“الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون”؛ مقولةٌ تختصر ما بات عليه جزء من المجتمع السوري في هذه الأيام المريرة. لا يكاد يمرّ يوم من دون ورود خبر عن حادثة رمي طفل حديث الولادة بجانب حاوية قمامة أو أمام مسجد أو على باب أحد المنازل، ليس في دمشق فحسب، بل تمتد هذه الظاهرة لتشمل معظم المحافظات في سوريا، الواقعة منها تحت سيطرة الحكومة والواقعة خارجها.
لا يمكن القول عن ظاهرة رمي الأطفال حديثي الولادة إنها جديدة، بل هي قديمة ولكنها تزايدت هذه الأيام بين السوريين الذين شهدوا طوال عقد وبضع عقد من الزمن، على واحدة من أبشع صور المعاناة الإنسانية خلال حرب قضت على حاضرهم ومستقبلهم وآمالهم، لكن مهما تعددت الظروف أو تبدلت، فهل هذا يبرر للوالدين رمي فلذات أكبادهم مقابل آخرين يُمنّون النفس بأن يُرزقوا بطفل؟ سؤال معقد، فتلك امرأة تبحث عن رحم آخر بأي ثمن، وامرأة أخرى ترمي وليدها على ناصية الطريق.
الانتقام الزوجي
على درج أحد الأبنية في حي القنوات وسط دمشق، لم يتردد حسام البيروتي، في ترك أطفاله الثلاثة هناك ولم يكن يتعدى عمر أكبرهم الست سنوات. يبرر حسام فعلته بالقول: “المعيشة صعبة وصاحب البيت عم يغلي الأجار، كنت متخانق أنا وزوجتي وتركت هي الولاد عند أمي وطلعت من البيت، ما شفت بعيوني الضو، أخدت الولاد وحطيتهم بدرج بناية بالقنوات ورحت”.
هكذا يختصر حسام بكل بساطة قصته، ثم يستدرك قائلاً: “بس أنا ندمت، وكنت بظروف صعبة وما حدا حس فيي”. ربما خانت العبارات والكلمات حسام في التعبير عن مكنونات نفسه والظروف التي أدت به إلى رمي أطفاله الثلاثة إلى المجهول. أي قساوة يشهدها المجتمع؟ وكيف للظروف المعيشية الخانقة أن تجبر الوالد على فعل ينافي كل المعايير الإنسانية؟ هذه أسئلة مشروعة أيضاً.
تعلّق الدكتورة هدى مصطفى، أخصائية نفسية، على رمي حسام لأطفاله والظواهر المتعددة المماثلة لهذه الحالة والآخذة في الازدياد في سوريا، بأنه “لا يجوز أن يحمّل المجتمع عبء مسؤولية ما حدث للوالد وحده، هذا فضلاً عن تضافر أسباب المعاناة المعيشية والنفسية التي حدثت لحسام وأدت به إلى هذا الفعل”.
المعيشة صعبة وصاحب البيت عم يغلي الأجار، كنت متخانق أنا وزوجتي وتركت هي الولاد عند أمي وطلعت من البيت، ما شفت بعيوني الضو، أخدت الولاد وحطيتهم بدرج بناية بالقنوات ورحت
وتضيف: “عندما يمر الإنسان بظروف حياتية معينة مهما اختلفت هذه الظروف من شخص إلى آخر، فسوف يكون الفعل ورد الفعل خارجَين عن إرادته وتفكيره بغير قصد. شخصية حسام بالتأكيد تعاني من اضطرابات ومشكلات نفسية معيّنة ذهبت به إلى حيث لم يعد قادراً على اتخاذ أي قرار في حياته، ولا يعرف الصواب من الخطأ”.
