بحث
بحث
المتحلق الجنوبي - صوت العاصمة

على تخوم دمشق: الهندسة الاجتماعية بين العاصمة ومحيطها

خلال الحرب، تغيرت مصائر السكان والعمران في مدخل دمشق الشمالي-الشرقي وفق نموذجين

 ملخص تنفيذي
لطالما مثّلت العلاقة بين دمشق ومدخلها الشمالي-الشرقي جزءاً من مشهد أوسع يتعلق برغبة العاصمة التحكم بحدود ووظيفة الضواحي والبلدات والعشوائيات في محيطها الإداري القريب. لكن في ظل غياب سياسات سكانية مستدامة، ظلت العاصمة عاجزة عن التأثير، واكتفت بدور مقدّم الحد الأدنى من الخدمات. خلال الحرب، تغيرت مصائر السكان والعمران في مدخل دمشق الشمالي-الشرقي وفق نموذجين: الأول تدمير واسع النطاق، وتهجير المجتمعات المحلية المؤيدة للمعارضة والرافضة للمصالحة؛ والثاني تدمير منخفض الحدة وبقاء السكان الموالين للنظام أو المصالحين له. أما في مرحلة ما بعد النزاع، فإن تفاعل محافظة دمشق مع هذين النموذجين يُعيد تشكيل علاقة العاصمة مع سكان وعمران ضواحيها القريبة. ففي النموذج الأول، تجري إعادة التنظيم والتحضير لإعادة الإعمار من دون أخذ حقوق المهجَّرين بالاعتبار؛ وفي الثاني، يجري التحضير ببطء لعملية التنظيم، مع تعليق تنفيذها نتيجة استمرار وجود السكان في المناطق المنظمة سابقاً، أو نتيجة رفض سكان العشوائيات واستنادهم إلى قوة اكتسبوها خلال الحرب.

مقدمة
منذ ستينات القرن الماضي، اتسمت علاقة دمشق بمحيطها السكاني-العمراني المباشر بالتوتر وعدم الرضا المتبادلين. فلا الضواحي والبلدات والعشوائيات المحيطة حصلت على الخدمات المتوقعة من انتمائها إدارياً للعاصمة، ولا دمشق استفادت من توسُّعها نحو هذا المحيط.

ازداد الأمر حدة خلال سنوات الحرب ٢٠١١-٢٠١٨، إذ انكمش الفضاء المديني للعاصمة لصالح عسكرة شديدة في محيطها القريب، كما شهد هذا المحيط انفكاكاً لبعض البلدات والضواحي المهمشة ذات الغالبية السنّية عن دمشق، وسط محاولة لإعادة موضعة ذاتها كجزء من الريف الدمشقي. في الوقت ذاته، تحوّلت بعض العشوائيات التي تقطنها الأقليات إلى حصون متقدمة لحماية العاصمة السورية والنظام من خلفها. وقد أحدثت سنوات الحرب تحولات عميقة في الديناميات الاجتماعية والحضرية في محيط دمشق المباشر، سواءً على مستوى الدمار أو النزوح، بالإضافة إلى تحولات في السياسات العمرانية.

تعد دراسة هذه الديناميات والسياسات أمراً بالغ الأهمية لفهم الآليات المتبعة في الهندسة الاجتماعية في زمن الحرب وما بعد النزاع.

تتناول هذه الورقة منطقة مدخل دمشق الشمالي-الشرقي، والتي تضمّ اليوم كلاً من برزة البلد وعشوائية عش الوَروَر التابعتين لمنطقة برزة؛ والقابون “البلد” والقابون الصناعية وعشوائية حي تشرين التابعة لمنطقة القابون (انظر الخريطة رقم ١). حتى منتصف القرن الماضي، كانت هذه المنطقة تمثّل فضاءً اجتماعياً واقتصادياً متجانساً تابعاً لغوطة دمشق الشرقية.

 إلا أن تمدد محافظة دمشق، واستملاكها لأجزاء واسعة من المنطقة، ثم ضمّها لها إدارياً مطلع الستينات، قاد تدريجياً إلى تغيّر نسيج المنطقة وتشكُّل ما يشبه جزراً سكانية متمايزة، تتنوع خلفياتها الاجتماعية والمناطقية والطائفية والطبقية.

 تمّ توظيف الاستملاك الجائر لأراضي المنطقة لإقامة مشاريع متنوعة تباعاً، من منطقة صناعية كبيرة نهاية الأربعينات، ومواقع عسكرية وأمنية حساسة في الخمسينات والستينات، وأحياء جديدة منظّمة في الثمانينات، ومجموعة طرق رئيسية تصل العاصمة بالمحافظات الشمالية في التسعينات. وبذلك، خسرت المنطقة الجزء الأكبر من أراضيها الزراعية، من دون تغيير توصيفها من زراعية إلى سكنية-تجارية.

كما قاد الطلب المتزايد على السكن الرخيص في محيط العاصمة، ولا سيما بعد منتصف السبعينات، إلى نشوء أحزمة سكن عشوائية في المنطقة استقطبت مُهاجري الأرياف السورية الباحثين عن فرص عمل وحياة في العاصمة.

وبين ٢٠٠٠-٢٠١٠، عملت محافظة دمشق على إعداد دراسات لتنظيم أجزاء من المنطقة وتكريسها كعقدة مرورية إلى الشمال السوري، تحتوي على محطة قطارات ومراكز انطلاق للحافلات. وترافق ذلك مع ظهور مشاريع لاستثمار المنطقة ككل، أو أجزاء منها، تحت عناوين تأهيل مدخل العاصمة الشمالي ومشروع البارك الشرقي، إلا أن أياً من هذه المشاريع لم يجد طريقه للتنفيذ.

 في الفترة ذاتها، وبالتعاون مع منظمات دولية، أطلقت محافظة دمشق ورشات عمل لدراسة الحلول الأمثل للتعامل مع الضواحي ومناطق المخالفات الجماعية، بما في ذلك مدخل دمشق الشمالي-الشرقي. وخلُصت تلك الورشات إلى اتجاهين رئيسيين للحل: هدم العشوائيات وإعادة تنظيمها بالتعاون مع مستثمرين ومطوِّرين عقاريين في القطاع الخاص؛ أو إعادة تأهيلها وتنظيمها تدريجياً ضمن برنامج وطني متكامل. وقبيل اندلاع انتفاضة ٢٠١١، كانت محافظة دمشق والحكومة السورية تميلان إلى خيار الهدم وإعادة التنظيم بدل التنمية الحضرية المستدامة. اتضح ذلك مع سيطرة الميل الحكومي نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، المصمَّم لجذب الاستثمارات الخارجية الخاصة وتجهيز البيئة القانونية لمشاريع التطوير العقاري.

مع انتفاضة العام ٢٠١١، خرجت برزة البلد والقابون وأجزاء من حي تشرين ضد النظام، وتحوّل عش الوَروَر وجزء من حي تشرين إلى حصون متقدمة موالية للنظام. شكّل مدخل دمشق الشمالي-الشرقي منطقة صراع مسلّح بين النظام والمعارضة، وأيضاً حقل تجاذب عنيف بين دمشق وغوطتها الشرقية. وفي ما يشبه إعادة هندسة اجتماعية، استغلت محافظة دمشق نتائج الصراع لهندسة بعض المناطق اجتماعياً بما يتناسب مع حاجاتها.

