بحث
بحث
صورة تعبيرية ـ الشبكة السورية لحقوق الإنسان

الإفراج عن معتقلي ريف دمشق.. خطوات “خُلّبية” نحو العدالة

هل هي “رسائل لتأديب الشارع”

“والدي من بلدة حمورية في ريف دمشق، جرت العديد من المحاولات لاعتقاله، إذ دوهم منزلنا مرات عدة، لكن سرعان ما انقضى الشهر الخامس من الثورة في البلدة، واُعتقل بتاريخ 23 من تشرين الثاني 2011 خلال مداهمة، وما زال معتقلًا حتى الآن، ولا تزال والدتي وأختي تنتظرانه في البلدة”.

بهذه الكلمات عبّر الشاب هيثم لعنب بلدي عن معاناته وعائلته خلال السنوات العشر الماضية، منذ اعتقال والده الذي كان من أوائل الناشطين في الاحتجاجات التي حدثت في ريف دمشق عام 2011 ضد النظام السوري.

هيثم من الأشخاص الذين لم يجدوا أحباءهم المغيبين خلف قضبان سجون النظام من بين المفرَج عنهم في دفعات الإفراج الأخيرة التي روّجت لها وسائل إعلام موالية للنظام السوري.

استاء أهالي المعتقلين من عمليات الإفراج المتكررة التي حدثت بمناطق ريف دمشق في الفترة الأخيرة، لعدة أسباب لم يقرؤوا فيها أهدافهم الحقيقية التي يناضلون من أجل تحقيقها.

تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع ناشطين حقوقيين ومحللين سياسيين مدى جدية حكومة النظام السوري في تعاملها مع ملف المعتقلين في أثناء إشرافها على الإفراجات المتكررة غير المشروطة في ريف دمشق التي بدأت في حزيران الماضي، بالإضافة إلى الرسائل التي تحملها، وإمكانية وجود خطوات إيجابية قد تضيفها هذه الإفراجات على طريق تحقيق العدالة لمعتقلي الرأي في سوريا.

ضحايا بتهمة “الإرهاب”.. من يجبر الضرر؟
اعتقلوه بطريقة وحشية، فمن كثرة الضرب انكسرت إحدى عظام صدره، ما أدى إلى ضيق نفَسه”، يروي هيثم تفاصيل اعتقال والده بحسرة، إذ ساق رجال الأمن والده إلى المعتقل، وبعد سبعة أشهر أتى خبر من أحد المُفرج عنهم مفاده أن والده كان في فرع “المخابرات الجوية”، وانتقل مع مجموعة من المعتقلين إلى سجن “صيدنايا العسكري”، وبعدها نُقل إلى سجن “عدرا المركزي”.

تمكنت عائلة هيثم من الاتصال بوالدهم المعتقل للاطمئنان عليه في أواخر عام 2014، “ورد اتصال من والدي يخبرنا فيه أن الأمن سيأخذه إلى سجن آخر لا يعرف مكانه، وبعد ذلك أخبرنا أشخاص أنه توفي في فرع (أمن الدولة)”، بحسب ما قاله هيثم.

ذهبت والدة هيثم إلى “الشرطة العسكرية” في منطقة القابون بدمشق عدة مرات لتتبع مصير زوجها، لكن دون أن تحصل على أي معلومات مؤكدة عن مصيره، فتارة يخبرونها أنه توفي، وتارة أخرى يخبرونها أنه لا يزال على قيد الحياة.

ولا تزال عائلة هيثم على أمل الوصول إلى أي معلومة قد تضمن لهم معرفة مصير أبيهم المعتقل.

تواصلت عنب بلدي مع أقارب أحد المفرج عنهم من مدينة دوما في ريف دمشق، المقيم خارج سوريا، وقد أُطلق سراح أخيه في الإفراجات الأخيرة التي حصلت في المنطقة.

قال الشاب لعنب بلدي (تحفظ على نشر اسمه لأسباب أمنية)، إن أخيه اُعتقل في شهر تموز عام 2018 بتهمة “الإرهاب” مع 30 شخصًا آخرين من مركز إيواء “الدوير”، وهو أحد مراكز الإيواء في مدينة دمشق، التي أقامتها حكومة النظام للنازحين من الغوطة الشرقية.

بعد ذلك تنقّل أخوه مع البقية بين الأفرع الأمنية في مدينة دمشق، فبقي فترة في “الأمن السياسي”، ليُنقل بعدها إلى فرع “الخطيب” الأمني، ثم إلى “المخابرات الجوية”، وسجن “صيدنايا”، ليستقر أخيرًا في سجن “عدرا”.

