تشهد بلدات الجنوب الدمشقي حالة من التخبط السياسي والعسكري وعدم وجود رؤيا واضحة نظراً لما آلت إليه الأمور في الغوطة الشرقية، وبقاء البلدات الثلاث كآخر معقل للمعارضة السورية “المعتدلة” في دمشق وريفها، بعد سلسلة من العمليات العسكرية والتهجير القسري الذي انتهى بفرض النظام سيطرته على عشرات المناطق والبلدات.
وكان وفدٌ روسي قد زار نقاط التماس بين النظام السوري وفصائل المعارضة بالقرب من حاجز سيدي قداد بشكل مفاجئ قبل يومين بدون تنسيق مع المعارضة المسلحة أو النظام السوري، وطلب من ممثلي البلدات الثلاث (يلدا، ببيلا، بيت سحم) الحضور لتلقي رسالة بأن يحضّروا أنفسهم لمصير مشابه للغوطة الشرقية في حال تم رفض تسليم المنطقة والخروج السلمي لغير الراغبين بالتسويات والمُصالحات.
الاجتماع مع الروس حضره فقط ممثلين عن فصائل فرقة دمشق وشام الرسول وجيش الأبابيل ، في حين لم تحضر اللجنة السياسية الممثلة للبلدات الثلاث وجيش الإسلام وحركة أحرار الشام الإسلامية، نظراً لضيق الوقت وعدم التنسيق المُسبق من قبل الروس.
الزيارة جاءت بعد أن دخل الوفد إلى مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام في مخيم اليرموك لبحث آلية لخروج عناصر الهيئة تزامناً مع عمليات إخلاء تجري في الغوطة الشرقية.
وسارع مُمثلو البلدات الثلاث للخروج نحو “فرع الدوريات” التابع للأمن العسكري بعد الزيارة الروسية المفاجئة، الفرع المسؤول عن مصالحة المنطقة والهدنة التي تجري فيها منذ عام 2014، نفى معرفتهم بزيارة الروس أو التنسيق مع القيادة الأمنية للفرع، وقد أبلغ الفرع تلك اللجان أنه لا يرى الحل في الرؤية التي طرحها الروس لتلك البلدات، مُشيراً إلى أن هذا الطرح قد يودي بالمنطقة لسيناريو مشابه لما حصل في حي القدم، حين أقدم تنظيم داعش على شن هجوم عنيف أدى إلى سيطرته على حي المادنية ومقتل العشرات من قوات النظام التي كانت من المفترض أن تتسلم الحي من فصائل المعارضة التي رغبت بالخروج نحو شمال سوريا.
ورأى الفرع الأمني المقرّب من الجانب الإيراني أن خروج داعش من المنطقة هو من الأولويات الحالية لقيادة النظام الأمنية والعسكرية، مؤكداً ان الروس ومن مركزهم القوي والمُتحكم في سير العمليات العسكرية بريف دمشق، ذهبوا للقاء الفصائل والانفراد بالقرار فيما يخص المنطقة.
مصدر في اللجنة الممثلة للبلدات الثلاث قال لـ “صوت العاصمة” أن القيادة العسكرية والمدنية في تلك البلدات تميل في المرحلة الحالية لطرح النظام أكثر منه إلى الطرح الروسي، ويرغبون بإنهاء ملف داعش قبل بحث وضع البلدات التي تُسيطر عليها فصائل المعارضة المُسلحة، يأتي ذلك في ظل رغبة بعض الفصائل بالخروج الفوري إلى مدينة ادلب، مُفضّلين خيار التسليم على القيام بحرب نيابة عن نظام الأسد ضد تنظيم داعش، وهو الطرح الذي قدمه النظام للفصائل الراغبة بحل ملف البلدات الثلاث.
فصائل جيش الأبابيل وحركة أحرار الشام الإسلامية وفرقة دمشق، ابدت استعدادها للخروج من المنطقة حالياً، فيما انقسمت الآراء في فصيل شام الرسول بين مؤيد للخروج ومعارضه له. جيش الإسلام أصر على البقاء والقتال حتى الرمق الأخير ورفض فكرة الخروج نهائياً.