الحلول موجودة
تشير مصطفى إلى أن “هناك حلولاً كثيرةً يجب اللجوء إليها كي لا يقع الوالدان في هذا الفعل، أبرزها طلب العون من الجمعيات الخيرية الأهلية العاملة في سوريا لتقديم المساعدة اللازمة للأهل؛ من تقديم التوعية النفسية والنصائح اللازمة لصحة الإنجاب وسلامته وتربية الأبناء لاحقاً، وذلك فضلاً عما تقدمه هذه الجمعيات من مساعدات عينية كالغذاء والملابس والدواء وما إلى ذلك من احتياجات أساسية. أما بالنسبة إلى تأمين سكن لائق لمن ليس لديه منزل، ولا يستطيع تحمّل كلفة الإيجارات الآخذة في الارتفاع، فهذه الجمعيات لا تؤمن المسكن على الإطلاق”.
يقول مصدر رسمي مطلع على ما فعله حسام، لرصيف22، إن “إدارة محافظة دمشق عملت على إحالتهم إلى مدرسة في قرى الأسد في منطقة الصبورة، وهي مخصصة للأطفال مجهولي الهوية والنسب، جنباً إلى جنب مع الأطفال الذين تم التخلي عنهم من قبل الوالدين، وهناك تتم رعايتهم بشتى المجالات الصحية والتعليمة والاجتماعية للوصول بهم إلى بر الأمان الذين فقدوه في كنف ذويهم”.
ويضيف: “تمّ جمع حسام وزوجته في مركز للإيواء والإغاثة في منطقة مشروع دمر في ريف دمشق، ريثما تتحسن حالته المادية ويصبح قادراً على تأمين سكن. المحافظة قدّمت له وظيفة عامل في مديرية الحدائق ومديرية النظافة وبالطبع الراتب لا يكفي لكي يعيل أسرةً بأكملها ولكنّهم يعملون جهدهم على تحسين ظروفه”.
الأرقام الغائبة
لا توجد إحصائيات دقيقة تمتلكها مؤسسات الحكومة لهذه الظاهرة خلال سنوات الحرب في البلاد، والأسباب متعددة منها تدمير البنى التحتية والمرافق والمؤسسات التابعة للمحافظات ووزارة الشؤون الاجتماعية في معظم المناطق التي طالتها الحرب.
يحرّم القانون السوري تبنّي الأطفال بما ينسجم مع الشرع الإسلامي تجنباً لتغيير الأنساب، لكنه يجيز ما يسمى بالرعاية أو الأسرة البديلة، حيث تستطيع الأسرة الراغبة برعاية طفل مجهول
ويبدو الأخطر من ذلك أن كل شيء في سوريا بات يدور في فلكه الخاص، لا قانون يعلو على الجميع لكن أصبح الجميع يتعالى عليه، ولا ضوء في آخر النفق المعيشي المظلم الذي يعيش فيه السوريون يبشّر بالقادم الأفضل، حتى باتت الظواهر البعيدة عن المجتمع السوري كما يقول الكثيرون قريبةً منه، ليس أوّلها رمي الأطفال ولا آخرها تفشي ظاهرة الجرائم حتى بين الإخوة، وهي ظواهر تكشف معالم الدرك السفلي الذي وصلنا إليه في بلاد استوحشت فيها الظروف، وغرقت في المعاناة.
شيرين المحظوظة
قبل 8 سنوات، حالف الحظ الطفلة شيرين حديثة الولادة، ولم تمُت عندما رماها أحد والديها بجانب إحدى الحاويات في العاصمة دمشق. وجدها عابر سبيل وهي وجدت أسرةً جديدةً تقدّم لها الحنان والحب بدل نكران أهلها لها. “ابني كان ماشي بالشارع وشاف طفلة مولودة جديد وحاكاني فوراً عالموبايل وسألني شو يعمل فيها، قلتله فوراً جيبها لعند أختك، وحنيت عليها يا أمي، ما كان فيني اتركها لهالبنت بالشارع”.