وثّقت تقارير متعددة عمليات التدمير وتأثيرها على التهجير القسري، خاصة في أجزاء من مدخل دمشق الشمالي-الشرقي. كما ركزت بعض الدراسات، بشكل رئيسي، على تحولات العشوائيات خلال الحرب أو على البيئة القانونية والتشريعية المرافقة لإعادة إعمار العشوائيات والمناطق المتضررة من الحرب.

من خلال النظر إلى منطقة مدخل دمشق الشمالي-الشرقي ككل، تهدف هذه الورقة إلى توسيع أجندة البحث لتشمل الديناميات الداخلية في هذه المنطقة من منظور علاقتها بالعاصمة. ومن هنا تبحث الورقة في سؤال مركزي حول كيفية تراكب الصراع المسلح في مدخل دمشق الشمالي-الشرقي مع التناحرات الأهلية القائمة على أسس طائفية ومناطقية وطبقية، وحول نتائج هذا الصراع في إعادة تشكيل العلاقة بين هذه المنطقة والعاصمة دمشق. تتناول الورقة نموذجين للهندسة الاجتماعية التي نتجت عن الحرب وما رافقها وما تلاها: يشمل النموذج الأول القابون وعشوائية حي تشرين، اللتين تعرضتا لتدمير وتهجير واسعين وتخضعان حالياً لإعادة تنظيم، ويشمل الثاني برزة وعشوائية عش الوَروَر، واللتين بقي سكانهما فيهما ولا تبدو محافظة دمشق معنية بإعادة تنظيمهما في الوقت الراهن.

الأدلة التي استندت إليها هذه الدراسة هي في المقام الأول بيانات أولية، جُمعت من ٣٧ مقابلة شبه منظمة أجراها الباحث بين حزيران وآب ٢٠٢١ مع نشطاء وباحثين، وأعضاء لجان مصالحة، ووجهاء اجتماعيين، ومسؤولين سابقين وحاليين في الإدارات المحلية. كما جمع الباحث عدداً كبيراً من المقالات ذات الصلة، وعمل على تحليلها والتدقيق في المعلومات الواردة فيها بمقارنتها مع مصادر مفتوحة المصدر وأرشيف شخصي. ما لم يُذكر أو يُستشهد بغير ذلك، فإن البيانات المقدمة في هذه الورقة مأخوذة بشكل أساسي من المقابلات.

 الجزء الأول: التهجير والتدمير وإعادة التنظيم
رغم اختلاف الخلفيات الاجتماعية والتنظيمية-السكنية في القابون “البلد” ومنطقة القابون الصناعية وعشوائية حي تشرين، إلا أن مصير سكانها وعمرانها تشابه خلال مرحلتي الحرب وما بعد النزاع. وينحدر سكان وملّاكو المنطقة من خلفيات اجتماعية متنوعة، من قوابنة أصليين في القابون “البلد” شبه المنظّمة، وتجار دمشقيين من أصحاب معامل في المنطقة الصناعية، ومهاجرين فقراء قدموا من مختلف الأرياف السورية إلى عشوائية حي تشرين.

 وقد تسبّب الصراع المسلح بين قوات المعارضة والنظام في ٢٠١٢-٢٠١٧ بتدمير معظم المنطقة وتهجير غالبية السكان، باستثناء شارع واحد في حي تشرين ظلّت تقطنه أغلبية علوية. وقد شكّلت نتائج الحرب وخيارات محافظة دمشق في التنظيم وإعادة الإعمار أُسُس الهندسة الاجتماعية في مرحلة ما بعد النزاع. ويشمل ذلك إعادة رسم حدود العاصمة الإدارية، واستملاك أجزاء من المنطقة وإعادة تنظيمها وفق مخططات تنظيمية محدّثة تعود إلى ما قبل ٢٠١١.

القابون: سكنية بلا سكان، وصناعية بلا صناعيين
ظلّت القابون حتى الستينات جزءاً من غوطة دمشق الشرقية، بنمطها الريفي القائم على زراعة الأشجار المثمرة، وطبيعة سكانها من الفلاحين الملّاكين لأراضيهم، وجميعهم من المسلمين السنّة. وتألفت القابون من بلدة قديمة ذات بيوت طابقية متباعدة، تتوسط أرضاً زراعية خصبة.

بعد استقلال سوريا ١٩٤٦، بدأت دمشق مباشرةً استملاك مناطق واسعة من القابون لإقامة مواقع عسكرية وأمنية لحماية مدخلها الشمالي.

وفي الستينات، ضُمّت القابون إدارياً إلى العاصمة المحدّثة والموسّعة دون أي تخطيط عمراني حديث يلبي حاجاتها السكانية. وهكذا فقدت البلدة تدريجياً طابعها الزراعي لصالح توسّعات سكنية كان معظمها عشوائياً. وساهم التقلص في مساحة الأرض القابلة للزراعة في تحوّل القوابنة، منذ الثمانينات، من الزراعة إلى مهن جديدة كتجارة السيارات وإصلاحها في ورشات أخذت تنتشر بكثافة في منطقة المعامل، غربي منطقة القابون الصناعية، وعلى جانبي الطريق الدولي M5 وتوسعة طريق العدوي الذين جرى استملاك أراضيهما وشقهما على مراحل.

كذلك أقيمت منطقة صناعية جنوبي القابون عام ١٩٤٨ على أرض مستملكة، وقد أعيد تنظيمها وتوسيعها مرتين: الأولى عام ١٩٧٢، والثانية عام ١٩٨٤. كانت منطقة القابون الصناعية الوحيدة من نوعها في دمشق، وقد اختصت بصناعات النسيج والمواد الغذائية وحقن البلاستيك والدهانات والمطاط وقطع تبديل السيارات، وضمّت معامل متوسطة وصغيرة أغلبها للقطاع الخاص، وأخرى كبيرة تتبع للقطاع العام.

وصّف مخطط دمشق التنظيمي الصادر عام ٢٠٠١ القابون بأنها منطقة مخالفات واقعة ضمن الحدود الإدارية لدمشق، وقد جرى إعداد مخططاتها الطبوغرافية والبدء بوضع الدراسات التنظيمية التفصيلية لها.

 وصدر مخطط القابون التنظيمي عام ٢٠٠٢، وحافظ على بضعة مواقع في القابون – منها البلدة القديمة – اعتبرها مُنظّمة ووسّعها، وأعاد توصيفها كمناطق سكنية وتجارية، فيما أبقى على وصف مناطق واسعة كأرض زراعية لا يجوز البناء عليها. لَحَظَ المخطط أيضاً استملاكات جديدة واسعة لتنفيذ مشاريع نفع عام، من طرق ومرافق خدمية مثل محطة قطار وسكة حديدية وكراج بولمان. ورغم أن الأراضي الملحوظة استُملكت مباشرة، إلا أن المشاريع لم تُنفَّذ بسبب البيروقراطية وعدم رصد الميزانية اللازمة.

 وبالنتيجة قسم المخطط أهالي القابون إلى فئتين: فئة خسرت أرضها بالاستملاكات؛ وفئة تغيّر توصيف عقاراتها من زراعية إلى سكنية، ما أتاح لها فرصة إثراء عبر بناء أبراج سكنية بمساعدة رجال أعمال قوابنة امتهنوا المقاولات وتعهدات البناء منذ التسعينات. أضافت هذه التحولات السريعة نوعاً من المظلومية لدى القوابنة في تصوّر علاقتهم مع نزعة دمشق التوسعية على حساب أملاكهم ونمط حياتهم، الأمر الذي ساهم لاحقاً في تبني نسبة كبيرة من القوابنة خيار المعارضة المسلحة والقتال حتى النهاية ضد قوات النظام.

