إياد الجعفري
موقع تلفزيون سوريا:11/3/2024
من بين الحيثيات التي تضمنتها مقابلة رأس النظام السوري، بشار الأسد، مع الصحفي الروسي، فلاديمير سولوفيوف، قبل نحو أسبوع، تلك الركيزة الجديدة للبروباغندا الخاصة بنظامه، والتي دأب الأسد على الترويج لها في مناسبات مختلفة منذ العام 2020، متناغماً في ذلك مع حلفائه الإقليميين والدوليين، وبصورة خاصة، روسيا، و”قيصرها”، فلاديمير بوتين.
يقول الأسد في رده على أحد أسئلة سولوفيوف، ما مفاده أن إحدى أدوات “حرب” الغرب ضد دولٍ كـ روسيا، ما يُعرف بـ “الليبرالية الحديثة”، التي تحدث عنها بوتين، أكثر من مرة، مضيفاً: “الليبرالية الحديثة ليست فقط قضية أخلاقية، هي أبعد من ذلك، هي تستهدف تفكيك بنية المجتمع، فإذا كانت العائلة في روسيا سليمة، فسيكون كل الوطن سليماً، ولكن إذا فككنا هذه العائلة فمن الصعب أن يبقى الوطن سليماً”.
ولا نعرف إن كان الأسد يُدرك الفرق بين الليبرالية الجديدة (The new liberalism)، التي تركّز على قضية العدالة الاجتماعية، وتؤيد تدخل الدولة بهدف خلق فرص متساوية للأفراد عبر تعزيز الخدمات والرعاية الاجتماعية، وتعمل على التوفيق بين حقوق الفرد، وبين الانتماء للجماعة (المجتمع)، وبين الـ Neoliberalism، أي النيوليبرالية، التي تمثّل ارتداداً إلى أفكار الليبرالية الكلاسيكية على صعيد السياسات الاقتصادية، باتجاه الحدّ من دور الدولة وتعزيز دور القطاع الخاص وتقليص القطاع العام ودعم حرية السوق، فيما تدفع على صعيد السياسات الاجتماعية، نحو المزيد من الحريات الفردية المُصانة بالقوانين، والحد من اللجم الاجتماعي لتلك الحريات.
ما نعرفه فقط، أن الأسد يطبّق “النيوليبرالية” بأبشع صورها اقتصادياً، في سوريا، في الوقت ذاته، الذي يرفع فيه شعار معاداتها من الناحية “الأخلاقية”. ويُوغل في ذلك النفاق وتلك الازدواجية، عبر التركيز على خطابٍ يستهدف استمالة الجانب المحافظ في المجتمع السوري، والذي يشكّل، بطبيعة الحال، الأغلبية، في الوقت ذاته، الذي يُعمل فيه “سكين” القتل الاقتصادي لكل أطياف هذا المجتمع، عبر واحدة من أبشع نماذج “الرأسمالية المتوحشة”.
واستمد الأسد ذاك العداء “الخِطاباتي” لـ “النيوليبرالية” من معلمه، فلاديمير بوتين، الذي بدأ العزف على هذا الوتر، منذ تفاقم صراعه مع الغرب إثر احتلاله لشبه جزيرة القرم، عام 2014. وكانت من أبرز تجليات بروباغندا بوتين، بهذا الصدد، حديثه لصحيفة “فايننشال تايمز” على هامش قمة مجموعة العشرين في مدينة أوساكا اليابانية عام 2019، حينما شن هجوماً لاذعاً على الليبرالية، معتبراً أنها فكرة عفا عليها الزمن، وباتت تتناقض مع مصالح الغالبية العظمى من الناس، حسب وصفه. وانتقد بوتين، يومها، قرار المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بفتح أبواب ألمانيا أمام مليون مهاجر، واصفاً إياه بأنه “خطأ جسيم”، وأثنى على سياسات الحزم تجاه المهاجرين، التي كان ينتهجها الرئيس الأميركي، يومها، دونالد ترامب. وقال بوتين بشعبويته المعتادة، التي تتلاقى مع شعبوية ترامب أيضاً، إن فكرة الليبرالية “تفترض أن المهاجرين يمكنهم القتل والسلب والاغتصاب دون حساب، لأنه ينبغي حماية حقوقهم كمهاجرين”. كما أشار إلى “حرية مثليي الجنس والتوجه الجنسي”، التي تُفرض على غالبية غير راغبة في ذلك، وفق وصفه.
