألفاً، مع إشارة إلى أن أكثر من ربع اللاجئين يعتزمون العودة وإعادة بناء حياتهم خلال العام الحالي.
تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من جهته يشير إلى أنه بينما تؤكد المبادئ والمواثيق الحقوقية أن تكون عودة اللاجئين طوعية وآمنة وكريمة، فإن الضغوط المتزايدة والمخاوف في شأن العبء الاقتصادي لاستضافة هذه الأعداد الكبير من اللاجئين يجب أن تؤخذ في الحسبان.
يشار إلى أن جهود “تشجيع” اللاجئين، سواء في المنطقة العربية أو خارجها، تصاعدت في الأسابيع القليلة الماضية. وجارٍ تقديم حوافز مالية، أو تفعيلها، في بعض الدول الغربية ضمن مبادرات عودتهم إلى سوريا.
يقول الواقع إن كلفة تيسير عودة اللاجئين ودمجهم ستكون باهظة الكلفة، إذ لا تقتصر على تشجيعهم على العودة وتقديم الحوافز المالية، بل تمتد إلى إعادة بناء البيوت المتهدمة، وتوفير دخل مناسب، وبدء الأعمال الزراعية، وإعادة تشغيل ما توقف من أعمال، وهو ما يقدر بما بين 10 و20 ألف دولار أميركي لكل أسرة مكونة من خمسة أفراد. ويقدر عدد الأسر السورية اللاجئة بنحو 1.2 مليون أسرة. بمعنى آخر، عودة هؤلاء ودمجهم وتوفير حياة معقولة لهم تتطلب بين 12 و24 مليار دولار أميركي.
في هذا الشأن قال مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي آخيم شتاينر إن استعادة الإنتاجية في سوريا من أجل خلق قرص عمل وتخفيف حدة الفقر وتنشيط قطاع الزراعة من أجل تحقيق الأمن الغذائي وإعادة بناء البنية التحتية التي تضمن الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والطاقة، جميعها عوامل أساسية لتحقيق مستقبل مستدام وضمان السلام والازدهار.
وينبه التقرير إلى أن العائدين إلى سوريا، لا سيما الحاصلون على تعليم جامعي ويتمتعون بمهارات وقدرات مهنية بمعايير عالمية، قادرون على المساهمة في النمو الاقتصادي والقيام بإصلاحات حقيقية من خلال قطاع ريادة الأعمال، وتحقيق التعاون مع السوريين في الشتات.
وعلى رغم ذلك فإن هذه الفرص مقيدة وتظل عاجزة أمام التدهور الشديد الذي لحق بالبنى التحتية والخدمات الأساسية وقلة الفرص الاقتصادية. وسواء عاد اللاجئون أو بقوا في الخارج، فإن التقرير يؤكد أن الطلب على السلع والخدمات والفرص الاقتصادية في الداخل السوري يظل كبيراً، وعاملاً محدداً لقدرة البلاد على التعافي.
أزمة النازحين داخلياً
وفي القلب من التعافي كذلك كيفية التعامل مع أزمة النازحين داخلياً. وعلى رغم أن الجانب الأكبر من الاهتمام والنقاش العام ينصب على اللاجئين خارج الحدود السورية، فإن سوريا شهدت أكبر أزمة نزوح داخلي منذ الحرب العالمية الثانية. ما يزيد على نصف السوريين تركوا بيوتهم قسراً، سواء كلاجئين أو نازحين داخلياً. وحالياً ما زال هناك 7.2 مليون سوري نازح داخلياً. نصف هؤلاء تقريباً يقيمون في محافظاتهم، لكن في أماكن غير بيوتهم التي دمرت أو أصبحت غير صالحة للسكن أو يسكنها آخرون.