مع مطلع ٢٠١١، ردّت قوات النظام على المظاهرات السلمية في القابون بقمع مفرط، لتبدأ المعارضة المسلحة وقوات النظام بتبادل السيطرة على أجزاء من المنطقة بين ٢٠١٢-٢٠١٣. انصبّ هاجس النظام الأمني خلال تلك الفترة على منع تحوّل القابون إلى صلة وصل بين المعارضة في دمشق وغوطتها الشرقية. لذا طردت قوات النظام سكان أطراف القابون الجنوبية والشرقية المحاذية لجوبر وحرستا، وجرّفت مساحات واسعة من هذه الأطراف بإشراف محافظة دمشق من دون تبرير واضح.

 لكن المعارضة عادت وأحكمت سيطرتها على القابون منتصف ٢٠١٣، ودخلت وقفاً غير رسمي لإطلاق النار مع قوات النظام بالتزامن مع هدنة برزة مطلع ٢٠١٤. بد ذلك تمكّنت المعارضة، عبر شبكة أنفاق طويلة تصل إلى عربين وحرستا، من تحويل القابون إلى مدخل الغوطة الشرقية المحاصرة وخط إمداد لها بالغذاء والمحروقات بين ٢٠١٤-٢٠١٦. كان كل فصيل معارض يحتكر نفقاً خاصاً به، في ظل اقتتال داخلي عنيف فتّت مناطق سيطرة المعارضة في الغوطة الشرقية بعد ٢٠١٤. وبعد ثلاثة أعوام على الهدوء النسبي في المنطقة، وبين شباط وأيار ٢٠١٧، بدأت قوات النظام حملة عسكرية كبيرة انتهت باستسلام المعارضة وتهجير الأغلبية الساحقة ممن تبقى من سكان القابون إلى الشمال السوري.

 ولم تعرض قوات النظام على فصائل القابون أي اتفاق يتضمن البقاء في المنطقة، بل استخدمت في أيام المعركة الأخيرة ذخائر شديدة الانفجار بهدف إحداث دمار كبير في العمران، ما جعل المنطقة غير قابلة للسكن. جرت مفاوضات استسلام القابون مع ضباط من الفرقة الرابعة والمخابرات الجوية، اللتين قادتا العمليات العسكرية، عبر وسطاء من رجال الأعمال القوابنة.

وبعدما دخلت قوات النظام إلى القابون، لم يكن فيه سوى بضع عشرات من السكان في منطقتي الجامع الكبير وساحة القهوة، حيث بقي بعض البناء الصالح للسكن نسبياً.

 ومباشرةً بعد التهجير، وبالتعاقد مع مجموعات من المتعهدين، بدأ المكتب الأمني للفرقة الرابعة عمليات هدم لمعظم أبنية القابون وتدوير أنقاضها بذريعة عدم سلامتها الإنشائية. كان من بين المتعهدين مجموعات تتبع لرجل الأعمال الدمشقي محمد حمشو، وأخرى لابن عمة الرئيس السوري اللواء رياض شاليش، كما شارك في استخراج الحديد بعض رجال الأعمال الذين فاوضوا الفرقة الرابعة على تسليم القابون. ووسط استمرار محافظة دمشق في منع الأهالي من العودة إلى منازلهم الصالحة للسكن، شهدت القابون عمليات هدم واسعة بين أيار ٢٠١٧ وتشرين الأول ٢٠١٨ باستخدام جرافات ومواد شديدة الانفجار.

 كما أن هدم العقارات وسحب أنقاضها جرى قبل تثبيت الحقوق العينية فيها من قبل لجان مختصة تابعة لمحافظة دمشق، ما أثار مخاوف حول مصير الأملاك غير المسجلة أصولاً في المصالح العقارية.

في آب ٢٠١٩، بدأت محافظة دمشق بإعداد المخطط التنظيمي التفصيلي الجديد رقم ١٠٥ لمنطقة القابون السكنية بموجب قانون تخطيط وعمران المدن رقم ٢٣\٢٠١٥ الذي يتيح للوحدة الإدارية نسب اقتطاع من الأملاك الخاصة (“استملاك”) تصل إلى ٤٠ بالمئة من مساحتها.

 لم يشمل المخطط ١٠٥ شريطاً سكنياً ضيقاً جنوبي كلية الشرطة يُعرَف بمساكن أبو جرش، وهي منطقة مأهولة منظمة لم تخرج عن سيطرة النظام طيلة سنوات الحرب ولم تتعرض للدمار. ورغم أن المحافظة بعد موافقتها على المخطط في تموز ٢٠٢٠ فتحت باب الاعتراض عليه، إلا أن النسبة الأكبر من أصحاب الحقوق مُهجَّرون قسرياً إلى الشمال السوري وبالتالي ملاحقون أمنياً، في حين يتطلّب الاطّلاع على المخطط والاعتراض عليه حضور صاحب الحق شخصياً إلى مبنى محافظة دمشق، أو وكيله القانوني، وتقديم وثائق ملكية صالحة خلال شهر واحد من إعلان المخطط.

 ما يزال المخطط قيد الدراسة أثناء كتابة هذه الورقة، بانتظار تصديقه وصدوره قريباً بمرسوم خاص. وفي كل الأحوال، لن يحصل أصحاب الحقوق في مناطق القابون السكنية على سكن بديل بموجب القانون ٢٣\٢٠١٥، بل على أسهم تُكافئ مساحة عقاراتهم المستملكة بعد تحويلها إلى أمتار مربعة في المقاسم المبنية بعد التنظيم.

في تموز ٢٠٢١ سُمح لبعض النازحين بدخول القابون “البلد” والسكن فيها بشرطين: موافقة أمنية من المخابرات الجوية، وتقرير من لجنة فنيّة مختصة تفيد أن العقار صالح للسكن.

 ومع ذلك، لم يدخل الحي سوى بضع عشرات من النازحين القوابنة الذين تقطعت بهم السبل. وفي الأثناء، لم تتوقف محافظة دمشق عن قضم القابون، حيث ضمّت في أيلول ٢٠٢١ أجزاءً منه إلى جوبر في ما أسمته “المخطط التنظيمي لبعض المناطق المتداخلة بين دمشق وريفها”.

 ويدخل ذلك ضمن عملية إعادة رسم الحدود الإدارية لمحيط دمشق القريب، والتخطيط لإقامة مشاريع ذات نفع عام أو ذات طبيعة استثمارية وفق قوانين التخطيط العمرانية وقوانين الاستثمار.

من جانب آخر، تُمثّل منطقة القابون الصناعية نموذجاً عن العلاقة المتوترة بين محافظة دمشق ومدخلها الشمالي. فالمنطقة الصناعية تحوّلت إلى أرض محروقة منذ ٢٠١٢، حيث تعرّضت لدمار كبير دون أن تتمكن قوات المعارضة ولا النظام من السيطرة عليها. وبعد انتهاء المعارك، قامت محافظة دمشق بتجريف جميع معامل القطاع العام في ٢٠١٨ بما يُسهّل استملاكها، بحسب اتهامات وجّهها صناعيو القطاع الخاص للمحافظة، والتي عملت بحسبهم على زيادة نسبة الدمار بما يبرر عملية إزالة المنطقة بكاملها.

