لم يعد الزواج حلاً مثالياً تُتوّج به علاقات الحب في سوريا؛ إذ إن تكاليف الزواج الباهظة أصبحت عبئاً حقيقياً لا يستطيع المقبلون على الزواج تحمله، بل قد يضطرون إلى الاستدانة لإتمامه أو حتى الاستغناء عن كثير من التفاصيل المتعلقة بالأعراس لأجل التكاليف وتخفيف الأعباء.
بين المحاكمات الأخلاقية والتمرد
أفرزت الحرب في سوريا على مدى سنوات طويلة؛ حالة من التمرد على الخطوط الحمر التي يفرضها الدين والمجتمع على حدٍّ سواء، وبين منادٍ بثورة من قلب المجتمع وعليه، كتلك التي قامت رداً على ظلم النظام وتعسفيته، وآخر ينادي بالحفاظ على التقاليد والإطار العام الذي يحكم المجتمعات الشرقية والإسلامية، يتشتت الشباب السوريون في حالة أقرب للفصام ليس من المستبعد أن تنتهي بالنفي الاجتماعي أو العزلة أو الاكتئاب.
يحاول بعض الشباب تعزيز مفاهيم مستوردة من الحركات التحررية الغربية، كتلك التي تدعو إلى احترام حرية الميول والاعتراف بالزواج المدني ورفض الإنجاب وإهمال الجانب الديني. تقول المعالجة النفسية (رزان.ك) وهي مديرة حالة في إحدى الجمعيات المعنية بالنساء المعنفات في ريف دمشق: “يظهر التمرد على الأسرة والمجتمع كصيرورة طبيعية للشباب الذين كبروا خلال سنوات الحرب وشاهدوا الدموية والعنف، مع أن حركات تمردهم على العنف والتعسف نفسها لا تخلو من العنف والاعتباطية؛ وفق مبدأ: مواجهة القوة بالقوة، إلى جانب الانفتاح الرقمي الذي سهّل تلقّف الأفكار الغربية ومحاولة تقليدها أو نشرها بين أقرانهم”.
وأوضحت (رزان) لموقع تلفزيون سوريا، أن مآلات هذا التمرد قد تكون كارثية النتائج على الشاب أو الشابة، إذ تنتهي كثير من الحالات بالقتل من قبل الأهل أو الملاحقة القانونية أو الإجهاض أو حتى الاضطرابات النفسية والانتحار.
وفي الوقت الذي يرى بعضهم أن الفقر والكبت يحتّمان على الناس التصرف بخلاف تربيتهم أو مبادئهم “الضرورات تبيح المحظورات”، فإنّ الفئة الكبرى من السوريين لا يزالون يرفضون هذا الشكل من التمرد ولا يتوانون في عقد المحاكمات الأخلاقية عندما يعرفون بقصص بعض الشباب والشابات، في حين يلزم قسم آخر الحياد ويكتفون بدعاء: “الله يهديهم”.
الفقر أم الاختلاف الطائفي؟
لا يقتصر عزوف الشباب السوريين عن الزواج على ضيق الأحوال المادية والخوف من تحمل مسؤولية “تكوين الأسرة”، بل إنّ العادات والتقاليد المتفاوتة إلى جانب الاختلاف المذهبي أو الديني قد يكونان سبباً مهماً لمنعهم من الزواج؛ ولا تعدّ ظاهرة “المساكنة” مستحدثة في المجتمع السوري لكن ما استجد بعد سنوات الحرب السورية هو تفاقم هذه الظاهرة وتحوّلها إلى “حل” يقتنع به بعض الشبان ولا يتوانون في إعلانه في حالات قليلة.
