بدأ الأمر مصادفة، كما يحدث مع معظم القضايا، إذ داخل الشحنة التي تحمل الرقم ARKU 837499-1 والتي كانت محملة بمبردات حرارية من ماركة كينغ، عثر رجال الجمارك في رومانيا في شهر نيسان 2020 على بضاعة أهم بكثير من البضاعة التي ورد ذكرها في بوليصة الشحن. تم العثور داخل تلك الأجهزة على 2.1 مليون حبة كبتاغون تحتوي على مادة الأمفيتامين المنشطة بنسبة 11.5% قيمتها في السوق 43.5 مليون يورو، ولكن من أين أتت تلك المخدرات؟
كانت البداية من وثائق الشحن الخاصة بتلك الشحنة التي كانت في طريقها من سوريا إلى المملكة العربية السعودية مروراً برومانيا، وذلك لأن المعلومات التي وجدت في تلك الوثائق دفعت الجهات المختصة للتنصت على الهواتف ومراقبة محادثات أجراها مشبوهون. وهكذا بدأ عناصر ينتمون إلى عصابة معينة يظهرون رويداً رويداً، وعلى رأسهم شخص اسمه “أبو فؤاد” كان زعيمهم وقائدهم. ولهذا اهتم المحققون بشكل كبير بما كان يتفوه به أبو فؤاد والمتواطئون معه، عندما يتحدثون عن “الحليب”، لأنهم على الأرجح يقصدون بذلك “الكوكايين”، أو عندما يتحدثون عن “السيارات” أو “الأغراض” التي يقصدون بها المخدرات. لم يكن من السهل تتبع محادثات هؤلاء الأشخاص على الدوام، ثم إنهم نادراً ما كانوا يتحدثون عبر الهاتف، إلا أن الأمر لم يكن مستحيلاً بالمطلق.
اتضح بعد مدة بأن أبا فؤاد، وهو كبير المسؤولين اللوجستيين بالنسبة لتجار المخدرات، كان على علاقة وطيدة مع إياد س.، 55 عاماً، من مدينة اللاذقية السورية، وهذا الشخص كان يدير شركة استيراد وتصدير في المرفأ، قبل أن تقوم الفرقة الرابعة، وهي قطعة عسكرية تضم قوات النخبة، وتتبع لنظام الديكتاتور بشار الأسد، بإغلاق مشروعه التجاري خلال وقت ما من عام 2017، ثم تولي الأمور بالنيابة عنه. ومنذ ذلك الحين، وهو يعيش خارج سوريا، ويسافر في بعض الأحيان إلى تركيا أو لبنان، ويصل بين فينة وأخرى إلى مدينة سبيير الألمانية الواقعة جنوب غربي البلاد، بعدما استقرت أسرته هناك في عام 2015. وعلى ما يبدو أنه تولى أمور التحكم بتلك الشحنة الحساسة منذ أن أبحرت تلك الحاويات من اللاذقية، كما أن لديه شخصيات نافذة تدعمه بشكل كبير.
عائلة الأسد في قلب عصابة المخدرات
إن تمكنت النيابة من إثبات ما ذهب إليه المحققون في ولاية ويستفاليا الواقعة شمالي الراين أمام المحكمة، وما زعموا أنهم اكتشفوه بعد جهود امتدت لسنوات، فعندها لا بد وأن يُكتب فصل جديد ومهم في سجل تاريخ الجرائم بألمانيا، وذلك لأن ما بدا في بداية الأمر كمجرد قضية أخرى تورطت فيها إحدى عصابات المخدرات، تطور ليصل إلى شبكة سياسية من المؤامرات والدسائس، تحتل عائلة الأسد قلبها ومركزها.
فقد تحول الشك بأن نظام الأسد يحصل على نسبة كبيرة من العائدات والأرباح عبر بيع الكبتاغون الذي يحتوي على مادة الأمفيتامين في دول عديدة، خاصة بين الدول العربية التي تروج فيها تلك البضاعة، إلى يقين. إذ بالإضافة إلى إياد س.، ثمة سوريان آخران وجزائري تم توجيه اتهامات لهما في ألمانيا في تلك القضية، ومن المقرر أن تبدأ محاكمتهم قريباً في إيسن بألمانيا. كما من المتوقع لجلسات المحاكمة أن تسلط الضوء على تجارة مخدرات ازدهرت تحت سيطرة نظام الأسد الديكتاتوري.