تسرد هناء (اسم مستعار)، لرصيف22، كيف تحوّلت هذه الطفلة من غريبة إلى واحدة من أفراد عائلة التي كانت وللمصادفة قد مضى على ولادتها صبياً ثلاثة أيام، تقاسم مع شيرين رضاعة الحليب من أمّه، وإلى الآن يتقاسم مع شيرين صفة التوأم التي أطلقها والداه عليهما، كي لا يتم التفريق بينهما أبداً.
تقول هناء: “لحد هاي اللحظة شيرين ما بتعرف إنه اللي عايشة معهن مو أهلها، ونحنا حبيناها وما بدنا نتخلى عنها”، وتضيف أنّ تبني الطفلة تمّ بكل سلاسة وسهولة بالرغم من أن الدين الإسلامي حرّم ظاهرة التبني، لكن في حالة شيرين ونظراً إلى وجود والدين يرغبان في الاحتفاظ بها، تمّت الاستشارة من دار الإفتاء ووافقت بموجب عقد رعاية الأسرة للطفلة، وهي حالة استثنائية في سوريا ولم يسبق من قبل اتخاذ قرار مماثل بحق أطفال آخرين.
في لغة القانون
لا يستطيع المحامي عاطف الحبال، حسب قوله لرصيف22، إطلاق أحكام على من يقوم برمي أطفاله، ويحمّل المسؤولية للمجتمع المدني في سوريا الذي برأيه تراجع دوره كثيراً في شتى النواحي نظراً إلى ما مرت به البلاد من حرب قتلت وهجرت الكثيرين، مضيفاً أن “الفقر هو العامل الأساسي الذي يدفع البعض إلى رمي أولادهم بالإضافة إلى وجود عوامل أخرى كالعلاقة الجنسية خارج إطار الزواج”. ولكن هل كان هناك في الأساس مجتمع مدني في سوريا؟ يجيب المحامي: “هذا حديث آخر”.
ابني كان ماشي بالشارع وشاف طفلة مولودة جديد وحاكاني فوراً عالموبايل وسألني شو يعمل فيها، قلتله فوراً جيبها لعند أختك، وحنيت عليها يا أمي، ما كان فيني اتركها لهالبنت بالشارع
يرفض عاطف كلمة لقيط التي يطلقها الناس على هؤلاء الأطفال مجهولي النسب، ويقول: “المجتمع الأوروبي سبق بكثير المجتمع الشرقي بنظرته إلى الأطفال مجهولي النسب، ويتم التعامل في الدول الأوروبية مع هذه الظاهرة كحالة طبيعية، وغالباً لا يتم نعت الطفل باسم لقيط، وهذا ما يجب أن يكون عليه الوضع في سوريا”.
يعرّف القانون السوري مجهول النسب بأنه “كل مولود لم يثبت نسبه أو لم يُعرف والده، إضافة إلى الأطفال الذين لا يوجد معيل لهم، ولم يثبت نسبهم، ولا يملكون القدرة على السؤال عن ذويهم لصغر سنهم. والمولود من علاقة غير شرعية، وإن كانت والدته معروفة”.
ويحرّم القانون السوري تبنّي الأطفال بما ينسجم مع الشرع الإسلامي تجنباً لتغيير الأنساب، لكنه يجيز ما يسمى بالرعاية أو الأسرة البديلة، حيث تستطيع الأسرة الراغبة برعاية طفل مجهول النسب بموجب عقد يسمى “عقد الرعاية أو الإلحاق” وبشروط وبنود محددة منها أن يكون وضع الأسرة المادي جيداً، وأن يكون أحد الزوجين لا ينجب.
في العام 2018، ناقش مجلس الشعب قانوناً جديداً لمجهولي النسب، لكن لم يتم إقراره بعد، والتعديل المنتظر على القانون سيعطي الحق للعائلة التي تتكفل الطفل، في منحه لقبها، وهو ما يعارضه عدد من السوريين إلى الآن.
المصدر: رصيف 22