وصدر المخطط التنظيمي للقابون الصناعية رقم ١٠٤ في حزيران ٢٠١٩ ليعدّل صفتها التنظيمية من صناعية وزراعية إلى سكنية وتجارية.

 ولم ييأس صناعيو المنطقة، ومعظمهم دمشقيون، حيث خاضوا معركة قانونية طويلة مع المحافظة للإبقاء على معاملهم، وقدموا لها عروضاً كثيرة بتحمل تكاليف إعادة التأهيل والترميم.

 ولكن، انتهت المعركة في منتصف أيلول ٢٠٢١ بالمرسوم الجمهوري رقم ٢٣٧، والذي نصّ على إحداث “منطقة تنظيم مدخل دمشق الشمالي” استناداً إلى المخطط التنظيمي رقم ١٠٤. ويعني ذلك إلغاء المنطقة الصناعية، وإجبار الصناعيين على نقل معاملهم الـ٧٥٠ إلى مدينة عدرا الصناعية.

 أضافت محافظة دمشق محيط الطريق الدولي M5، من مبنى البانوراما وصولاً إلى مدخل حرستا، إلى “منطقة تنظيم مدخل دمشق الشمالي”. ويعتبر المخطط ١٠٤ أول تطبيق عملي لأحكام القانون ١٠ لعام ٢٠١٨ القاضي بجواز إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية. ويتيح القانون ١٠ للمحافظة الحصول على ٢٠ بالمئة من مساحة المنطقة المنظمة على شكل مقاسم استثمارية، مقابل تقديمها نفقات التنظيم والبنى التحتية.

في معرض سعيها لتبرير الاقتطاع والتنظيم، تعمل محافظة دمشق على تسويق بُعد ثقافي-هوياتي جديد، فقد اعتبرت مثلاً أن المخطط التنظيمي ١٠٤ حافظ على “هوية دمشق” كمدينة خدمات وأموال واستثمار، لا صناعية ولا زراعية.

ويتضح من تعامل محافظة دمشق مع القابون أنها باتت صاحبة القرار في إعادة رسم حدودها الإدارية، وطريقة تقسيمها للمناطق التابعة لها، ورسم الوظائف المطلوبة منها خدمياً واستثمارياً. وكانت المحافظة قد استعادت المخططات التنظيمية القديمة المرسومة للقابون منذ ما قبل ٢٠١١، وعملت على تحديثها وتوسيعها وإعادة ترسيم حدودها، مستغلةً خلوّ المنطقة من السكان.

 حي تشرين: العاصمة ضاقت بالمهاجرين
بالمقارنة مع القابون، تبدو عشوائية حي تشرين التابعة إدارياً لبلدية القابون شديدة الاختلاف من حيث التنظيم والسكان. فقد أُقيمت العشوائية كمنطقة مخالفات جماعية في الثمانينات، وذلك على أراضٍ خاصة مصنّفة زراعية، يعود معظمها لأهالي القابون وبعضها لأهالي برزة. وقد اتفق أصحاب الأراضي مع متعهدي بناء التهريب على تقسيمها إلى محاضر صغيرة جداً، بغرض إشادة منازل مخالِفة بأعداد كبيرة وبيعها بأسعار زهيدة.

 ومثّل سكان العشوائية خليطاً شديد التنوع من المهاجرين إلى العاصمة من أرياف المحافظات، ممن جمعهم الفقر والبحث عن فرص العمل.

ويتألف حي تشرين من شارع رئيسي يحمل نفس الاسم، تحيط به شوارع تسمى أحياءً أيضاً، كل منها أشبه بكانتون تغلب عليه صفة طائفية أو مناطقية واضحة (انظر الخريطة رقم ٣). وأبرز هذه الشوارع حي الحفيرية، الذي تركزت فيه أغلبية سنّية من مهاجري بلدة حفير الفوقا التابعة لمنطقة التل في القلمون بريف دمشق. وفي حين شكّل المهاجرون الأدالبة غالبية سكان حي تشرين، إلا أن تركزهم الأكبر كان في شارع الحافظ، بينما تركزّت غالبية علوية مهاجرة من ريف جبلة باللاذقية ومن ريف مصياف بحماة في شارع البعث. وقد بُنيت هذه الأحياء وسُكنت بالتزامن، وكانت العلاقات القرابية المباشرة، وأيضاً المناطقية والطائفية، الجاذب الرئيسي للتكتّلات السكانية في هذه الأحياء.

ولم تظهر قبل ٢٠١١ أي علاقات تناحرية بين أحياء حي تشرين، فقد ساد التعايش في ظل ظروف معيشية سيئة تتسم بالفقر المدقع ونقص شديد في الخدمات الرئيسية، بما في ذلك المدارس والنقاط الطبية. فمثلاً، في بداية هجرتهم إلى الحي في الثمانينات، عَمِلَ سكان حي الحفيرية في بيع منتجات حفير الزراعية من العنب والتين في دمشق، قبل تحوُّلهم إلى عمال مياومين في الزراعة والبناء والعتالة في دمشق وريفها.

لكن بعضهم بدأ في مطلع التسعينات يعمل في تجارة المفرق للبضائع المهرّبة، خاصة الغذائية والكهربائيات، والتي كان يؤمنها ضباط من القوات السورية المنتشرة حينها في لبنان.

وقد نمت تجارة التهريب في حي الحفيرية إلى درجة نشوء ما عُرف بسوق التهريب. ولم يعرف سكان حي الحفيرية صعود وجاهات اجتماعية، فمن اغتنى منهم بتجارة التهريب انتقل للعمل في تعهدات بناء التهريب ضمن حي تشرين. من جهة أخرى، عملت نسبة وازنة من المهاجرين الأدالبة الأوائل في أعمال الخياطة والمياومة في البناء، في حين فضّلت الموجات الأحدث من الأدالبة، وكذلك أبناء المهاجرين الأوائل، التطوّع في سلك الشرطة والعمل كعناصر في مخافر دمشق وريفها وبعض الفروع الأمنية، وهذه الشريحة من الأدالبة عرفت صعوداً اجتماعياً أفضل نسبياً من بقية أقرانها.

وأخيراً، شكّل شارع البعث، الأقرب إلى مقر الشرطة العسكرية جنوبي برزة، ملجأ لمعتقلين سياسيين سابقين من أحزاب يسارية لم يجدوا مكاناً آخر يؤويهم. وقد عملت نسبة وازنة من ساكني شارع البعث في مهن حرّة يومية، كبائعي يانصيب وحلاقين، ولجأت نسبة أقل إلى التطوع بالجيش والأمن.

منذ منتصف العام ٢٠١٢، دخلت شوارع حي تشرين الثلاثة صراعاً مسلحاً قائماً على الهوية الطائفية، والمناطقية إلى حدّ ما. فقد جرت حوادث عنف أهلي زادت تركّز أبناء الطائفة والمنطقة الواحدة في شوارع محددة، مع طرد المختلفين. وفي حين اصطبغ شارع البعث العلوي بموالاة النظام، وانتسب كثير من أبنائه للجان الشعبية وقوات الدفاع الوطني، انشق كثير من عناصر الشرطة الأدالبة ليؤسسوا تدريجياً فصائل مسلحة.

 كذلك مال الحفيرية للمعارضة وأسسوا عدة كتائب مسلحة، لكن انخراطهم في العمل العسكري ظلّ أقل من انخراط جيرانهم الأدالبة.