خلال السنوات القليلة الماضية، وردت أنباء حول تمكن مسؤولين أمنيين من اعتراض شحنات كبيرة من الكبتاغون، إذ خلال يوم واحد، أي في الأول من تموز 2020، تمت مصادرة شحنة كاملة تحتوي على 84 مليون حبة في ميناء ساليرنو بإيطاليا، وتبلغ القيمة السوقية لتلك الشحنة نحو مليار يورو. وخلال تموز الماضي، صادر مسؤولون يونانيون 5.25 أطنان من الكبتاغون، وفي نيسان، 2020، عثرت الجمارك المصرية في ميناء بور سعيد على كبتاغون وحشيش ضمن 19 ألف حاوية من نوع تيترا باك قادمة من شركة ميلك مان السورية التي كانت ملكاً لرامي مخلوف، وهو أحد أثرياء سوريا، وابن خال بشار الأسد، لكن الأخير غضب عليه فيما بعد. بيد أن رامي أنكر تورط شركته في تلك العملية وقتها.
في تشرين الثاني 2021، عثرت السلطات المصرية مجدداً على كمية من الكبتاغون، تعادل 11 مليون حبة. وفي أواخر شهر آذار، أتى دور ماليزيا لتعثر على 94.8 مليون قرص كبتاغون في ميناء كلانغ. كما اكتشفت كميات أخرى في كل من لبنان وهونغ كونغ ونيجيريا، وصودرت كميات كثيرة في مؤانئ دبي والسعودية.
تبين بأن سوريا قد تحولت إلى دولة مخدرات على البحر المتوسط، إذ بالنسبة لما تبقى من تلك الدولة المسحوقة اقتصادياً والمدمرة بشكل كبير في ظل حكم وقيادة الأسد، أضحت تجارة الكبتاغون أهم الصادرات برأي جويل رايبورن، وهو المبعوث الأميركي الخاص السابق إلى سوريا، والذي علق على ذلك بقوله: “أعتقد بأن نظام الأسد لن يبقى بعد الخسائر التي مني بها في أرباح الكبتاغون”. ثم إن النظام السوري لا يفسح المجال لمواصلة إنتاج المخدرات وتصديرها فحسب، بل “إنهم عصابة منظمة” بحسب رأي رايبورن.
فقد تبين بأن الجهات المنتجة للمخدرات في سوريا استطاعت أن تصمد حتى بعد النكبات التي ابتليت بها، إذ يبدو وكأنهم ينتجون كميات مهولة من المخدرات لا تضر بها عمليات المصادرة الواسعة حتى. وحتى الآن، لم يتم التعرف على من يقف خلف تلك الصفقات الكبيرة التي تتصل بالكميات التي تم تسليمها فعلياً. إلا أن القضية المرفوعة أمام محكمة إيسن قد تغير مجرى كل تلك الأمور اليوم.
يعتقد المدعون العامون المعنيون بعمليات التحقيق في إيسن، والمحققون الجنائيون في ويستفاليا شمالي الراين بأن إياد س. يعتبر محور تلك العصابة المنظمة. وقد تمكن هؤلاء من ربط أكثر من طن من الحشيش والكبتاغون بهذا الرجل وأزلامه، وتبلغ القيمة السوقية لتلك الشحنات نحو 130 مليون يورو.
شحنات كبتاغون من سوريا
تمكن المحققون من رسم صورة لبنية وشكل تلك الصفقات، إذ يضم ذلك الهيكل التنظيمي شخصيات تدعم تلك العملية في سوريا، ويقتصر عملها في السيطرة على تجارة الكبتاغون بمساعدة خبراء لوجستيين سبق لهم أن استقروا في أوروبا، وعن ذلك يقول أحد المحققين: “إنهم يرسلون شحنة تلو الأخرى”.
ومن بين المتهمين بالتواطؤ مع إياد س. السوري محمد ب. وهو شخص ضخم الجثة، يصل طوله إلى مترين ويعيش في حوض الرور بألمانيا، ويعتقد بأنه تورط في تجارة المخدرات في سوريا قبل أن يصل إلى ألمانيا، إذ بحسب ما ورد في لائحة الاتهامات، فإن علاقات جيدة كانت تربطه بأشخاص من عشيرة الأسد، على الأقل حتى خيانته لشركائه في العمل وفراره من سوريا، بما أنه كان يعيش في أحد الأحياء الراقية بدمشق. إلا أن المحامين الذين سيدافعون عن المتهمين رفضوا مناقشة تلك القضية عندما طلب منهم التعليق على الموضوع.