ينبه التقرير إلى أن التحديات التي يواجهها السوريون النازحون داخلياً لا تقل خطورة عن اللاجئين، وربما تفوقها. فقدوا بيوتهم وسبل عيشهم وممتلكاتهم، وحتى في حال تيسير إجراءات عودتهم، فإنهم سيكونون في حاجة إلى مأوى وفرص عمل وموارد مالية كبيرة، وهو ما يضيف بعداً حاسماً آخر لمرحلة ما بعد الحرب في سوريا وإعادة الإعمار.
قبل اندلاع الصراع عام 2011 كان الاقتصاد السوري يسير على مسار النمو القوي مع معدلات إيجابية جيدة. بين معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي السنوي تجاوز خمسة في المئة السنوات الخمس السابقة للصراع، ونسبة تضخم معتدلة نسبياً بمتوسط سبعة في المئة، وبطالة ثمانية في المئة، ودين أجنبي عند مستوى يمكن التحكم فيه، وموازنة دولة متوازنة إلى حد كبير، وإصلاحات هيكلية عديدة، منها تقليل الاعتماد على النفط الذي ظل فترات طويلة يمثل الحصة الأكبر من الصادرات والإيرادات الحكومية، وزيادة مساهمات القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي والصادرات والإيرادات الضريبية ونسب العمالة، اندلع الصراع فانكمش الاقتصاد بشدة وبصورة مفاجئة، وتدهورت مؤشرات الاقتصاد الكلي بسرعة هائلة، مما أدى إلى خسارة الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من النصف مقارنة بما كان عليه قبل 2011.
وتفاقمت الأوضاع الاقتصادية بالصدمات الخارجية مثل الأزمة المصرفية في لبنان، التي قيدت الوصول إلى احتياطات النقد الأجنبي، وجائحة كورونا والعقوبات الدولية، وزلزال عام 2023، والصراعات الإقليمية، لا سيما في لبنان وغزة.
وعلى رغم انخفاض حدة الصراع منذ عام 2018، فإن سوريا ظلت تصارع من أجل التعافي الاقتصادي، إلى أن سقط النظام في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
يشار إلى أنه بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي كانت الليرة السورية قد فقدت نحو 99.7 في المئة من قيمتها، إذ وصل سعر الصرف 14 ألف ليرة لكل دولار أميركي، مقارنة بـ50 ليرة للدولار عام 2010. وبعد سقوط النظام في نهاية العام الماضي، أظهرت الليرة علامات أولية للتعافي، مدفوعة بعاملين: تدفق العملات الصعبة من الخارج عبر السوريين العائدين، وتقييد السيولة في البنوك، مما حد من عمليات السحب النقدي.
يشار إلى أن القروض الخارجية ظلت ضئيلة طوال فترة الصراع، لكن هذا يعود إلى العقوبات الدولية والعزلة الدبلوماسية التي عرقلت الوصول إلى سبل التمويل والإقراض الأجنبي. وظلت سوريا طوال سنوات الصراع، وحتى سقوط النظام في عزلة اقتصادية عميقة اتسمت بتراجع المعاملات التجارية والاستبعاد من النظام المصرفي الدولي والاعتماد الكبير على الاقتراض المحلي.
الصورة الكاملة لسنوات الصراع في سوريا لا تقتصر فقط على التضخم والفقر والغلاء والبطالة ومحدودية الفرص الاقتصادية والبنى التحتية المدمرة والعزلة الاقتصادية والليرة المغدورة وعودة اللاجئين أو بقائهم في الدول المستضيفة. الصورة لا تكتمل إلا بإضافة المكون الاجتماعي والأثر النفسي للصراع على سوريا.
الآثار الاجتماعية للصراع
المستويات غير المسبوقة من البطالة والتضخم والفقر وانعدام الأمن الغذائي لا تحتاج فقط إلى كتب الماليات والموازنات وخبراء الاقتصاد والتمويل لفهمها وشرحها، بل تحتاج إلى علماء اجتماع ونفس لتغطية جوانبها الإنسانية.