 وتسببت الاشتباكات المسلحة بين الأحياء، والاقتحامات والإعدامات الميدانية التي نفذتها قوات النظام في شارعي الحفيرية والحافظ بين ٢٠١٢-٢٠١٣، بإفراغها تدريجياً من المدنيين الذين عادوا إلى مناطقهم الأصلية.

 بدوره، شهد حي البعث موجات نزوح متتالية نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية، إلا أنه بقي مأهولاً ولم يتعرض للدمار الذي تعرض له شارعا الحفيرية والحافظ. وقد استولى قادة الدفاع الوطني على كثير من بيوت السنّة المهجَّرين من شارع البعث، وباعوها أو وزّعوها على مقرَّبين.

خلال حملتها العسكرية الأخيرة على المنطقة مطلع العام ٢٠١٧، استخدمت قوات النظام الخراطيم المتفجرة بكثافة لشق طريقها في حي تشرين وهدم الأبنية العشوائية سيئة الإنشاء. وبدا أن إلحاق أكبر نسبة ممكنة من الدمار بالحي كان بغرض التخلص من هذه العشوائية الكبيرة وتهجير سكانها. من جهتها، أعلنت المعارضة حي تشرين منكوباً منذ ٢٥ شباط ٢٠١٧، واصفةً ما يحدث فيه كتغيير ديمغرافي.

وبين آذار وأيار ٢٠١٧، تمّ تهجير فصائل المعارضة ومن تبقى من مدنيي شارعَي الحافظ والحفيرية إلى الشمال السوري.

 ولم تأتِ عملية التهجير القسري نتيجة اتفاق، بل تنفيذاً لإملاءات المخابرات الجوية والفرقة الرابعة اللتين قادتا اقتحام الحي.

وكما في القابون، دخلت ورشات إعادة تدوير الأنقاض الحي بُعيد خروج المعارضة منه، الأمر الذي فاقم حجم الدمار.

في المقابل، بقي شارع البعث سليماً إلى حد كبير، وعاد مأهولاً بالمدنيين منذ منتصف ٢٠١٨. وما زال شارع البعث ذا غالبية علوية، رغم أن عائلات سنّية موالية للنظام عادت إلى بيوتها فيه. ويجري حالياً صراع خفي في شارع البعث للسيطرة على أملاك الغائبين، والذين تعرضت عقاراتهم لنسب تدمير متفاوتة لكنهم فضلوا تركها لعجزهم عن إصلاحها.

وفي مطلع العام ٢٠٢١، طلب مختار شارع البعث من المستأجرين إبراز عقود إيجار سليمة، وإلا فإخلاء العقارات التي يقطنونها، في ما بدا محاولة لجرد الأملاك السائبة بغرض استثمارها. وقد جاء صعود المختار، الشخصية الأقوى حالياً في الحي، لملء الفراغ الذي تركه تهميش النظام لمجموعات الدفاع الوطني والمخابرات الجوية المحلية.

ويسود بين علويي شارع البعث اعتقاد بأن إضعاف الحكومة للمجموعات المسلحة الموالية التي سيطرت على الشارع بين ٢٠١٢-٢٠١٨ و”دافعت عن الحي”، ليس إلا مقدمة لتجريد الأهالي من قدرتهم على رفض مشروع إعادة تنظيم حي تشرين.

وكانت محافظة دمشق قد استثنت حي تشرين من مخطط القابون السكني رقم ١٠٥، رغم تصريحات سابقة لمسؤولي المحافظة أكدت العمل على مخطط تنظيمي واحد للمنطقتين. ولا يبدو أن زيارة محافظ دمشق لشارع البعث في حزيران ٢٠٢١، وتفقُّده أعمال إزالة الأنقاض وفتح الطرقات، قد طمأنت السكان حول وضع أملاكهم في أي مخطط تنظيمي جديد.

 ويتخوف من تبقى من سكان شارع البعث من أن التنظيم الكامل لحي تشرين لن يستثني شارعهم، فأي قانون للتخطيط العمراني سيعترف فقط بالأرض دوناً عن العقارات المخالفة المقامة عليها، حيث الأرض المصنّفة زراعية لا يجوز البناء عليها.

 وفي هذه الحالة، وبحسب المرسوم ٦٦ على سبيل المثال، سيُعطى أصحاب العقارات المخالفة بدل إيجار سنوي فقط في حال اكتتابهم في أحد مشاريع السكن البديل غير المجانية. وسيعني ذلك نهاية إقامة كثير من سكان شارع البعث في دمشق نظراً لفقرهم الشديد. ومع ذلك، يرى سكان حي البعث أن هدم حيهم، إن حدث، لن يحدث دون “تعويض يتناسب مع تضحياتهم للدولة”.

ولا يبدو مثل هذا التعويض ممكناً نظرياً، إذ لا يمكن قانونياً تخصيص سكان شارع البعث بتعويضات حصرية لم تلحظها حزمة القوانين الخاصة بالتنظيم العمراني، ولا تلك الخاصة بإقامة المناطق التنظيمية ضمن حدود الوحدات الإدارية.

يمكن الاستنتاج من تعاقب صدور مخططات التنظيم وإعادة ترسيم الحدود الإدارية للمنطقة، حتى تاريخ هذه الدراسة، أن محافظة دمشق تركز جل اهتمامها على إعادة تأهيل منطقة مدخل دمشق الشمالي ومحيط الطرق السريعة التي تربط دمشق بالشمال.

في الوقت ذاته، تُرجئ المحافظة العمل في مناطق القابون الداخلية وحي تشرين لعدم توفر التمويل اللازم لإقامة مشاريع سكنية أو استثمارية فيها. ويتضح ذلك في السماح مؤخراً بعودة بعض السكان إلى القابون، وفي عدم الاستعجال في إصدار مخطط لحي تشرين أو الضغط لإخراج سكان شارع البعث. كما أن تسريع دمشق إصدار مخططات تنظيمية لمنطقة لقابون السكنية (وإلى حد ما القابون الصناعية) وتقييد قدرة الاعتراض عليها هو بهدف اكتساب قطعية قانونية بشأنها. ويعود ذلك إلى تخوّف محافظة دمشق من أن القوابنة أصحاب أرض أصليون، وقد يتمكنون من استرجاعها إن أتيحت لهم الوسائل القانونية المناسبة، أما سكان عشوائيات حي تشرين فمهاجرون فقراء، وقد تنتهي عملية استملاكها بدفع تعويضات بسيطة لهم. ما يحدث هو هندسة اجتماعية كاملة الأركان في القابون، وناقصة الأركان في حي تشرين، وفي الحالتين فإن شهية محافظة دمشق مقيّدة بنقص التمويل.

الجزء الثاني: بقاء السكان مع التهديد بإعادة التنظيم
في الجارتين اللدودتين، برزة ذات الغالبية السنّية وعش الوَروَر ذات الغالبية العلوية، تشابه مصير السكان رغم اختلاف خلفياتهم الطائفية وخياراتهم السياسية مطلع ٢٠١١. فقد مالت برزة إلى المعارضة ووقفت عش الوَروَر إلى جانب النظام.

