أفاض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على بشار الأسد بالمديح والترحيب والتهنئة، في لقائهما الأخير بموسكو، هنأه بعيد ميلاده ورحب به في الكرملين وامتدحه لفوزه “المقنع” في الانتخابات، وخاطبه بالقول: “الناس لا تزال تربط عمليتي التعافي والعودة إلى الحياة الطبيعية، بك”، والمقصود بالناس الشعب السوري. وأضاف: “أعلم أنك تعمل الكثير من أجل هذا (التعافي والعودة)، بما في ذلك إجراء حوار مع خصومك السياسيين آمل أن تتواصل هذه العملية”.
ربما من وجهة نظر مسؤولي النظام ومؤيديه هذا يكفي لاعتبار أن الزيارة كانت ناجحة بكل المقاييس، وبالمقارنة مع سابقاتها، لكن سيبقى ثمة سؤال يؤرقهم: كيف ومتى سيتم صرف ذلك في ميزان السياسة لصالح النظام؟ وهل حقاً كان يقصد كل ما قاله؟
الأسد بدوره مدح بوتين من خلال الثناء على الجيش الروسي، الذي منع بتدخله العسكري منذ خريف 2015 سقوط النظام، وقلب موازين القوى على الأرض لصالحه.
ويمكن لهواة المديح أن يضيفوا إلى ما سبق أن الرئيس بوتين أخَّر موعد دخوله في حجر صحي حتى يجتمع مع الأسد، كدليل على أهمية الزيارة وفق محللين مقربين من النظام، رغم تأكيد المتحدث باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف “أن الاجتماع مع الأسد جرى في اليوم الذي سبق قرار الحاجة للعزل”. يشار هنا إلى أن بوتين عزل نفسه بسبب اكتشاف إصابات بفيروس كورونا ضمن دائرة المقربين منه.
وليس المطلوب هنا الخوض في سجال حول أهمية الزيارة، بل وضع الأمور في نصابها بعيداً عن المديح المتبادل، فإذا كانت الزيارة مهمة فهذا يتعلق بما قيل فيها خلف الأبواب المغلقة، والهدف الحقيقي من ورائها.
لا معلومات رسمية حول ما دار بين بوتين وبشار الأسد، لكن بقراءة متأنية ووضع كلمات المديح جانباً، قال بوتين ما يريده من بشار الأسد ونظامه، التوقف عن تعطيل العملية السياسية كشرط للخروج من عنق الزجاجة، ومحاولة استعادة بعض الثقة شعبياً بالتوقف عن التصرف كزعيم طغمة مستبدة وميليشياوية، كي لا يبقى حجر عثرة أمام تسوية سياسية شاملة متوافق عليها دولياً.
فالرئيس بوتين قال في قالب من المديح ما يفترض أن يكون عليه بشار الأسد وليس ما هو عليه حقاً بنظر “القيصر” الروسي، الذي فضل هذه المرَّة الأخذ بالمثل القائل: “ضربة على الحافر وضربة على المسمار”، الضربة على المسمار كانت بإهانة بشار الأسد في قاعدة حميميم أمام عدسات الكاميرات بواقعة شهيرة، وفي اللقاء الأخير فضل بوتين أن يضرب على الحافر في العلن، ليكيل الضربات على المسمار خلف الأبواب.
واستدعاء بشار الأسد من حيث التوقيت يكشف عن تقدير روسي يتخوف من تداعيات الحدث الأفغاني، ومنها اتجاه الإدارة الأميركية لإعادة هندسة منطقة الشرق الأوسط، كأولوية قصوى خوفا من تنامي الدورين الروسي والصيني في هذه المنطقة الحيوية. وفي الوقت ذاته، ما زالت موسكو تعاني مع نظام بشار الأسد مأزقاً مزدوجاً، فهي عاجزة عن قطف ثمار سياسية أو اقتصادية من تدخلها العسكري إلى جانب النظام، وتواجه معادلات صعبة في تعاطيها مع ملفات الأزمة السورية، منها عجز الكرملين عن تسويق النظام تحت يافطة تعامل العالم معه كأمر واقع، واتساع هوة تضارب المصالح مع إيران والميليشيات التابعة لها، وصعوبة إبقاء التوترات بين إسرائيل وإيران تحت سقف منضبط نسبياً، ونزع فتيل التوترات المتعاقبة مع تركيا. ناهيك عن تكلس مواقف نظام بشار الأسد في رفض إحداث تغيير يعتد به للتحسين من صورته، ولو جزئيا، أمام المجتمع الدولي، بافتراض أنه قادر على ذلك.
وفي قراءة ما بين سطور ما قاله بوتين خلال لقائه الأخير مع بشار الأسد، هناك جملة تستحق التوقف عندها مطولاً، حيث اعترف بوتين مواربة بهشاشة وضع نظام الأسد، بقوله: إن وجود قوات أجنبية على الأراضي السورية، بالطبع لا يقصد القوات والميليشيات الروسية أو الإيرانية، لا يمنح بشار الأسد “فرصة بذل الجهد الأقصى لإعادة التماسك للبلاد”. أما كيفية حل هذه المعضلة فهي موضع خلاف في دوائر صنع القرار بموسكو، وكثيرا ما يطفو ذلك على السطح.