أوضاع سوريا الاقتصادية بفعل الصراع أدت إلى تفاقم هشاشة الأسر وتعميق أزمة الرفاه الاجتماعي. سنوات الصراع لم تسفر عن خسارة رأس المال البشري بسبب الموت والإعاقة والنزوح فحسب، لكن جراء الانخفاض الحاد في فرص التعليم والتدريب، وهو ما سيظل ملقياً بظلاله على سوريا عقوداً مقبلة.
ملايين من الشباب السوري ضاعوا أو تقلصت فرص التحاقهم بسوق العمل بمستويات دخل معقولة، ومن ثم ضياع آمالهم في مستوى معيشي لائق، وهو ما يعني آثاراً نفسية واجتماعية وخيمة. طول أمد الصراع في سوريا فاقم تحديات التعافي الاقتصادي والاجتماعي والنفسي بصورة بالغة. وهذا يعني أن تحقيق الاستقرار الاقتصادي، ومن ثم الاجتماعي، بات عملية بالغة التعقيد والكلفة.
ويشير التقرير إلى أن ما يزيد من تعقيد جهود الإنعاش الحاجة الماسة، ليس فقط إلى معالجة الأمور الاقتصادية والمادية وإعادة الإعمار، لكن معالجة أمور مثل التماسك الاجتماعي والحوكمة.
الآثار الاجتماعية والنفسية لتفاقم الفقر والفقر المدقع والفقر متعدد الأبعاد وغياب أو نقص الخدمات الصحية والتعليمية ومياه الشرب والصرف الصحي، التي ضربت نصف السوريين تقريباً، بالغة الخطورة. وتفاقم المعاناة في ثلاث محافظات بصورة أكبر هي: حلب وإدلب وريف دمشق، وهي المحافظات التي عانت أعنف المعارك، سواء البرية أو الجوية، طوال سنوات الصراع الـ14، تضع منظومة العدالة تحت المجهر.
وبصورة عامة فإن تراجع دخول ملايين الأسر أو انقطاعها كلية أدى إلى ارتفاع معدلات التسرب من المدارس، إذ لم تعد هذه الأسر قادرة على تحمل كلفة تعليم أبنائها، ولم يعد أمامها خيار سوى إرسال الصغار لسوق العمل. من جهة أخرى تدهورت جودة التعليم بسبب نقص التمويل والمعلمين الذين هاجر كثر منهم. وهذا يعني أن في سوريا جيلاً كاملاً إما يعاني الأمية أو تدهور مستوى التعليم بصورة خطرة.
وفي القلب من التسرب من التعليم تبزغ مشكلات ضربت المجتمع السوري طوال العقد والنصف الماضيين، أبرزها عمالة الأطفال والزواج المبكر والتجنيد القسري، وترسيخ الفقر وتوارثه غبر الأجيال، مع تعميق الفروق الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية بين السوريين، لا سيما أن الأسر الأكثر ثراءً، غادرت سوريا بحثاً عن الأمن والسلامة، وكذلك لتأمين تعليم أفضل لصغارها في سنوات الصراع، وهو ما سيؤصل لفروق شاسعة بين فئات المجتمع، وعواقب اجتماعية خطرة.
أما المشكلات غير المرئية فهي الاضطرابات النفسية والسلوكية المتفاقمة لدى الصغار ومعاناتهم القلق والاكتئاب وفقدان الأمل. تدهور آخر لحق بالأمن الغذائي. ارتفعت معدلات سوء التغذية بصورة كبيرة، لا سيما بين الأطفال، وأصبحوا أكثر عرضة للإصابة بالأمراض. وفي ظل تدهور وغياب الخدمات العلاجية والصحية أصبح الأمر بالغ السوء.