يعتقد بأن تلك العصابة المنظمة التي تحيط بإياد س. تدار على أنها امتداد للنظام السوري، ويعود أحد أسباب ذلك الاعتقاد إلى الأدلة التي اكتشفها المحققون حول شغل شخصين من بين أربعة أشخاص ضمن تلك العصابة لمناصب مهمة في ميناء اللاذقية. وبالإضافة لذلك، فإن كل شحنات تلك العصابة تنطلق من هذا المرفأ بالتحديد، إذ على الرغم من اعتراض تلك الشحنات واحتجازها في مرات عديدة، واصلت تلك العصابة شحن مزيد من الشحنات بلا توقف، وهذا ما يدلنا على قدرتها الإنتاجية الكبيرة. ومن خلال المحادثات الهاتفية التي تم اعتراضها والتجسس عليها، سمع محمد ب. المتهم بالتواطؤ مع تلك العصابة وهو يتفاخر غير مرة بعلاقاته المتميزة مع أفراد من عشيرة الأسد، بل ذكر إنهم أصدقاء لهم.
باختصار، وصل المحققون إلى قناعة مفادها بأن جميع صفقات المخدرات في سوريا تتم بحماية نظام الأسد، كما عثروا على أدلة تشير إلى حصول الفرقة الرابعة التي يرأسها ماهر الأسد شقيق بشار على أموال من خلال شحنات المخدرات، إذ يعتقدون بأن تلك القطعة العسكرية تحصل على مبلغ 300 ألف دولار مقابل كل حاوية يتم شحنها من ميناء اللاذقية، كما تتقاضى 60 ألف دولار توزعها على عساكرها حتى لا يمارسوا مهام المراقبة بصورة جدية. إلا أن ماهر الأسد لم يرد بعد عدة محاولات للتواصل معه.
من أين تأتي تلك الكميات؟
يتم تمويه الحبوب لتبدو أشبه بمنتجات قانونية صالحة للشحن، حيث توضع ضمن إطارات مطاطية أو عجلات فولاذية ذات تروس، أو لفافات ورقية صناعية. وفي بعض الأحيان، توضع الحبوب داخل أرائك أو حتى فواكه بلاستيكية. وفي معظم الأحيان تخرج تلك الشحنات من ميناء اللاذقية الواقع شمالي البلاد، الخاضع لسيطرة عائلة الأسد منذ ثمانينيات القرن الماضي.
إنها لتجارة كبيرة وواسعة، حتى إن اقتصر الأمر على حساب القيمة السوقية لشحنات الكبتاغون التي تم اعتراضها، إذ تؤكد تقديرات متحفظة قدمها معهد نيولاينز الأميركي بأن القيمة الإجمالية لتلك الشحنات بلغت 5.7 مليارات دولار أميركي على أقل تقدير خلال عام 2021، أي ما يفوق الصادرات السورية القانونية بأضعاف كثيرة، والتي قدمت لخزينة الدولة مبلغاً تافهاً يعادل 860 مليون دولار خلال عام 2020. ولكن لا أحد يعرف كم يبلغ حجم الكميات التي وصلت إلى وجهتها، إلا أن مراكز أبحاث ووكالات استخبارات غربية تقدر الأرباح الإجمالية بعشرات المليارات.
تأسيس إمبراطورية
بناء على قوة التقارير المبنية على تحقيقات، وعلى الشهادات والنقاشات مع محققين معنيين بالمخدرات أجريت على مدار بضعة أشهر، تمكنت دير شبيغل وصحيفة لا ريبابليكا الإيطالية من رسم صورة لنظام يتمتع بسيطرة محدودة على العصابات الإجرامية التابعة له، فقد أقام أولاد خال الأسد، وقادة حزب الله، وزعماء المافيا المحلية إمبراطوريات صغيرة تتصارع فيما بينها بين الفينة والأخرى.