خاضت القوات العسكرية المسيطرة على المنطقتين معارك عدة وارتكبتا انتهاكات على أساس طائفي، قبل أن توحّدها تجارة التهريب في ٢٠١٤. ساهم ذلك في عقد مصالحة بين المعارضة والنظام في برزة مطلع ٢٠١٧، ما أبعد شبح التهجير القسري عن أهلها. وبعد ٢٠١٨، تشابهت رؤية محافظة دمشق لمصير المنطقتين تنظيمياً رغم أن عش الوَروَر عشوائية وبرزة منظمة (انظر الخريطة رقم ٤). وفي الحالتين كان بقاء السكان في المنطقتين عائقاً حال دون إعادة تنظيم المنطقة بالقوة.

عش الوَروَر: المخطط ليس “كبسة زر”
ظهر حيّ عش الوَروَر في السبعينات كأبنية متفرقة في منطقة جبلية وعرة مطلة على برزة البلد، لتصبح من أكثر عشوائيات دمشق اكتظاظاً وسوء خدمات. وغالباً ما وضع الأهالي يدهم على الأملاك العامة وقسّموها إلى محاضر صغيرة بنوا عليها بسرعة بيوتاً ملتصقة، بعضها تخلو من شروط السلامة الإنشائية.

 وبينما تعود ملكية أراضيه إلى بلديتي برزة بدمشق ومعربا بريف دمشق، ما يجعله يتبع إدارياً لسلطاتهما البلدية، إلا أن محافظة دمشق مسؤولة مباشرة عن تقديم الخدمات في العش، حيث يخضع لنطاق صلاحيات شرطة القابون.

 وينحدر معظم سكان العش من علويي منطقة مصياف في ريف حماة، ممن بدأوا نهاية السبعينات التكتّل في الحيّ على أسس مناطقية مستقطبين أقرباءهم وذويهم. كما ضمّ العش حارات صغيرة تركّز فيها مهاجرون من ديرالزور والقلمون بريف دمشق. وقد سُميّت بعض حارات العش على اسم قرى مصياف، مثل دير ماما والنقير وبعرين، والتي باتت طاردة لسكانها نتيجة تفتّت ملكياتها الزراعية وغياب فرص العمل فيها.

ونسبة كبيرة من سكان العش هم من أصحاب الدخل المحدود وصغار موظفي القطاع العام والوزارات، خصوصاً الجيش والأجهزة الأمنية، إلا أنهم من الأقل تعليماً وحظوة ومعظمهم من ذوي الرتب الدنيا. أما من تمكن منهم من الصعود اجتماعياً فغالباً ما كان ينتقل إلى تجمعات العلويين المنظمة والأرقى اجتماعياً في محيط دمشق مثل ضاحية الأسد.

في العام ٢٠١١ ومع زيادة الاستقطاب الطائفي مع برزة، تشكلت لجان شعبية مسلحة موالية للنظام في عش الوَروَر انضمّت نهاية ٢٠١٢ إلى قوات الدفاع الوطني. وقد تسلّطت هذه القوات المحلية على الحي وفرضت إتاوات على السكان، مما دفع بعض الأهالي لمناشدة الجيش التدخل لوضع حدّ لها.

 وقد خاضت قوات الدفاع الوطني في العش وقوات المعارضة في برزة معارك عنيفة تدمّرت على إثرها المنطقة الفاصلة بينهما نهاية ٢٠١٣.

كما تبادل الطرفان عمليات تطهير طائفية لطرد من تبقى من السنّة في العش ومن العلويين في برزة. وتواصلت الاشتباكات بين المنطقتين حتى هدنة ٢٠١٤، وتخلّلتها عمليات قنص وخطف وطلب فدية وقتل على الهوية. ومع دخول الهدنة في برزة حيز التنفيذ في كانون الثاني ٢٠١٤، دخلت قوات الدفاع الوطني بقوة مجال تجارة التهريب، وعملت على إدخال البضائع الغذائية والمحروقات والغاز بالجملة، من العش إلى برزة، بإشراف ومحاصصة مع الحرس الجمهوري.

وبعد مصالحة برزة في أيار ٢٠١٧، والتي أنهت التهريب باتجاه معاقل المعارضة، استغلت قوات الدفاع الوطني في العش امتيازاتها الأمنية لنقل نشاطها التهريبي من ريف دمشق إلى مركز المدينة.

 ويبدو أن تلك التجاوزات أثارت غضب مسؤولين كبار في النظام، فصدرت أوامر في حزيران ٢٠١٨ بحلّ قوات الدفاع الوطني في عش الوَروَر، إلا أن الأخيرة رفضت تنفيذ الأوامر.

 إذ تستند هذه القوات إلى دعم ضباط علويين في الجيش والأمن لها، وإلى مصالح تجارية متبادلة معهم. كما تمكنت هذه القوات من الحفاظ على نواتها الرئيسية المتماسكة عبر إيجاد مصادر دخل مستمرة، تشمل فرض إتاوات على الحواجز وتجارة التهريب والممنوعات. وتستمر هذه القوات في فرض سيطرتها على عش الوَروَر، رغم تهديد المخابرات الجوية ومطالبتها لها بتسليم السلاح والمطلوبين في قضايا خطف وسرقة وتجارة مخدرات.

لم يتعرض عش الوَروَر لأية عملية تهجير قسري، وإن كان قد غادره كثير من المدنيين إلى قراهم الأصلية خوفاً من الاشتباكات والاضطراب الأمني. ولم تلتفت محافظة دمشق لشكاوى أهالي العش المتكررة رغم تدهور الأوضاع الخدمية مع الوقت. وفي نيسان ٢٠١٩، في أول حادثة من نوعها، زار رئيس مجلس الوزراء ومحافظ دمشق عش الوَروَر، واطّلعا على البنى التحتية، والتقيا الأهالي الذين تركزت طلباتهم على تحسين الخدمات. ومع ذلك، لم يتبع تلك الزيارة تحسن ملحوظ في الخدمات، ويبدو أن محافظة دمشق تعتبر العش أمراً واقعاً يفوق قدرتها على تغييره أو حتى تحسينه بالشروط الدنيا، فتقوم بتجاهله كلياً.

كان المخطط التنظيمي لدمشق الصادر عام ٢٠٠١ قد صنّف عش الوَروَر كعشوائية تحتاج لمخطط تنظيمي تفصيلي.

ورغم الإشاعات المتكررة بأنه سيتم تنظيم المنطقة وهدمها لإنشاء أبراج تضم سكناً بديلاً للسكان، لم يصدر أي مخطط تنظيمي خاص بعش الوَروَر حتى كتابة هذه الورقة.

وكانت محافظة دمشق قد بدأت، في ٢٠٢٠، الحديث عن دراسة لإعداد مخطط تنظيمي لبرزة يشمل عش الوَروَر. إلا أن مسؤولي المحافظة كانوا يرفقون ذلك بالقول إن المخطط يحتاج إلى وقت طويل لتنفيذه وفق الإمكانيات المتاحة، وهو ليس “كبسة زر”، مضيفين أن للمنطقة طبيعة طبوغرافية خاصة بسبب الانحدار والوعورة، وأن العقبة الأساسية هي تأمين السكن البديل للسكان.

ووفق جميع قوانين التنظيم العمرانية، تعتبر أرض عش الوَروَر أملاكاً عامة، وفي حال حصول التنظيم فإن المخالفين الذين بنوا عقاراتهم عليها سيحصلون على بدل إيجار لمدة محدودة فقط.