وعلى سبيل المثال، نقلت بلومبرغ، في تقرير لها بتاريخ أيار 2020، عن ألكسندر شوميلين، الدبلوماسي الروسي السابق والذي يدير مركز أوروبا والشرق الأوسط الممول من الحكومة الروسية ، قوله إن “الكرملين في حاجة إلى التخلص من الصداع السوري. المشكلة تكمن في شخص واحد، الأسد وحاشيته”.
في سياق متصل؛ السفير الروسي السابق في دمشق ألكسندر أكسينيونوك نشر مقالاً على موقع “فالداي كلوب” الإلكتروني، في 17 نيسان الماضي، عبَّر فيه عن إحباط من نظام الأسد وممارساته، وواقع الحال الذي وصلت إليه المناطق الخاضعة لسيطرته، يقول أكسينيونوك: “من الصعب في الأغلب التمييز بين مكافحة الإرهاب والعنف الحكومي ضد المعارضة.. أصبحت عمليات القتل والتهديد والاختطاف الغامضة أكثر تواتراً، وذلك من بين أخطاء أخرى فادحة ترتكبها المخابرات السورية”. وأضاف: “الرشاوى في قطاع التجارة والنقل والعبور والقوافل الإنسانية لصالح سلسلة تتألف من وحدات بعينها من الجيش والأجهزة الأمنية والوسطاء وكبار رجال الأعمال الموالين تقليديا لعائلة الرئيس”. وخلص أكسينيونوك إلى أن ” إعادة البناء الاقتصادي وتطوير نظام سياسي -المقصود في سوريا- لا يقومان إلا على نهج شامل وموافقة دولية”.
إشاراتٌ يؤكد محللون روس أنها دليل على أن كثيراً من الدبلوماسيين الروس منزعجون من تراجع تأثير الدبلوماسية الروسية في الملف السوري لحساب دور الجيش الروسي، والسبب تمسك بوتين وإلى جانبه وزير خارجيته لافروف ووزير دفاعه شويغو بورقة الأسد، فهو كان ومازال يمثل “حصان طروادة” لإمساك روسيا بالملف السوري. واعترف وزير الخارجية الروسي بهذا صراحة، في جلسة لمجلس الدوما آذار 2012، حيث أجاب على سؤال بالقول: “إن طرف النزاع الذي نملك تأثيراً عليه هو حكومة بشار الأسد”.
إلا أن هذا يأتي في سياق مصلحة نفعية، تستخدم فيها موسكو الأسد ونظامه لتنفيذ أجنداتها وتحقيق مصالحها، وهي تدرك أن انتزاع مكاسب غير ممكن إلا بتسوية شاملة للملف السوري متوافق عليها مع الغرب، ستفتح على بازار مقايضة حول الأوراق التي سيرميها كل طرف والثمن المطلوب، والورقة الدسمة في الجعبة الروسية هي مصير بشار الأسد ونظامه.
قالتها موسكو مراراً وتكراراً إنها لا تدافع عن نظام حكم الأسد، وإن ما تريده هو ألا يكون رحيل بشار ونظامه شرطاً مسبقاً لتسوية سياسية، وفي تحليل مجرد هي منسجمة مع نفسها، لأن هذا يتوافق مع سياسة قيصر الكرملين الحالم بإعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية، والتي يأتي الشعب السوري للأسف في رأس قائمة ضحاياها، وعندما يحين الوقت ستلقي موسكو بورقة نظام بشار الأسد، وقد ذرت الرياح كلمات المديح والترحيب والتهنئة قبل أن يجف حبرها.
ولمعرفة قدر الأسد جيدا بالنسبة لروسيا، أعود إلى عام 2012، وحينها سأل معارض سوري بارز للنظام مسؤولا برلمانيا بارزا في فترة استراحة في أثناء برنامج تلفزيوني عن سبب الدفاع المستميت عن نظام الأسد الذي تعرف موسكو حقيقته، جواب البرلماني، الذي مازال يدافع بشراسة عن الأسد، كان مفاجئا، إذ قال: نعلم أن الأسد ابن كلبة… ولكنه ابن كلبتنا”، وفي ذات التوقيت تقريبا قال الأسد في حوار مع “روسيا اليوم” إنه يرفض مغادرة بلاده، وزاد “أنا لست دمية، ولم يصنعني الغرب كي أذهب إلى الغرب أو إلى أي بلد آخر. أنا سوري، أنا من صنع سوري، وعليّ أن أعيش وأموت في سوريا”، في ذلك اللقاء صدق الأسد لأن أيا من دول الغرب أو حتى روسيا لن تقبل بإيواء الأسد بعد جرائمه بحق السوريين، ولكن الأسد مازال في حالة إنكار لواقعه الجديد الذي تحول فيها إلى دمية يحركها وينقلها سيد الكرملين كما يشاء.
المصدر: تلفزيون سوريا