ولكن عندما يتصل الأمر بالنقل والتصدير، يتكرر اسم ماهر الأسد، وهو الشقيق الأصغر لبشار الأسد وقائد الفرقة الرابعة، التي يعتقد المحققون بأنها تحولت خلال السنوات الماضية إلى شكل من أشكال التكتلات المافوية التي تتمتع بجناح عسكري، يقوم بحراسة الشحنات والمعامل، بالإضافة إلى السيطرة على الموانئ. أما من تصل تلك الأموال ليده فهو نائب ماهر، أي اللواء غسان بلال، الذي يعتقد بأنه يقود تلك العمليات، كما أنه همزة الوصل مع حزب الله.
قد يكون بشار الأسد الحاكم المطلق في البلاد، إلا أن ولاء أمراء الحرب المتنفذين، ورجال الأعمال، بل حتى أقاربه، لا يأتيه بلا ثمن. ثم إن الرجال المتورطين في تلك القضية والذين ستجري محاكمهم في إيسن تعاملوا مع عائلة الأسد، ولكن لصالحهم، بحسب ما ذكره أحد المخبرين من مدينة صيدنايا المسيحية التي ينحدر منها عدد من زعماء تلك العصابة، إذ يقول ذلك الرجل: “كانوا عصابة تنفذ جنحاً”، وتعرف باسم عصابة الحوت، إلا أن ذلك الرجل لا يعرف من أين أتى ذلك الاسم، والأهم من ذلك أنهم كلهم مسيحيون، ويضيف: “عندما قامت الحرب، أراد الأسد أن يبقي صيدنايا والمسيحيين إلى صفه بأي ثمن”، ولذلك أطلق يد أفراد العصابات ليستغلوا رجال أعمال آخرين، مثل هؤلاء الذين هربوا من الضواحي الثرية القريبة من دمشق.
وهكذا، وكما يخبرنا ذلك المخبر، فإن تلك العصابة عاشت على النهب والسلب والابتزاز على مدار سنوات، إلى أن جفت مصادر الدخل تلك في نهاية الأمر، وعندها طرح الكبتاغون نفسه كمصدر جديد وممتاز لتحصيل الأرباح. وأضاف ذلك المخبر بأنهم اليوم ينتجون حبوب الكبتاغون في ثمانية مواقع تتوزع ما بين صيدنايا وبلدة رنكوس القريبة من الحدود اللبنانية.
والكبتاغون ما هو إلا منشط أصبح رائجاً بين أوساط الشبان الصغار الملولين الذين يقيمون حفلات ليلية في دول الخليج، وكذلك بين أوساط القوى الإرهابية وغيرها من الميليشيات الموجودة في الشرق الأوسط وأفريقيا التي ترغب بأن يتملكها شعور بأنها جماعات لا تقهر. أما حصة الأسد من تلك الحبوب، والتي يشار إليها بـ”قمرين” أو “لكزس” في السوق، فتباع في السعودية وغيرها من دول الخليج بمبلغ يصل إلى 32 دولاراً للحبة الواحدة. وبحسب تقديرات صادرة عن فريق تحقيق يضم علماء متخصصين بالأدوية النفسية، فإن 40% من متعاطي المخدرات من الشباب في السعودية صاروا اليوم يتعاطون الكبتاغون.
إلى أين تذهب تلك الشحنات؟
في أوروبا التي صودرت فيها كميات هائلة من تلك الحبوب في مناسبات كثيرة مختلفة، لم يصبح الكبتاغون رائجاً كما هي حاله في دول الخليج. وهذا ما أثار استغراب المحققين المعنيين بأمور المخدرات في إيطاليا وألمانيا عندما اكتشفوا تلك الشحنات في بداية الأمر، إذ تساءلوا وقتها عن وجهة تلك الشحنات.
غير أن التحقيقات كشفت بأن عملية الالتفاف التي تقطعها تلك الشحنات في رحلاتها إلى أوروبا تعتبر جزءاً من الخطة التي تهدف لتضليل الجمارك في السعودية ودبي. إذ بمجرد أن تصل تلك الشحنات إلى أوروبا، يتم تغيير عبواتها وإرسالها جنوباً نحو دول الخليج، حيث يقول محقق من الشرطة المالية الإيطالية: “يقوم السعوديون على الفور بتفكيك الشحنات التي تأتي من اللاذقية مباشرة، وصولاً إلى آخر برغي فيها، ولكن ماذا عن الحاويات التي تأتي من أوروبا محملة بقطع لآلات أو تأتي مغلفة بلفائف ورقية؟ نادراً ما يقومون بتفتيش تلك الشحنات”.