الأزمات المتشابكة أثرت سلباً وبصورة كبيرة في التماسك الاجتماعي. الفقر والنزوح والقلق والخوف أدت إلى تفكك العائلات وفرار كثر من الشباب خارج سوريا بحثاً عن عمل وحياة. وهذا أدى إلى فقدان عديد من المهارات والموارد البشرية، مما يزيد من تعقيد عملية التعافي.
وعودة إلى الأرقام، حيث فقدت 3 ملايين وظيفة، ووصلت نسبة البطالة عام 2022 بين الشباب إلى 60 في المئة، وتضاعفت البطالة بين النساء اللائي كن يعانين عدم المساواة في فرص سوق العمل أصلاً عام 2010.
ويسلط التقرير الضوء على ارتفاع معدلات الجريمة، وهي إحدى نتائج تفشي الفقر، إذ يلجأ عديد من الأفراد إلى الأنشطة غير المشروعة من أجل البقاء. كما تصاعد العنف المنزلي، والجريمة المنظمة مع تفاقم عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
القطاع الصحي تأثر كثيراً. ويشير التقرير إلى أن غالب السوريين لم يعودوا قادرين عل تحمل كلفة الرعاية الطبية، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض. وأفاد تقرير صادر عن البنك الدولي عام 2016 بأن العدد الأكبر من السوريين ربما فقدوا حياتهم نتيجة انهيار نظام الرعاية الصحية ونقص سبل العلاج من الأمراض، أكثر من العنف المرتبط بالصراع بصورة مباشرة.
الإنفاق على الصحة العامة توقف عند نسبة واحد في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بعد الصراع. ووصل الأمر إلى درجة أن سوريا تنفق على الصحة العامة أقل مما ينفق اليمن، الدولة المصنفة في ذيل مؤشر التنمية البشرية العالمية.
قبل اندلاع الصراع كان لدى سوريا نظام دعم اجتماعي قوي نسبياً يوفر الإعانات الضرورية والسلع والخدمات للأكثر احتياجاً. اندلع الصراع فتأثر الدعم الاجتماعي كثيراً، واتضحت الآثار بصورة واضحة على الفئات الأضعف مثل الأشد فقراً والمسنين والنساء والأسر التي تعولها نساء والمعاقين وأولئك الذين فقدوا أطرافهم بسبب الحرب.
بين مليوني سوري ظلوا مسجلين على قوائم برامج الدعم أو الأمان الاجتماعي بين عامي 2010 و2022 كان 750 ألف شخص فقط يحصلون على الدعم أو معاشات الحماية الاجتماعية، وهو ما عكس قدرة موازنة الدولة على دعم أولئك. وانتقل هؤلاء من مربع الضعف إلى الضعف الشديد.
على رغم كل ما سبق يرى برنامج الأمم المتحدة نافذة أمل على مستقبل التعافي. مساعد مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومدير المكتب الإقليمي للدول العربية عبدالله الدردري قال إن مستقبل سوريا يعتمد على نهج قوي للتعافي التنموي، وإن هذا يتطلب استراتيجية شاملة تعالج إصلاح الحكم والاستقرار الاقتصادي وإعادة بناء البنية التحتية، مضيفاً أن تنفيذ الإصلاحات بصورة مترابطة تساعد المنظمات الأممية على مساعدة سوريا لتستعيد سيطرتها على المستقبل وتقليل اعتمادها على المساعدات الخارجية. وقال إن الوصول إلى مستويات النمو المرجوة يتطلب استثمارات اقتصادية بقيمة 36 مليار دولار في 10 سنوات باستثناء قطاع الإسكان، فضلاً عن توفير الحماية الاجتماعية، لا سيما أن 90 في المئة من السكان يعيشون في فقر، مشدداً على ضرورة إعادة تنشيط القطاع الإنتاجي في بلد كان منتجاً ومكتفياً ذاتياً من الغذاء وغالب المنتجات الاستهلاكية. ولفت الدردري إلى ضرورة النظر في العقوبات المفروضة على سوريا، وذلك لتيسير عملية التعافي.
