لم يكن “عيد الفطر” في مدينة داريا بريف دمشق الذي صادف يوم 19 آب عام 2012، مرتبطا بأي مشاعر فرح وسعادة كما جرت العادة، ففي هذا العيد تحديداً حُفرت ذكرى مؤلمة في أذهان سكان المدينة. لما شهدته من عمليات قتل مروعة بحقّ أكثر من 700 شخص، نسبتهم الساحقة من المدنيين، ارتكبتها قوات من الجيش السوري ومجموعات أخرى من الأجهزة الأمنية السورية.
تقع مدينة داريا قرب مدينة دمشق، ويقع بجوارها مطار المزة العسكري، واكتسبت أهمية رمزية منذ اندلاع الانتفاضة السورية، نتيجة الحراك السلمي المنظم الذي كان يقوده أبناء المدينة، الذي تجسّد في عدّة أنشطة، مثل “مبادرة الورد والماء” في عام 2011، حيث كان يعمل نشطاء وناشطات داريا على توزيع الورود والمياه على عناصر قوات الحكومة السورية كتعبير عن أخوة الشعب والجيش، بينما قابلتهم تلك القوات بالرصاص والاعتقال، وعاشت المدينة فترة مزدهرة بالحراك المدني والسلمي والاجتماعي عام 2012، بعد انسحاب قوات الحكومة من أحياء المدينة وتمركزهم حولها.
إلا أن الواقع الجديد الذي شهدته المدينة لم يدم طويلاً، ففي يوم 20 آب 2012، وهو اليوم الذي صادف ثاني أيام عيد الفطر، كانت أولى ملامح تغير معالم وذاكرة المدينة. ففي هذا التاريخ تحديداً بدأت قوات الحكومة السورية بتضييق الخناق على المدينة ومحاصرتها من كل جانب، حيث قامت الحكومة السورية بقطع الكهرباء والاتصالات عن المدينة بشكل كامل، وشرعت بقصفها باستخدام الأسلحة الثقيلة والطيران المروحي، كان في داريا حينها عشرات الشبان المنضويين تحت مسمّى “الجيش السوري الحر”، وهو الاسم الذي كان يجمع فصائل المعارضة السورية المسلّحة آنذاك، كان معظمهم من المدنيين الذين قرروا حمل السلاح، إضافة لعدد من العناصر المنشّقة عن الجيش النظامي السوري.
ومع بداية الحملة العسكرية لم يصمد هؤلاء كثيراً، حيث سرعان ما انسحبوا من المدينة تحت وقع القصف الكثيف باتجاه مناطق محيطة بداريا شرقاً. فيما قُتل منهم (12) عسكرياً خلال عملية الاقتحام.
وقد زوّد مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بالإحصائية التي استطاع توثيقها بما يخصّ تلك المجزرة، حيث أفاد بتوثيق 512 اسماً لضحايا (12 منهم عسكريين)، وأوضح المركز أنّه تم توثيق وجود 200 جثة لم يتمّ التمكن من معرفة هوياتهم بسبب التشوه والحروق الشديدة التي تعرضوا لها. وقال المركز أنّ من ضمن الضحايا 52 طفلاً وطفلة إضافة إلى 39 امرأة.
ذروة عمليات القتل الجماعية في 24 آب/أغسطس 2012:
لجأ سكان مدينة داريا التي كانت محاطة بعناصر من الجيش السوري والأجهزة الأمنية إلى الأقبية هرباً من القصف المكثف الذي استمر أربعة أيام بدءاً من يوم 20 آب/أغسطس، وكان الأهالي متيقنين أن اقتحام المدينة من القوات المحاصِرة ماهي إلا مسألة وقت، وفي يوم 24 آب بدأت تلك القوات بالزحف نحو أحياء المدينة من الجهتين الشمالية (جهة مطار المزة العسكري) والشرقية الشمالية (جهة أوتستراد درعا الدولي). وكانت القوات المقتحمة معززة بالدبابات والعربات الثقيلة وعمدت إلى تقطيع أوصال المدينة وفصل أحيائها عن بعضها، وشرعت بعمليات مداهمة للمنازل والأقبية التي كان يختبئ بها الأهالي، وبدأت بتنفيذ عمليات إعدام ميداني بحق مدنيين دونما تمييز حتى إن عمليات الإعدام طالت نساء وأطفال.
“أبو محمد”، أحد شهود العيان على المجزرة، مازال يخشى على حياته بسبب إقامته في محافظة إدلب السورية، لذا فضّل استخدام الاسم المستعار ذاك، يعود بذاكرته إلى تلك الأيام ويتحدث حول مشاهداته قائلاً:
“يوم 24 آب استطاعت قوات النظام والميليشيات اقتحام المدينة وبدأت تنفيذ إعدامات ميدانية في كل حي تدخله ولم يسلم من بطشها طفل أو امرأة أو شيخ كبير، في ذلك اليوم حاوت الذهاب إلى بيت جدي في الجهة الشرقية من المدينة لكني لم أستطع الوصول إليه بسبب انتشار الدبابات والقناصة على شارع الكورنيش (في مدخل المدينة من الجهة الشمالية الشرقية) واستهدافهم لكل شيء يتحرك، عدت مسرعاً إلى بيتي في شارع الثورة وسط المدينة لأجد أن نصفه قد تدمر بسبب قذيفة هاون سقطت عليه ولم يصب أفراد عائلتي بأي أذى، وبدأت بجمع الأشياء الثمينة من تحت الأنقاض وكنت أفكر أين سأختبئ؟ ماذا سأفعل؟ كيف سأحمي عائلتي؟”
في تلك الأثناء لم يكن لدى الأهالي أدنى فكرة عن حجم وهول الكارثة التي نزلت على المدينة ولا حجم الإعدامات وعمليات التصفية التي حدثت، بسبب انقطاع الاتصالات وتقطيع أوصال المدينة حيث كان ورود الأخبار محدوداً.