شبكة لتهريب المخدرات من سوريا عبر أوروبا
طرق تجارة المخدرات القادمة من سوريا
السهم البرتقالي: طرق أساسية/ السهم الأحمر: طرق فرعية/ الدائرة البرتقالية: مكان اكتشاف الكبتاغون/ الأزرق الداكن: الدولة الوجهة
حتى لو تحولت أوروبا إلى محطة للنقل فقط، ثمة قلق يخالج المحققين بسبب الحجم الكبير لتلك التجارة، إذ يقول أحد المسؤولين الألمان: “إن تلك الشحنات مربحة للغاية، إذ يمكن لحاوية واحدة فقط أن تدر مئات الملايين من اليوروهات، وهذا ما يجذب المجرمين إليها كالذباب، لذا علينا أن نضع حداً لذلك، فالسوريون ينتجون تلك المادة وكأن الصبح لن يطلع عليهم قبل أن ينتجوها كلها”.
يتمتع الكبتاغون المكنى بـ”كوكائين الفقراء” بتاريخ طويل من الالتفافات والتعقيدات، فقد طورته شركة ديغوسا الألمانية المختصة بالمنتجات الدوائية في عام 1961 وذلك اعتماداً على أحد مشتقات المنشطات التي تعرف باسم الفينثيلين، بهدف معالجة اضطرابات ضعف التركيز مثل اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، ليحظر في عام 1986 بسبب آثاره الجانبية التي تشمل القلق والهلوسة والاكتئاب.
في ذلك الحين، كان منتجو المخدرات في بلغاريا قد اكتشفوا السمات التي تبعث على النشوة في هذا العقار منذ أمد بعيد، ولهذا تابعوا إنتاج الكبتاغون بكميات هائلة بشكل غير قانوني. ونظراً لصعوبة الحصول على الفينيثيلين، لذا تغيرت التركيبة الكيماوية الحقيقية لتلك الحبوب على مدار السنين، إلا أن اسمها بقي نفسه: الكبتاغون.
وفي تسعينيات القرن الماضي، بدأ علماء الكيمياء البلغاريون بالتعاون بشكل وثيق مع سوريا، حيث وفر لهم مصنع أدوية جمع بين الترخيص القانوني وصفقات غير قانونية، شملت في بداية الأمر صفقات الحشيش القادمة من الأراضي اللبنانية المحتلة، ظروفاً ممتازة لتوسيع تجارة تلك المادة المخدرة المركبة.
حزب الله يدخل سوق الحبوب المخدرة
استفاد حزب الله اللبناني هو أيضاً من خبراته اللوجستية التي اكتسبها من خلال تصدير الحشيش الذي بقي يزرع في سهل البقاع اللبناني على مدار عقود تحت إشراف ذلك الحزب، لدخول معترك سوق تلك الحبوب. ثم ظهرت أسماء شخصيات تحتل رتباً رفيعة ضمن تلك الميليشيا وتعمل في تلك التجارة في تشرين الأول عام 2015، عندما اعتقل الأمير السعودي عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود في مطار بيروت عندما حاول أن يقلع بطائرته الخاصة التي تحمل طناً من الكبتاغون. إذ يبدو بأن ذلك الأمير اختلف مع شركائه في تلك التجارة، فأتى الانتقام سريعاً، بحسب ما ذكره أحد ضباط المخابرات اللبنانيين لصحيفة غارديان، عندما قال: “لقد تدرب على يد حزب الله”.
كانت نقطة البداية من مواقع صغيرة لإنتاج المخدرات تابعة لتلك الميليشيا، والتي بدأت تنتشر بأعداد كبيرة في عام 2013، وبشكل أساسي في المنطقة المحيطة بمدينة القصير السورية الواقعة غربي البلاد بعد استيلاء مقاتلي حزب الله عليها. وخلال السنوات القليلة الماضية، أنشئت مصانع متخصصة لذلك، ضمن المناطق المحيطة بمحافظة اللاذقية على وجه الخصوص، إذ تشتمل تلك المحافظة على المدينة التي ينتمي الأسد إليها، وهي القرداحة، كما ظهرت تلك المعامل في المناطق العلوية بحمص. أما القائمون عليها فهم أقارب الأسد وأتباعه.
