من الآن، يمكن الرهان على أن دمشق فقدت مرتبتها الأولى بين المدن الأقل تكلفة للمعيشة، والتي سبق أن احتلتها على مدن العامين السابقين، وفق تقارير وحدة الدراسات الاقتصادية “إيكونوميست إنتلجنس”، التابعة لمجلة ” إيكونوميست” البريطانية، والتي تصدر عادةً، في خريف كل سنة. فالعاصمة السورية، التي يُقدّر متوسط دخل سكانها (في القطاعين العام والخاص) بنحو 35 دولاراً فقط، باتت تتفوق بأسعار الكثير من سلعها، على عواصم دول الجوار، بإقرار أكاديميين ونشطاء موالين للنظام ذاته.
وفي الأسبوع الفائت فقط، تفوقت دمشق بأسعار البنزين على عواصم كالقاهرة وتونس، وفق موقع “غلوبال بترول”، لتقفز من أرخص بلد عربي بسعر ليتر البنزين، في حزيران/يونيو الفائت، إلى الموقع الـ 11 عربياً، قبل أيام. كانت القفزة الأخيرة، بفضل قرار حكومة النظام الصادم، والذي رفع سعر ليتر البنزين المدعوم بنسبة 130%، فيما تم رفع سعر ليتر البنزين غير المدعوم بنسب تتراوح ما بين 12.5 و15%.
انعكس ذلك على معيشة السوريين، بصورة دراماتيكية، فقفزت أسعار المواد الغذائية ما بين 25 إلى 30%، وارتفعت أجور التاكسي بنسبة تصل إلى 60%، وتعقّدت أزمة المواصلات، بعد ازدياد الطلب على السرفيس.
لكن موجة الغضب التي عبّر عنها السوريون في وسائل التواصل الاجتماعي، لم تكن كافية لدفع مسؤولي النظام للابتعاد عن سياسة الاستغباء التي يتبعونها مع المواطن السوري، حينما يبررون قراراتهم.
إذ جرى الحديث عن أثر ارتفاع أسعار النفط في زيادة العجز بميزانية الدولة، في الوقت ذاته الذي انخفضت فيه أسعار النفط العالمية إلى مستويات قريبة من تلك التي كانت عندها، قبل بدء الحرب الروسية – الأوكرانية، الأمر الذي زاد من حدة الانتقادات الموجهة لمسؤولي الحكومة.
وتصدى خبراء اقتصاديون موالون، للتشكيك بصدقية الأرقام التي يدعيها المسؤولون حول تكلفة استيراد ليتر البنزين. ففيما تقول الحكومة إن ليتر البنزين يكلّفها 4000 ليرة سورية، ذهبت تقديرات إلى أن الكلفة الحقيقية له تتراوح ما بين 2500 إلى 3150 ليرة سورية، في أحسن الأحوال، مما يعني أن الحكومة تبيع البنزين غير المدعوم بأعلى من سعر التكلفة، بفارق لا يقل عن 850 ليرة سورية لليتر الواحد.
ومن بين التبريرات التقليدية التي ساقها مسؤولو الحكومة لرفع سعر البنزين، مرروا على استحياء، السبب الحقيقي المتعلق بسد العجز في الموازنة.
فالفريق الاقتصادي “الحاكم”، وبدلاً من أن يدخل في متاهات رفع الدعم الحكومي عن بعض الشرائح، كما حدث قبل أشهر، قرر الذهاب إلى هدفه مباشرة، عبر تقليص الفارق بين أسعار المواد المدعومة وبين أسعار تكلفتها، وطَرْحِ تلك المواد بأسعار غير مدعومة توازي أو تفوق سعر التكلفة.
وكما هو معلوم، فإن كميات المواد المدعومة شحيحة ولا تغطي حاجة الناس، فيضطرون للجوء إلى شراء تلك المواد بأسعار غير مدعومة.
وفي كل شهر تقريباً، تُفقد إحدى المواد من جميع مصادرها الرسمية (صالات السورية للتجارة في حالة السكر والرز، ومحطات الوقود في حالة البنزين والمازوت)، فيما تجد المادة ذاتها متاحة في السوق السوداء، بأسعار أعلى بكثير من السعر غير المدعوم المحدد من حكومة النظام.
وهكذا حدث مع البنزين غير المدعوم الذي فُقد تماماً من محطات الوقود، ليُتاح في السوق السوداء بأسعار ما بين 5 إلى 6 آلاف ليرة سورية، قبل أن يعلن النظام عن رفع السعر المدعوم وغير المدعوم للمادة، بذريعة توفيرها.
ذاك التكتيك المعروف، يوازيه آخر، إذ عادةً ما يُمهّد النظام لقفزات الأسعار الرسمية، من خلال “تسريبات” مُفتعلة في مواقع إعلامية مقرّبة من أجهزة استخباراته. وهو ما حدث مع مادة البنزين أيضاً، التي تم التنبؤ بارتفاع سعرها من خلال مواقع موالية، قبل صدور ذلك رسمياً، بأسابيع.
والآن، يمهّد النظام لارتفاعات أخرى، عبر تسريب نشره مؤخراً موقع “سيرياستيبس” الموالي، قال فيه إن لديه معلومات مؤكدة تشير إلى تحرير أسعار البنزين، قريباً، لتصبح خاضعة للسعر العالمي، ولتخرج تماماً من دائرة الدعم الحكومي.
وهو أمر متوقع بطبيعة الحال. فالزيادة الأخيرة في سعر البنزين، هي الثالثة هذا العام، لذا من المرجح أن تكون هناك زيادة رابعة بعد نحو ثلاثة أشهر. فحكومة النظام عازمة، منذ مطلع العام الجاري، على تقليص العجز في الموازنة، من جيوب السوريين، وبالرهان على حوالاتهم القادمة من خارج البلاد.
وفيما يعتمد المسؤولون هذه الاستراتيجية القائمة على تقليص الدعم الحكومي، بشكل تدريجي ومتسارع، وصولاً إلى إنهائه تماماً، يعيش السوريون ما قد يُعدّ أقسى موجة غلاء في تاريخهم، بالتزامن مع انهيار الليرة السورية إلى عتبة متدنية غير مسبوقة مقابل الدولار منذ نحو سنة وخمسة شهور، وسط تقديرات أولية بأن معدل التضخم منذ مطلع العام الجاري، وصل إلى نحو 162%.
وفيما تفقد دمشق، ترتيبها كأرخص عواصم العالم، لهذا العام، من المتوقع أن تحافظ على ترتيبها كأقل المدن ملاءمة للعيش على هذا الكوكب، وفق تقرير وحدة الاستخبارات الخاصة بمجلة “إنكونوميست”، كما ومن المتوقع أن تزداد معدلات الجريمة فيها، لتحافظ على موقعها الأول عربياً، كما في العام الفائت، وفق موقع “نامبو كرايم أندكس” المتخصص بمؤشرات الجريمة في العالم.
المصدر: صحيفة المدن