واستطلعت “صوت العاصمة” آراء مقاتلين اثنين من العاملين ضمن الفصائل العسكرية التي تفرض سيطرتها على المنطقة فيما ستؤول آليه الأمور في الأيام القادمة، فكان رأي (أبو فيصل) وهو اسم مستعار لأحد مقاتلي الجيش السوري الحر في بلدة يلدا: أن نظام الأسد يعمد منذ زمن بعيد بضرب قوى الصراع جنوب دمشق ببعضها البعض ويهدف إلى إنهاء مقاتلي المعارضة والتنظيم معاً، تارة عبر داعم مُباشر للتنظيم لقتال الفصائل مقابل تسهيل إدخال الأموال والأسلحة وإخراج جرحاه لتلقي العلاج في دمشق، وتارة أخرى مقابل نشر فكر ضرورة محاربة التنظيم من قبل فصائلنا برعاية أشخاص مُقربين منه ومحسوبين على لجان المصالحة، كان آخرها الطرح المُقدم من لجنة مصالحة بيت سحم في الاجتماع الاخير للقوى العسكرية الذي جرى منذ أيام.
ويُضيف: بعد إنهاك القوى المتصارعة سيتسلم النظام مناطق الجنوبي الدمشقي على طبق من ذهب دون الحاجة إلى أي مفاوضات.
أما أبو محمد الذي يعمل مع إحدى التشكيلات الإسلامية في المنطقة، فكان له رأي آخر بأنه لا يجب على الفصائل الانسحاب وترك أهالي الجنوب الدمشقي ليلاقوا مصيرهم على يد تنظيم داعش الذين يعتبرون أهالي تلك المناطق كُفار ومُرتدين، ولا يجب أن تخرج الفصائل العاملة في المنطقة قبل الانتهاء الجذري من ملف داعش في مناطق سيطرته.
يبدو أن المنطقة الجنوبية ستكون فصلاً من الصراع البارد بين الجانب الروسي الذي لم يصرّح عن رؤيته حول مصير داعش بعد، وبين النظام وحليفه الإيرانية القريب نسبياً من المنطقة ويسعى جاهداً للسيطرة عليها.
كلٌ من الطرفين يسعى لتقديم حل يتناسب مع مصالحه في المنطقة، فالروس لا يريدون أكثر من تأمين محيط العاصمة، بينما يسعى الإيرانيون وممثليهم في فرع فلسطين لإجراء تغيير ديموغرافي في المنطقة عبر إقحام الفصائل وتنظيم داعش في حرب طاحنة بين بعضهم تودي بحياة العشرات، ليتم تهجير ما تبقى منهم إلى شمال وجنوب سوريا، تزامناً مع تحصيل مكاسب فيما يخص ملف بلدتي “كفريا والفوعة” المُحاصرتين من قبل الفصائل العاملة شمال سوريا، خاصة أن تلك المناطق قد تم شملها في اتفاق المدن الأربع بين إيران وجيش الفتح سابقاً.
ملف الجنوب الدمشقي لطالما كان من أعقد الملفات نتيجة سيطرة عدة قوى مختلفة المنهج من داعش إلى المعارضة المسلحة التي تحوي فصائل إسلامية، وصولاً لهيئة تحرير الشام، ونظراً لموقع المنطقة الجغرافي الذي يطل قسم منه على طريق مطار دمشق الدولي، وقريب من منطقة السيدة زينب، فضلاً عن الأهمية الاقتصادية لمناطق سيطرة تنظيم داعش بعد إطلاق محافظة دمشق لمشروع تنظيمي جديد يحمل اسم “باسيليا سيتي” الذي يمتد من جنوب المتحلق الجنوبي إلى القدم وعسالي وشارع الثلاثين، والذي لم يُصرّح بالاسم الذي سيتبنى ذلك المشروع، فيما إن كان مقرباً من الروس أم من الإيرانيين.