كان من أجمل الردود على تصريحات بوتين، تعليق رئيس الاتحاد الأوروبي حينها، دونالد توسك، الذي قال “ما أعتبر أنه عفا عنه الزمن هو التسلط وعبادة الشخص وحكم الأقلية، حتى لو أن ذلك قد يبدو أحياناً مجدياً”.
ومن المعروف أن بوتين انقلب على الأفكار الليبرالية التي اعتمدها في بداية حكمه لروسيا، بعيد العام 2000، ولاقى تزايد تأييد الكنيسة الأرثوذكسية في بلاده، بسن قوانين محافظة أكثر، وصولاً إلى التأسيس لحالة تحالف بينه وبين الكنيسة، كركيزة لحكمه الممتد لنحو ربع قرن، والقائم على بروباغندا “روسيا القوية”، والمعادية للغرب المتآمر عليها.
وحينما كان بوتين يتشدق بتصريحات العداء لليبرالية الغربية، في مطلع صيف العام 2019، كانت معظم النخبة المقرّبة منه، والمسؤولين الفاعلين فيها، يمتلكون عقارات واستثمارات في دول الغرب، ويدرس أبنائهم في جامعات ذاك الغرب. قبل أن يدفع الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، دول الغرب، إلى الحجز على ممتلكات واستثمارات “الأوليغارشية” الروسية، والتي اتضح أنها بعشرات مليارات الدولارات.
بمثل ذلك النفاق، انتهج الأسد نهجاً مماثلاً في العداء “الخِطاباتي” لليبرالية الغربية في نسختها الراهنة. ووضع الأسد الأساس لتلك الركيزة، في حديثه التنظيري المطوّل في العام 2020، أمام تجمعٍ كبير لرجال الدين الموالين له، في جامع العثمان بدمشق. يومها قلّل الأسد من جدّية التحديات التي تواجه السوريين على الصعيد المعيشي، معطياً الأولوية للتحديات العقائدية والفكرية، بوصفها الأكثر ديمومة وتأثيراً، وبالتالي، الأكثر خطورة. وبنبرة نفاق ديني غير مسبوق من جانبه، لاقت يومها سخرية واسعة في أوساط السوريين، شدّد الأسد على التهديد الذي يستهدف بنية المجتمع بالمعنى الاجتماعي والعقائدي.
وكرّر الأسد استخدام ذات البروباغندا، في خطابه أمام القمة العربية في السعودية في أيار/مايو 2023، ليحذّر من خطر الليبرالية الحديثة، “التي تستهدف الانتماءات الفطرية للإنسان وتجرّده من أخلاقه وهويته”. واستخدم ذات البروباغندا، ليسوّق نفسه في الصين، في مقابلة أجراها مع تلفزيون الصين المركزي، خلال زيارته إلى هناك، في خريف العام الماضي، حينما اعتبر أن “الحرب” ما تزال مستمرة على سوريا، عبر نوعين من الخطر، هما الليبرالية الحديثة الغربية التي نشأت في أميركا، وخطر التطرف.
وعزفت عقيلة الأسد، أسماء، على نفس المنوال، حينما هاجمت “الليبرالية الحديثة” في مقابلة أجرتها مع قناة “روسيا اليوم”، خلال زيارتها لموسكو لحضور الاحتفال بتخرج ابنها حافظ من إحدى الجامعات الروسية. وكررت ذلك، في العاصمة الصينية بكين، في خريف العام الماضي، حينما تحدثت أمام عدد من طلاب جامعة الدراسات الأجنبية، في معرض إدانتها لـ “العبث بالجنس البشري وتهجينه وخلق جنس ثالث منه”، بوصفه جوهر “الليبرالية الحديثة من الجنوح الأخلاقي إلى فرض مفاهيم شاذة ومنحرفة عن صورة الأسرة السليمة بما يخالف الفطرة البشرية”.