في عام 2021، ذكر أحد رجال الأعمال الذين هربوا من سوريا وقتها لصحيفة دير شبيغل بأنه زار أحد تلك المعامل الموجودة في اللاذقية، وقال: “إنهم ينتجون بكميات صناعية، ويحرس المقر بكامله رجال مسلحون”، وبما أن والديه مايزالان يقيمان في سوريا، لذا طلب منا ألا نصف موقع المعمل بدقة وألا نذكر اسم قريب الأسد القائم عليه.
أكد أحد المحققين السوريين السابقين المعنيين بقضايا المخدرات، وكذلك قائد ميليشيا تابعة للنظام، وحارس من ذلك المعمل، بأن ذلك المعمل موجود بالفعل، إلا أن أحداً منهم لم يخاطر بالكشف عن هويته خوفاً من أذرع الأسد التي قد تنتقم منهم أينما كانوا، ولهذا فضلوا عدم ذكر أسمائهم.
تحولت سوريا إلى ثقب أسود بنظر المحققين الأجانب، إذ ماذا يعني أن تطلب مساعدة قضائية من دولة ديكتاتورية تسيطر الأسرة الحاكمة فيها على تجارة المخدرات؟! ومن هنا يمكننا أن نقدر حجم الإنتاج الكامل للكبتاغون في سوريا. إذ في عام 2020، وثقت الأمم المتحدة استيراد سوريا لـ50 طنا من مادة مهمة تعتبر العنصر الأساسي لإنتاج الكبتاغون، وتعرف باسم السودوإيفيدرين التي تستخدم مع وصفات أدوية الزكام، كما تستخدم أيضاً لإنتاج الميثان البلوري. وتمثل كمية 50 طنا أكثر من نصف الكمية التي تستوردها سويسرا، التي تعتبر أكبر دولة مصنعة للأدوية.
إلا أنه لم يتضح بشكل دقيق من هي العصابات السورية التي تسيطر على عمليات التهريب الفردية، إلا أن هنالك مفاتيح تصل إليها، وتعتمد تلك المفاتيح على الأخطاء المرتكبة وعلى التحضيرات الاحترافية التي تظهر على بعض الشحنات. إذ على مدار عامين من التحقيقات التي أجريت في ويستفاليا بشمالي الراين، اتضح بأن حزب الله ليس له أي دور في تلك الشحنات التي تخرج من اللاذقية، بل يبدو بأن أقارب الأسد سعوا لإقامة شبكة توزيع خاصة بهم، ثم ارتكبوا في الخارج بضعة أخطاء لا يرتكبها إلا مبتدئ، وذلك لأنهم لا يتمتعون بالقدر ذاته من الخبرات التي يتمتع بها حزب الله في هذا المضمار.
ومع ذلك، فاجأت الشحنة التي تم اعتراضها في ساليرنو المسؤولين هناك بسبب طريقة الإخفاء، إذ يقول أحد المسؤولين الطليان: “كانت لفافات الورق كبيرة للغاية لدرجة أننا لم نعثر على الحبوب بداخلها إلا بعد أن أجرينا تصويراً بالأشعة السينية”، وأضاف بأن تلك اللفافات أنتجت في مصنع أقيم لهذا الغرض، ولم يتم التوصل لتلك النتيجة إلا بعد فحص أجزاء تم تمزيقها من ذلك الورق ثم إصلاح أمرها فيما بعد.
الجائزة الكبرى
احتوت تلك الشحنة أيضاً على آلة استخدمت للتضليل طولها بضعة أمتار، زعم بأنها تحتاج إلى عجلات ضخمة ذات تروس، ومن المرجح أن قطعها تم تجميعها وتركيبها من عمود التشغيل الخاص بإحدى السفن التي خرجت عن الخدمة، ثم أعيد طلي ذلك العمود ليبدو جديداً، وألصقت عليه عبارة: trasmissioni meccaniche/ أي جهاز إرسال، ووضع عليه شعار شركة فوسيتي الإيطالية المتخصصة بالهندسة الميكانيكية، وعن ذلك يخبرنا أحد المسؤولين فيقول: “لقد قاموا بكل شيء لتبدو الحاويات وكأنها أتت من إيطاليا مباشرة”. ومن المعتقد بأن تلك الشحنة كان من المفترض أن يتم إرسالها من ساليرنو إلى أثينا ومن ثم إلى منطقة الخليج العربي، لأن هذا هو طريقها الأساسي.