في لقاء خاص لموقع تلفزيون سوريا مع الشابة (رنا- اسم مستعار)، أخبرتنا عن علاقتها بأحد زملائها في الجامعة والذي ينتمي إلى طائفة مختلفة؛ الأمر الذي يتعارض تماماً مع عادات وتقاليد أهلها، تقول رنا: “ينتمي الشاب الذي أحبه إلى الطائفة العلوية بينما أنتمي إلى الطائفة الدرزية، وقد جئت إلى دمشق بهدف الدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية بعد الانتهاء من البكالوريا، وتعرفت إلى (حسن) في المعهد وبدأت قصتنا منذ السنة الأولى”. وقد حاولت (رنا) التلميح لأهلها عن كونها تحب شاباً من انتماء مختلف على الرغم من يقينها برأي أهلها الرافض تماماً للفكرة، فكانت النتيجة أن هددها أخوها بإجبارها على ترك المعهد وإرغامها على العودة إلى قريتها صلخد في ريف السويداء.
اندفعت رنا وحسن تحت هذه الضغوط إلى أخذ بيت مشترك في منطقة جرمانا في دمشق (غرفة واحدة مفروشة ومنتفعات) والعيش حياةً مشتركة “دون قيود الزواج وتسلط الأهل والمجتمع” على حسب قولها.
تواطؤ من المؤجّرين
لم يتوقف طمع أصحاب البيوت في دمشق على رفع قيمة الإيجارات إلى الحد الذي يثقل كاهل الناس، بل أصبح بعضهم على استعداد لتأجير بيوتهم من دون ضوابط أخلاقية أو شروط ما دام المستأجر يدفع الرقم الذي يطلبه صاحب المنزل من دون اعتراض أو تأخير، ويلتزم بالحفاظ على المنزل دون تخريب أو أعطال؛ الأمر الذي أدى إلى تحويل بعض البيوت إلى مراكز يتم فيها فعل أي شيء من دون علم صاحب المنزل نفسه أو حتى بعلمه لكن مع غضّ النظر، ولا يقتصر الأمر على العيش مساكنةً في هذه البيوت المفتوحة، بل إقامة الحفلات وتداول “الحشيش”… وغير ذلك. ويبقى الأمر سراً وقيد الكتمان ما لم ينتبه الجيران أو يتقدم أحدهم بشكوى.
تنتشر في مناطق باب توما، باب شرقي، الدويلعة، جرمانا… مئات البيوت المشتركة التي يعيش فيها شبان وشابات من دون الحاجة إلى “عقد زواج” أو وجود “صلة قرابة” كشرط للاستئجار كالذي كان يُفرض سابقاً من قبل أصحاب البيوت. في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، يخبرنا (أبو زاهر) الذي يملك بيتاً يؤجره للطلاب والطالبات في منطقة القيمرية وسط دمشق: “لا يهمني ماذا يفعل الشاب أو الشابة في غرفهم ولا تهمني العلاقات بينهم، يهمني فقط ألا يفتعلوا المشاكل داخل البيت أو مع الجيران، ولا يتأخروا في دفع الإيجار، أنا لا أريد وجع رأس!”.
وعادةً ما يتم تأجير الغرف وحتى البيوت دون عقود إيجار نظراً لكون تكاليف تثبيت عقود الإيجار ستكون تكاليف إضافية على قيمة الإيجار المدفوعة؛ إذ تتراوح رسوم تثبيت عقود الإيجار بين 49 و مئة ألف ليرة سورية ويكتفي المؤجّر بأخذ صورة هوية للشخص المستأجر وبعض البيانات عنه.
ويعد غلاء الإيجارات سبباً إضافياً لازدياد ظاهرة المساكنة من مبدأ “تقاسم الإيجار” والمصروف اليومي، فقد وصلت الإيجارات في منطقتي باب توما وباب شرقي بالنسبة للغرفة المفروشة إلى 600 ألف ليرة سورية شهرياً بالحد الأدنى، وقد تصل إلى مليون ونصف في منطقة المزة والشعلان. أما البيوت فتختلف إيجاراتها بحسب المنطقة وكون البيت مفروشاً أم لا، ولا يقل إيجار البيت المفروش عن مليون ونصف ليرة سورية بالحد الأدنى.