ومن الواضح أن هجوم نظام الأسد يستهدف تلك النسخة من الليبرالية التي تُعرف اليوم بـ “النيوليبرالية”. ورغم أن تلك النسخة الأحدث من الليبرالية ليست المهيمنة في كامل الغرب، من الجانب الاقتصادي تحديداً، إلا أنها تتلاقى مع الاتجاه الأكثر ليبرالية من الناحية الاجتماعية، والذي يقوم على المزيد من الحريات الفردية، وتحصينها ضد طغيان أو ضغط المجتمع، وبرعاية من الدولة نفسها. وهي الحيثية الأكثر إثارةً للاستفزاز بالنسبة للشريحة المحافظة الكبيرة في مجتمعاتنا، وكذلك في المجتمع الروسي أيضاً. وفي الحالة السورية اليوم، وبغياب أي ركيزة متينة لـ “شرعية” مُبرّرة لنظام الأسد، يبدو التأسيس للعداء لليبرالية الغربية، ببعدها الأخلاقي تحديداً، هي الركيزة المأمولة من جانب النظام ومنظّريه. ومع تهاوي أثر خطاب “المقاومة والممانعة”، في الشارع السوري، بحيث بات مثيراً للسخرية لدى أكثر البيئات الاجتماعية ولاءً للنظام، بات الأخير بحاجة إلى خطاب –بروباغندا بديلة. وكما كان العداء لإسرائيل، على مدار تاريخ حكم نظام الأسد، منذ عهد الأب، مجرد عداء “خِطاباتي”، لا مردود واقعي له، على حياة السوريين، ومصير أراضيهم المحتلة (الجولان)، كذلك، يؤسس النظام الآن، لعداء “خطاباتي”، يضرب على وتر مخاوف المحافظين في المجتمع السوري، من اختراق قِيمي غربي يهدد الموروث الديني والاجتماعي، ويهدّد تماسك الأسرة، ويخلق انهياراً “أخلاقياً”.
أما وجه النفاق في هذا العداء “الخطاباتي” من جانب النظام، هو أن النظام ذاته، هو من يتسبب بالفعل، بتهديد تماسك الأسرة، عبر واقع “الإفقار”، الذي يؤسسه في حياة السوريين. فالفقر، كما هو معلوم، من أبرز أسباب الانحراف الأخلاقي، وتشظي بنيان المجتمع، وتراجع القِيم. وفيما يُدين الأسد ما يسميها بـ “الرأسمالية المتوحشة” في الغرب، يطبّق، عن وعيٍ أو غير وعي، أفكار واحدٍ من أبرز منظّري هذه “الرأسمالية المتوحشة”، بنسختها النيوليبرالية، وهو ميلتون فريدمان. وهي الأفكار التي تقول باستغلال الكوارث الطبيعية أو الحروب، لإنجاز تحولات اقتصادية “نيوليبرالية”، ما كان يمكن للشعوب المستهدفة أن تقبل بها في ظروف مختلفة. وهو ما أسمته، الصحفية الكندية الشهيرة، نعومي كلاين، بـ “عقيدة الصدمة”. وهي العقيدة الاقتصادية التي يطبقها الأسد ونخبته الحاكمة اليوم، وبتسارع كبير، في سوريا، من خلال مشاريع من قبيل “ماروتا سيتي”، و”باسيليا سيتي”، القائمة على استبدال الحواضن الاجتماعية المناوئة، وسلب أملاكها، لصالح متمولين موالين له. إلى جانب التراجع التدريجي عن الدعم الاجتماعي للطبقات الأضعف اقتصادياً، وتحويله إلى سمسرة مُربحة، عبر البطاقة “الذكية”، الصادرة عن شركة مملوكة لأقرباء زوجة الأسد.
وفيما يتشدق الأسد بحماية أخلاق المجتمع وقِيمه وموروثه، والخلية الأولى فيه، الأسرة، يُعمل “سكينه” لإفقار هذا المجتمع، لصالح ثلة محدودة للغاية من أثرياء الحرب الدائرين في فلك عائلته الحاكمة. وفي الوقت، الذي يقلل فيه الأسد من قيمة التحدّي المعيشي الذي يواجه السوريين، يتسبب في تعميق هذا التحدّي، ويقدّم نفسه، وصياً على أخلاق السوريين وقِيمهم، وهو ذاته، الذي انتهكها بأبشع الصور، في حربه المريرة ضد الغالبية الثائرة عليه، في العقدية الفائتة.