متى يتحقق التعافي؟
الجميع يتساءل عن وقت ستستغرقه عملية التعافي في سوريا. التقرير يجيب بوجود ثلاثة سيناريوهات محتملة. الأول هو “سيناريو الوضع الراهن”. إذا استمرت سوريا في معدل النمو الاقتصادي المتواضع الحالي، والمتوقف عند 1.3 في المئة سنوياً بين عامي 2018 و2024، فإن هذا يعني أن الناتج المحلي الإجمالي لن يعود إلى مستوى عام 2010 حتى عام 2080.
وهذا يسلط الضوء على حجم التحديات المقبلة والحاجة الملحة إلى سياسات تعمل على تسريع النمو وجذب الاستثمار وإعادة البنى التحتية والصناعات الأساسية، وذلك لتسريع الجدول الزمني للتعافي.
أما السيناريو الثاني فهو استعادة مستوى الناتج المحلي في سوريا بعد الصراع. ففي حال كان الهدف ليس فقط إعادة الاقتصاد السوري إلى مستواه عام 2010، لكن أيضاً الوصول إلى الناتج المحلي الإجمالي لسوريا لو لم يكن الصراع قد حدث، فإن معدل النمو المطلوب سيكون مرتفعاً جداً. وبصورة نظرية كاملة، فإن تحقيق ما فقدته سوريا على مدار سنوات الصراع في خلال عقد كامل، أي بحلول عام 2035، يتطلب نسبة نمو سنوي 21.6 في المئة.
هذه الإمكانات الاقتصادية التي فقدت على مدار أكثر من عقد كامل بحلول عام 2035، يعني تحقيق معدل نمو سنوي قدره 21.6 في المئة. أما إذا بلغت نسبة النمو السنوي 10.3 في المئة، فسيستغرق التعافي الكامل 20 عاماً.
السيناريو الثالث والأخير، الذي يعده التقرير الأكثر واقعية هو أن ينمو الاقتصاد السوري بمعمل نمو قدره 7.6 في المئة، وفي هذه الحال سيعود إلى ما كان عليه عام 2010 في غضون 10 أعوام. المشكلة تكمن في أن هذا السيناريو لا يأخذ في الاعتبار الخسائر الإضافية التي لحقت بالاقتصاد جراء أعوام الحرب.
السيناريوهات الثلاثة توضح حجم التحدي الذي يواجه التعافي، وهو التحدي الذي يبلغ أقصاه بالنظر إلى عملية إعادة الإعمار. وتفعيل أي من هذه السيناريوهات يعتمد على عوامل عدة حاسمة، أبرزها العودة المحتملة لـ6 ملايين لاجئ، وهو ما سيزيد الطلب على السلع والخدمات الشحيحة، معدل النمو السكاني البالغ 2.4 في المئة والحاجة إلى استثمارات هائلة في البنى التحتية والخدمات الإنتاجية لاستيعاب هذا التوسع الديموغرافي، ومهمة إعادة بناء مؤسسات الدولة التي أصبحت شديدة الضعف جراء الصراع والفساد، والحاجة الماسة إلى عقد اجتماعي جديد يستعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها.
أبرز ما خلص إليه التقرير هو أن التعافي الاقتصادي لا يقتصر على إعادة البناء الاقتصادي، بل يشكل إعادة التمساك الوطني والاجتماعي، وتدشين نظام حكم ديمقراطي يخضع للمساءلة، والقائم على قواعد معروفة ومتفق عليها من الجميع عصب عملية إعادة البناء.
بمعنى آخر، عملية إعادة البناء “الناعمة”، حيث الحوكمة والمصالحة والتماسك الاجتماعي، يجب أن تكون مصاحبة لعملية التعافي “الصلبة” والصعبة، حيث إعادة بناء البنى التحتية وإحياء الاقتصاد. فشل إحداهما يعرقل الأخرى.
المصدر: اندبندنت عربية