هرباً من مشكلات الحياة وصعوباتها:
تواجه الشابات في المجتمع السوري مخاوف عديدة في حياتهن الجامعية أو في مكان العمل أو حتى في المواقف اليومية، وتظهر الحاجة إلى وجود “ظل” للحماية كضرورة ملحة تحتمها صعوبات الحياة، ولا سيما بالنسبة إلى الفتيات المستقلات معيشياً عن أهلهن أو اللواتي اضطررن إلى السفر لمحافظة أخرى من أجل الدراسة أو العمل، فضلاً عن العدد الكبير من الفتيات اللواتي فقدن الأب والأخ خلال سنوات الحرب.
في حديثها لموقع تلفزيون سوريا، تخبرنا (سمر- اسم مستعار) عن كونها لم تفكر في العيش مع صديقها، قبل أن تتفاقم المشكلات في البيت المشترك الذي كانت تتقاسمه مع فتيات أخريات، تقول سمر: “ازدادت المشاكل في الفترة الأخيرة وتعرضت للسرقة داخل المنزل عدة مرات إلى جانب عدم ارتياحي مع الفتيات اللواتي يعشن معي، وقد حاولت البحث عن بديل مناسب لا يفوق قدرتي المادية لكن الإيجارات أصبحت غالية جداً ولا سيما بعدم وجود من يشاركني دفع الإيجار، وقد عرض عليّ صديقي الذي أعرفه من 6 سنوات أن أسكن معه لكن دون زواج فهو لا يرغب في القيود؛ فانتقلت إلى منزله منذ سنة ونصف وحتى الآن، وقد جاءت العلاقة بيننا كنتيجة للعيش معاً فأصحبنا كزوجين دون عقد زواج”.
أسباب يراها بعضهم منطقية:
وفي الوقت الذي يبرر بعض الشباب فكرة “المساكنة” تحت مسمى الحب دون قيود، أو يتحججون برفض المجتمع والاختلاف الديني، يراه آخرون “ضرورة حياتية” فرضتها الظروف بكل بساطة!.
لخصت الاختصاصية الاجتماعية (بديعة.ن) في حديثها لموقع تلفزيون سوريا، أسباب المساكنة بوصفها ظاهرة طارئة على المجتمع السوري في ثلاثة أسباب قد يجدها بعضهم ضرورية، في حين يجدها آخرون حُججا مبتدعة يُراد بها تدمير فكرة الأسرة وتغيير شكل المجتمع، تقول بديعة: “فرضت المساكنة نفسها على المجتمع السوري خلال سنوات الحرب بشكل أكبر نتيجة أسباب هي:
• الانفتاح الرقمي وما حمله من انتقال وتبادل للأفكار ولا سيما تلك التي تحمل طابع التمرد وتجذب المراهقين؛ مثل التمرد على المجتمع الذكوري، وترك التقاليد، والحرية الجنسية وحرية الميول، وحق تصرف الإنسان بجسده كما شاء، والحب بلا قواعد، واللا إنجابية.
• تدهور القيم الشرقية وغياب “الخطوط الحمر” لكون الشباب يعتبرونها غير ذات قيمة وبالية ولا سيما بعد المشكلات التي أورثتها الحرب التي كانت شماعةً لتبرير تمردهم وإثبات أفكارهم.
• العوائق أمام إتمام الزواج: كالظروف المادية القاسية للشاب، ومتطلبات الأهل التي قد تكون فوق القدرات المادية للشاب، والحاجة المادية للفتيات أو حتى الحاجة إلى الحماية أو السكن، إلى جانب الأسباب القديمة كاختلاف المذهب أو الدين أو القومية.
الزواج العرفي لدرء الوصم والملاحقة!