تابع الناجي “أبو محمد” قائلاً: “لم أكن أتخيل أن تصل الأمور إلى هذا الحد من القتل والإعدام .. بعد قصف منزلي، توزع شبان الحي المهام جزء أخذ بمراقبة تحركات قوات النظام من أسطح المنازل وجزء آخر كان يبحث ضمن الأقبية عن أماكن للاختباء لوضع كبار السن والنساء والأطفال فيها، لاحقاً رصدنا تقدم قوات النظام نحو شارع الثورة وسط المدينة، وهناك يتواجد أحد أصدقائي، فهرعت مسرعاً لأحذره لم نكن نستطيع استخدام الاتصالات كون الحكومة قطعتها، وصلت إليه وحذرته وقررنا العودة إلى منزلي لكن تفاجئنا بأن قوات الحكومة قد حاصرت الحكي بالكامل ولم نستطع الدخول إليه، فعزمنا أمرنا أن نتجه إلى المنطقة الغربية من المدينة وهي منطقة مزارع (باتجاه المعضمية) وأثناء مسيرنا إلى هناك وجدنا عشرات الشبان يفرون نحو ذات المنطقة، اقترحت على صديقي أن نعود أدراجنا ونختبئ في أحد الأبنية التي لم يكتمل إنشاءها بعد، لكن صديقي رفض ذلك وافترقنا.. هو ذهب باتجاه المزارع وأنا عدت واختبأت في سقيفة بناء قيد الإنشاء”.
ليل دامي وصباح مؤلم:
مع غروب شمس يوم 24 آب/أغسطس 2021، أعادت قوات الحكومة السورية نشر عناصرها الذين كانوا يقومون بالاقتحامات على نقاط محددة في المدينة. حيث كانت إحدى تلك النقاط في البناء المجاور للمبنى الذي اختبأ فيه “أبو محمد”. حيث قال الناجي مضيفاً:
“مع غروب الشمس وصلت قوات النظام لحي الوحدة (قرب محطة القطار/وهي المنطقة التي اختبأت فيها) وتمركزت تلك القوات في بناء بجواري، ولحسن حظي أنهم لم يقوموا بتفتيش الأبنية التي لم يكتمل بناءها بعد. وعند حلول الليل انتشرت حواجز في كل المنطقة، كنت أستطيع مراقبتها من بعض الثقوب في الحائط، وكانت هذه الحواجز تعتقل كل من يتجرأ على المسير في الشارع، طول الليل كنت أسمع أصوات تعذيب المعتقلين الذين كانوا يعتقلونهم عن الحواجز، تملّكني خوف شديد وبقيت طوال الليل دون أي حراك”.
وأردف: “في الصباح تحركت قوات النظام من المنطقة لاستكمال عمليات المداهمة بباقي أحياء المدينة، عندها نزلت من مخبأي وتوجهت للبناء المجاور الذي أقامت به قوات النظام في الليلة السابقة.. كان المشهد مؤلما. لقد شاهدتُ مباشرة 24 جثة مرمية عند مدخل البناء والقبو وعليها آثار تعذيب شديد”.
وتابع: “جمعت شتات نفسي بعد أنّ خارت قواي نتيجة المشاهد المروّعة التي شاهدتها، وتوجهت نحو حيّنا لأطمئن على عائلتي وقبل وصولي إلى مكانهم ناداني أحد الجيران وقال لي تعال وانظر.. ونزلنا إلى قبو آخر كان مليئا بالجثث وجميعهم أعدموا برصاص في الرأس ولم أتمكن من التعرف على أي أحد منهم بسبب تشويه الجثث، ثم قمنا أنا وبعض شبان الحي بإخراج الجثث من الأقبية لنقلهم إلى المقبرة القبلية (الجنوبية) في المدينة، وعند وصولنا إلى المقبرة طلب منا أحد العاملين هناك أن ننقل الجثث إلى مسجد أبي سليمان الديراني، وقال لنا هناك قد فتحوا مقبرة جماعية لأن أعداد الجثث كثيرة، وعند وصولنا إلى المسجد كانت الفاجعة لا تصدق كان هناك مئات الجثث مكدسة فوق بعضها البعض داخل المسجد بانتظار حفر قبور جماعية بواسطة جرافة.. كانت الجثث تدفن بعد التقاط صورة لكل جثة وكان الدفن يحدث سريعاً من غير إقامة شواهد على القبور ومن دون التعرف على الجثث خوفا من عودة قوات الحكومة إلى المنقطة”.
المصدر: سوريون من أجل الحقيقة والعدالة