 ويمكن أن يحصل أصحاب تلك البيوت على حق الاكتتاب على سكن بديل غير مجاني، فقط في حال توفر فائض منه لدى محافظة دمشق، ووقتها سيتوجب على المكتتبين دفع ثمن سكنهم البديل على أقساط.

 ويرفض سكان عش الوَروَر ذلك بشكل قطعي، إذ يعتبرون أن تضحياتهم الكبيرة لـ”الدفاع عن الدولة” خلال السنوات الماضية لا يمكن أن تُقابَل بهكذا “عدم اعتراف ونكران”.

وبالتالي فإن رفض التنظيم نابع من معضلة السكن البديل، والذي لن تتمكن محافظة دمشق من تأمينه لسكان عش الوَروَر دوناً عن غيرهم في العشوائيات الأخرى المقامة على أملاك عامة. إلا أنه على عكس حالة شارع البعث في حي تشرين، فإن استمرار وجود قوة مسلحة تفرض شروطها في عش الوَروَر قد يعني إمكانية المساومة في أي مشروع لإعادة تنظيم العشوائية لاحقاً، وهو ما يعني تحصيل شروط أفضل.

 برزة البلد: تصفية قادة المصالحة وبقاء معضلة السكان
على عكس عشوائية عش الوَروَر حديثة التشكيل، كانت برزة قرية صغيرة شمال شرقي دمشق، تحيط بها مساحات زراعية واسعة، إلى أن ضمّتها دمشق إدارياً في الستينات.

وقد استملكت العاصمة أجزاء واسعة من أراضي برزة لتقيم عليها حيَّين حديثين هما برزة مسبق الصنع ومساكن برزة، وكذلك مواقع عسكرية حساسة وطبية، لتبقى برزة البلد، أي البلدة القديمة، التي تغلب عليها البيوت العربية غير الطابقية.

 ومع ذلك، ظل البرازنة يعملون في الزراعة المثمرة والصيفية المروية وصناعة الصابون، فيما اشتغلت الأجيال الأحدث في تجارة التعهدات ومواد البناء، خاصة في مكاسر الحجر على طريق دمشق-بغداد. وفي نهاية التسعينات، صدر مخطط برزة التنظيمي، وتمكن البعض من بناء أبراج في عقاراتهم المنظمة بالشراكة مع متعهدين. ومع أن برزة البلد تتصل عمرانياً من الجنوب مع القابون، إلا أنه يمكن رصد فروق ثقافية واجتماعية بينهما.

فبينما يمكن اعتبار القابون أقرب في الغوطة الشرقية، تمتلك برزة هوية مركّبة بين دمشق وغوطتها، لدرجة أن البرازنة يميلون لتوصيف أنفسهم بـ”البساتنة” لتمييز أنفسهم عن الطرفين. وبرزة أقل محافظة من القابون، وحتى من أحياء دمشق القديمة، وهو ما يظهر في نمط التديّن الشعبي لمجتمعها الفلاحي، وفي شراكة المرأة مع الرجل في إدارة شؤون المنزل والإنتاج الزراعي.

في ٢٠١١، تحولت ساحة برزة البلد القديمة إلى قبلة للمتظاهرين، الذين استفادوا من طرقاتها الضيقة التي تصعّب اقتحامها، بالإضافة إلى حماية مسلحة وفّرها عسكريون منشقون من أهل البلدة. مطلع ٢٠١٢، شكّل هؤلاء العسكريون مجموعة مسلحة باسم اللواء الأول سيطرت على برزة نهاية العام نفسه،وهو ما أعقبته اقتحامات مسلحة نفذتها قوات النظام، والدفاع الوطني في عش الوَروَر، ارتُكبت خلالها مجازر ذات طابع طائفي.

 وبين ٢٠١٢-٢٠١٣، جرى تجريف عقارات كثيرة في برزة لتوسيع حرم الطريق الرئيسي الذي يفصل برزة عن القابون، وقد أشرفت على ذلك محافظة دمشق بحماية عسكرية، الأمر الذي تسبب بكشف برزة نارياً لقوات النظام وإحكام حصارها.

 وقد تعرضت البلدة القديمة لدمار كبير بسبب القصف المدفعي والجوي، بالإضافة إلى تجريف العمران بينها وبين حرستا.

في كانون الثاني ٢٠١٤، توصل اللواء الأول إلى اتفاق هدنة مع الحرس الجمهوري، في تطوير لبادرة حسن النية التي بدأت بمصالحة معضمية الشام نهاية ٢٠١٣.

ويعود سبب الهدنة في برزة إلى رغبة النظام تحييد معارضيها عن مجريات القتال، وذلك لموقعها الاستراتيجي الكاشف للطرق الحيوية المتجهة إلى مشفى تشرين العسكري ومركز البحوث العلمية وعش الوَروَر.

 وقد أنجبت هدنة ٢٠١٤ شراكة تجارية بين ضباط من الحرس الجمهوري والدفاع الوطني، من جهة، وبين اللواء الأول من جهة أخرى، مما حوّل برزة إلى معبر رئيسي لتهريب المواد الغذائية والمحروقات عبر الأنفاق من القابون إلى الغوطة الشرقية المحاصرة. كما أسس اللواء الأول مكتباً اقتصادياً بدأ يفرض ضرائب على مرور البضائع، وعمل وسيطاً لإنجاز صفقات أسلحة في السوق السوداء بين قوات المعارضة في الغوطة وقوات النظام. وقد ساهمت هذه الشراكة التجارية في جعل برزة منطقة هادئة نسبياً، ومنتعشة تجارياً، ما غذّى حركة نزوح كبيرة من الغوطة تجاهها.

أدى كل ذلك إلى تحييد قوات النظام لبرزة البلد خلال الحملة العسكرية الأخيرة على أحياء تشرين والقابون في شباط ٢٠١٧. وعلى عكس القابون، التي فاوض عنها وسطاء من التجار ورجال الأعمال، عقد قادة اللواء الأول بأنفسهم مصالحة في أيار ٢٠١٧، والتي تضمنت تسليم أسلحتهم، وتسوية أوضاع مقاتليهم، وتجنيد المطلوبين منهم للخدمة الإلزامية في ميليشيا درع القلمون الموالية للنظام من أجل قتال داعش في البادية. وقد جرى تهجير رافضي التسوية من برزة نحو الشمال السوري، وكانت النسبة الأكبر منهم من مقاتلي حيَّي الصالحية وركن الدين الدمشقيَّين، بالإضافة لمقاتلي وأهالي حي تشرين المنسحبين إلى برزة.

إلا أن اللواء الأول خسر أبرز داعميه ضمن قوات النظام، أي عرّابي المصالحة من ضباط الحرس الجمهوري والدفاع الوطني، بعدما كشفت الفرقة الرابعة عملية تهريب سلاح ومقاتلين من برزة إلى الغوطة الشرقية أثناء تنفيذ المصالحة.

 واتضح ذلك في ٢٠١٨، عندما حلّت أجهزة الأمن ميليشيا درع القلمون في برزة، واعتقلت قياديّيها الذين كانوا في اللواء الأول سابقاً، وصادرت أملاكهم، وأعدمت أبرزهم.

ويبدو أن ضغوط متنفذين في عش الوَروَر واتهامهم قادة اللواء الأول بارتكاب جرائم قتل وخطف خلال ٢٠١٢-٢٠١٤،ساهمت في الانقلاب عليهم، بالإضافة إلى الصراعات بين أجنحة النظام، وربما رغبة ضباط من النظام بالاستيلاء على ثروات هؤلاء القادة.