ثم ظهر فيروس كورونا خلال تلك الفترة، حيث وصلت أول شحنة من اللاذقية في 12 نيسان 2020، ولكن بما أن عمليات الموانئ توقفت، لذلك لم يتم إرسال الشحنة إلى وجهتها التالية. ثم وصلت الشحنة الثانية إلى الميناء في 15 من نيسان، ولم يحدث أي شيء على مدار أسابيع، ولكن في تلك الفترة، أبلغ أحد الجواسيس من منظمة الكامورا المافيوية الشرطة الإيطالية بأمر الحاوية الأولى، وعن ذلك يقول أحد المحققين الإيطاليين: “من المحتمل أن أنباء وصلتهم حول رغبة أحدهم بتهريب المخدرات عبر أراضيهم”.
أبلغ المخبر الشرطة وقتها بأمر الحشيش، وتم اكتشاف 2.8 طن منه مخبأة بين ثياب مستعملة، كما عثرت الشرطة أيضاً على 190 كغ من الكبتاغون، أي تلك التوليفة التي يعشقها تجار المخدرات السوريون. وعن ذلك يخبرنا أحد المحققين من نابولي فيقول: “بعد ذلك، راجع مسؤول آخر كل حجوزات الحاويات التي أجريت في البحر عدة أسابيع ليتأكد إن تم الحجز من أجل أي شحنات أخرى تصل عبر الطريق ذاته والعملاء أنفسهم، وهكذا وصلنا إلى الشحنة الثانية المؤلفة من 14 طنا، والتي كانت بمنزلة الجائزة الكبرى بالنسبة لنا”.
استغرب المسؤولون في ساليرنو ونابولي من سلسلة التحضيرات المتقنة التي أجراها مختصون بالأمور اللوجستية في سوريا وآخرون أقل براعة في أوروبا، وقد شملت تلك التحضيرات مخططا غابت عنه نهائياً فكرة تعليق عملية معالجة الحاويات في ساليرنو بسبب تفشي جائحة فيروس كورونا.
إلا أن احتجاز كمية كبيرة من حبوب الكبتاغون ومصادرتها في ساليرنو لم تكن مشكلة كبيرة بالنسبة للعصابة المنظمة في سوريا. إذ بعد مرور شهرين فقط على ذلك، اكتشف محققون من رومانيا أربعة ملايين حبة كبتاغون مخبأة داخل صابون زيت الزيتون في ميناء كونستانتسا. ومنذ ذلك الحين، ثارت شكوك المسؤولين في أوروبا حول كل الشحنات القادمة من اللاذقية، كما جرى تهريب كميات كبيرة من الكبتاغون براً عبر العراق والأردن، حيث اشتبك حرس الحدود هناك أكثر من مرة بتبادل لإطلاق النار مع المهربين، وفي 26 من كانون الثاني 2022، قتل 27 مهرباً سورياً في تلك الاشتباكات، كما أصيب كثيرون منهم بجروح، وذلك في أثناء محاولتهم استغلال العاصفة الثلجية لقطع الحدود إلى الأردن.
كان يوم جمعة من شهر تشرين الثاني عندما سافر إياد س. مجدداً إلى ألمانيا، معتمداً على تأشيرة السائح التي يحملها. إلا أن المحققين كانوا بانتظاره في إيسن منذ أكثر من سنة، وكانوا يرغبون بإلقاء القبض عليه بأنفسهم، لأنهم يعرفون بأن إصدار مذكرة اعتقال دولية بحقه لن يكون ذا نفع كبير في كل من تركيا أو لبنان. وهكذا وصل إياد إلى ألمانيا وكان باستقباله ابنه الذي نقله بالسيارة من مطار فرانكفورت إلى بيت الأسرة في سبيير.
وعندما علم المسؤولون بأنه يخطط لمغادرة ألمانيا قريباً بعد يوم على وصوله من خلال مكالمة اعترضوها له، تحركوا بسرعة. وهكذا، وعند الساعة السادسة من صباح يوم الإثنين، وضعت الأصفاد في يديه لتنتهي بها عطلة نهاية الأسبوع، كما طوي ملف تجارته للكبتاغون.
المصدر: دير شبيغل
ترجمة: تلفزيون سوريا