يلجأ بعض الشباب والشابات إلى المشايخ ولا سيما في المناطق الفقيرة في الأرياف من أجل إقامة “عقد زواج عرفي” وعلى الرغم من كون هذه العقود غير معترف بها قانونياً وإن كانت صحيحة شرعياً، إذ يحتاج عقد الزواج العرفي إلى تثبيت وتوثيق في المحكمة، إلا أنها تُقام في الخفاء ويقبلها قسم كبير من السوريين بوازع ديني؛ فهي تمنحهم الحماية “الأخلاقية” وتبرئ ضميرهم الديني؛ فإشهار العقد العرفي في وجه المعترضين يحمي الشاب والفتاة من تلويث السمعة أو الشعور بالوصم الاجتماعي والخطيئة الدينية. وعلى الرغم من امتناع عدد كبير من رجال الدين عن إتمام هذه العقود فإنّ بعضهم يراه حلاً جيداً ومنعاً لـ “وقوع الفاحشة والرذيلة”.
تزوجت خديجة النازحة إلى دمشق مؤخراً وفق عقد زواج عرفي بعد أن تعرفت إلى زوجها في أثناء النزوح خلال سنوات الحرب. وقد وثّقا ارتباطهما “عُرفياً” بعد أن عاشا معاً مُساكنةً تحت وطأة ظروف الحرب. فقدت خديجة جميع أفراد عائلتها بقصف النظام على قريتها بريف حمص. تقول خديجة: “التقيت بعمتي بعد سنة تقريباً من تهجيرنا من قريتنا وفقدان عائلتي، وحينذاك عرفتني إلى الشاب الذي أنقذني وعشت في بيته، فأخبرتني بضرورة مقابلة الشيخ وإيجاد حل “شرعي” قبل الاستمرار في العيش معاً، عندئذٍ أقام أحد الشيوخ زواجنا عُرفياً لكن بعد سنة ونصف قُتل زوجي برصاص جيش النظام وكنت حاملاً ولا أستطيع إعالة نفسي ولا أستطيع تثبيت الطفل قانونياً؛ فأجهضته”. تعمل خديجة الآن كجليسة للأطفال في البيوت في منطقة الروضة بدمشق.
رأي قانوني وآخر ديني:
لا تزال “المساكنة” موضوعاً شائكاً من الناحية القانونية والأخلاقية، إذ لا يوجد نص صريح في القانون السوري يحمل مسمى “المساكنة” أو معناها، إنما تُعتبر في بعض الحالات التي يتمّ فضحها أو تقديم شكوى عليها جُنحاً وإخلالاً بالآداب العامة. وعلى الرغم من إطلاق الناس مسميات أخرى عليها مثل: “الزنا” و”الدعارة؛ فإنّ المحامي (محمود.ك) أوضح لموقع تلفزيون سوريا أن هذه المسميات هي من قبيل الخلط والازدراء، بينما للقانون شروط محددة لاعتبار فعل ما “دعارة” أو “زنا”. يقول محمود: “ينص القانون السوري صراحةً على أن ممارسة الفتاة للجنس في بيت (خليلها) لا يعدّ دعارة، بل الدعارة هي الممارسة العشوائية مع عدة أشخاص بغية الحصول على مال وفي أماكن مشبوهة ومخصصة لهذه الغاية. أما الزنا فالمقصود به هو الخيانة الزوجية، أي ممارسة المتزوج أو المتزوجة للجنس بغير علم الطرف الآخر ودون عقد زواج مع الطرف الذي تمّ معه فعل الزنا”.
ويعاقب القانون السوري الزوجة الزانية بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين بينما يعاقب الزوج الزاني بالحبس من شهر إلى سنة. أما في العقاب على الشريك: فشريك الزوجة الزانية يعاقب بعقوبة الزانية نفسها فيما إذا كان متزوجاً أما إذا لم يكن متزوجاً فالحبس من شهر إلى سنة.
وفي الوقت الذي يبدو فيه القانون السوري مطّاطيّاً وغير واضح بمعظم نصوصه، تأتي التشريعات الدينية واضحة في حدودها، تقول المربية (خولة) وهي متخرجة في كلية الشريعة من جامعة دمشق ومربيّة للأطفال في أحد الجوامع في منطقة ركن الدين: “أصبحت هذه الأفكار منتشرة بكثرة والهدف منها تخريب عقول الشباب بحجة الظروف والتحرر، لكن الدين واضح في حكمه عليها فهي فاحشة ورذيلة، ولا مسمى آخر لها”.