وبذلك انتهى نموذج مصالحة برزة بالتخلص من أبرز عرّابيه من طرفَي النظام والمعارضة، وسط اعتقالات طالت المئات من شباب البلدة.

تجدر الإشارة إلى أن تصفية قادة المصالحة لم تنعكس كثيراً على مجتمع برزة المحلي. فرغم تأثرّهم بالخيارات السياسية لمحيطهم الأهلي، عمل هؤلاء القادة انطلاقاً من مصالحهم الخاصة، وشكّلوا حالة منفصلة عن محيطهم الذي لم يكن جزءاً من هذه المصالح، وهو ما أضعف أصلاً قدرتهم على التوسّط بين المجتمع والسلطات الأمنية والعسكرية للنظام. بل إن تصفية دور قادة المصالحة سبّت ارتياحاً لدى الأهالي الذين طالما اتهموهم بالخيانة ونهب المساعدات، علماً أن آخرين لا يُخفون، في الوقت نفسه، تخوّفهم من انكشافهم تماماً في وجه النظام.

ومع أن برزة البلد منظمة ومأهولة وتخلو من العشوائيات، إلا أنها باتت مهددة بإعادة التنظيم بذريعة أنها منطقة مخالفات، وهو تنظيم لن يخلو من تعقيد نظراً لبقاء معظم سكان المنطقة فيها وإمكانية قيامهم بالاعتراض. ففرْض التنظيم على الأرض وتنفيذ المخطط التنظيمي سيعني طرد آلاف السكان وتحويلهم إلى نازحين يطالبون بسكن بديل، ما سيحمّل محافظة دمشق أعباء اضافية. كما أن توصيف المحافظة لبرزة كمنطقة مخالفات لا يُلغي أنها منظمة مسبقاً، ما يزيد من التعقيد القانوني للعملية. على سبيل المثال، اشترط قانون التخطيط وعمران المدن رقم ٢٣ لعام ٢٠١٥ عدم إدخال عقار سبق أن خضع للتنظيم ضمن منطقة تنظيمية جديدة إلا بموجب مرسوم رئاسي. لذلك فقد صدر عن المحافظة خلال السنوات الماضية تصريحات متضاربة حول مواعيد صدور مخططات تنظيم برزة.

 والحل الأخير الذي توصلت إليه المحافظة هو العمل على مصوَّر تنظيمي لبرزة يشمل عش الوَروَر،وتأخير إصداره وربما “تعليق تنفيذه بعد صدوره”.

 وبعيداً عن معضلة المصوَّر التنظيمي، تواصل محافظة دمشق قضم برزة البلد، حيث ضمّت منطقة منها بمساحة ١٠ هكتارات إلى القابون،ووزّعت إنذارات بالإخلاء على سكان منطقة تخترق برزة بشكل قطري لشق طريق يصل عش الوَروَر مباشرة بطريق مشفى تشرين.

لقد قلّصت السنوات الماضية الفوارق بين برزة وعش الوَروَر المختلفتين من حيث طبيعة التنظيم وشكل الملكية، وأيضاً من حيث خلفيات سكانهما الاجتماعية. فقد أفرزت الحرب واقعاً جديداً بات معه صوت سكان عش الوَروَر قوياً في الدفاع عن مصالحهم، في حين ضمنت المصالحة بقاء سكان برزة. أما محافظة دمشق فهي تنظر إلى المنطقة ككتلة واحدة تميل إلى تأجيل معالجة مشاكلها، لذلك فهي تتمهل في إصدار مخططات تنظيمية لكامل المنطقة بذريعة تعقيدات التنظيم، إلا أنها في الوقت ذاته تواصل إعادة رسم حدود برزة الإدارية وقضمها بالاستملاكات وتقطيعها بالطرق. ما يحدث، بعبارة أخرى، هو تجاهل لوجود عش الوَروَر، وتنفيذ لهندسة اجتماعية منخفضة الحدة في برزة، مقيّدة بتعقيدات قانونية ونقص في التمويل.

خاتمة
يبدو من سياق الأحداث في مدخل دمشق الشمالي-الشرقي، خلال مرحلتي الحرب وما بعد النزاع، أن هندسة اجتماعية جديدة بدأت تظهر نتيجة لتراكب الصراع السياسي بين المعارضة والنظام مع الديناميات الأهلية للمجتمعات المحلية. وأيضاً مع محاولة محافظة دمشق إعادة رسم حدودها الإدارية وتنظيم المنطقة بما يتوافق مع حاجاتها الخدمية. لقد غيّرت الحرب مصائر منطقة مدخل دمشق الشمالي-الشرقي سكانياً وعمرانياً، بحيث طغت عليها أجندة النظام الأمنية والسياسية. أما مرحلة ما بعد النزاع فقد شهدت حضوراً أوسع لمحافظة دمشق في إعادة تنظيم وتشكيل محيطها السكاني-العمراني.

وتأثرت إعادة تشكيل العلاقة بين العاصمة ومدخلها الشمالي-الشرقي بعوامل متعددة. أولاً، لعبت الخلفية الطائفية للسكان دوراً حاسماً فقط في حالة بقاء العلويين في عشوائيتي عش الوَروَر وشارع البعث. إلا أن العامل الطائفي بحد ذاته لا يبدو حاسماً في منع إعادة التنظيم والهدم، كما قد يحدث في شارع البعث نفسه. ثانياً، لعب الموقف السياسي للمجتمعات المحلية من النظام دوراً مكافئاً للخلفية الطائفية في بقاء سكان برزة السنّة. إلا أن هذا الموقف السياسي بدا قليل الأهمية في وقف الاستملاكات وتقطيع أوصال منطقة منظمة، كما يحدث في برزة نفسها. ثالثاً، عندما تراكبت الخلفية الطائفية السنّية مع موقف سياسي رافض للمصالحة، كانت النتيجة تدميراً وتهجيراً قسرياً وإعادة تنظيم، بدلالة ما جرى في القابون السكنية شبه المنظّمة رغم أن سكانها من أبناء المنطقة الأصليين، وأيضاً كما جرى في شارعَي الحافظ وسوق التهريب العشوائيين اللذين كان يقطنهما مُهاجرون من إدلب وريف دمشق. رابعاً، لم تلعب الخلفية التنظيمية للمنطقة دوراً حاسماً في مسألة إعادة التنظيم؛ إذ تغض محافظة دمشق نظرها عن عش الوَروَر العشوائية، في حين تجري إزالة منطقة القابون الصناعية رغم أنها كانت منظمة سابقاً.

ما تزال عملية إعادة تشكيل العلاقة بين دمشق ومدخلها الشمالي-الشرقي تفتقر إلى مقومات التنمية الحضرية المستدامة. يتضح ذلك من استعادة محافظة دمشق لمخططات عمرانية قديمة للمنطقة والاكتفاء بتحديثها، دون اعتبار الوقائع السكانية والعمرانية التي أدخلت المنطقة في أتون الحرب بالدرجة الأولى، أو مجريات سنوات الحرب بالدرجة الثانية. وبينما لا تبدو دمشق جدية في إيجاد حلول تنموية لمشاكل السكن العشوائي، فهي تحرص على مواصلة سياسة الاستملاك الجائر بما يقوّض الحقوق المادية والثقافية للمجتمعات المحليّة.

المصدر: مركز روبرت شومان للدراسات العليا