عاد الأخ المعتقل إلى فرع “الأمن العسكري”، ليُفرَج عنه من هناك بوضع صحي سيئ، وفق ما وصفه الشاب المقيم خارج سوريا، كما مُنع المعتقل المفرَج عنه حديثًا من الخروج من مدينة دوما، إذ تم وضعه تحت “الدراسة الأمنية”.

ولم يتم الإفراج سوى عن عدد قليل من المعتقلين في الدفعات الأخيرة من الذين أُفرج عنهم، إذ إن أغلب المُفرج عنهم هم من الموقوفين بجرائم جنائية، وفق ما قاله الشاب، ففي مدينة دوما فقط يوجد 2500 معتقل مغيبين قسرًا، أُفرج عن خمسة منهم فقط.

تحدثت عنب بلدي مع المعتقل السابق عدنان ياسين، وذلك لاطلاعه على وضع المعتقلين من ريف دمشق داخل مراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري،

كان عدنان ياسين ضمن الذين لجؤوا إلى مراكز الإيواء بعد حملة القصف والحصار التي شهدتها بلدة حمورية في ريف دمشق عام 2018.

مكث عدنان في المركز لمدة يومين، إذ أقدم بعدها عناصر يتبعون إلى “الفرقة الرابعة” على اعتقاله بتاريخ 20 من آذار من العام نفسه، حيث كان من أوائل الأشخاص الذين اُعتقلوا في الحملات التي طالت مراكز الإيواء، التي كان يقيم فيها الرجال والنساء من ذوي ضحايا القصف على مدن الغوطة الشرقية.

تعرض المعتقل السابق عدنان لعمليات تعذيب عديدة خلال استجوابه في مقر “الفرقة الرابعة” الذي اُعتقل فيه مدة 30 يومًا، إذ تعرض للتعذيب من خلال “الصعق الكهربائي وبساط الريح”، وهي إحدى وسائل التعذيب المتبعة في السجون السورية.

كما شهد عدنان أربع عمليات قتل تحت التعذيب لشبان ينحدرون من بلدة دير العصافير في ريف دمشق.

“كانت هناك عمليات تعذيب ممنهج يوميًا، وكل يوم كان هناك موقوفون جدد وأموات جدد، وأنا صرت كالحائط، إذ فقدتُ قدرتي على الكلام”، وفق ما رواه عدنان من تفاصيل اعتقاله، بالإضافة إلى أنه نُقل من مقر “الفرقة الرابعة” إلى فرع “مكافحة الإرهاب”، المكان الذي تعرض فيه أيضًا لعمليات تعذيب.

“أتى أحد المساعدين وهو من بلدة الفوعة وبدأ بشتمي، ثم أخذني إلى زنزانة التعذيب وأزال الغطاء عن وجهي، حيث كانت هناك امرأة عارية ظهرت على جسدها آثار التعذيب، وبدأ بتعذيبها متوعدًا بأنه سيأتي بكل نساء الغوطة المحتجزات في مراكز الإيواء ليكون مصيرهم مثل مصير هذه المرأة”، وفق ما قاله المعتقل السابق عدنان ياسين.

قال معتقل سابق آخر من الغوطة الشرقية تواصلت عنب بلدي معه، إنه اُعتقل في شهر تشرين الثاني من عام 2011، فقط بسبب تصوير المظاهرات والهتاف فيها.

تم تحويل المعتقل السابق (تحفظ على نشر اسمه لأسباب أمنية) إلى المحكمة “الميدانية العسكرية” في منطقة القابون، على الرغم من أنه مدني، ومنها إلى سجن “صيدنايا” في 2013، ومن ثم إلى سجن “عدرا”.

نصّت مذكرة توقيف الشاب على عدة تهم، أبرزها “تحريض على القيام بعمليات إرهابية”، وفق ما قاله المعتقل السابق، وحُكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات ونصف، وخرج في أواخر عام 2015.

وفي عام 2014، عندما كان الشاب في السجن، عُرض عليه من قبل مجموعة من الأشخاص الانضمام إلى قوات “الدفاع الوطني” الرديفة للنظام السوري، مقابل الإفراج عنه من سجن “عدرا”.

جُرّد الشاب من أمواله المنقولة وغير المنقولة عن طريق الحجز عليها وفق قانون “مكافحة الإرهاب” رقم “19” لعام 2012.

وعلى الرغم من تجريده من كل تلك الحقوق، كان النظام السوري يصر على إلحاق الأشخاص المفرَج عنهم في صفوف قواته العسكرية، وذلك عبر تحويلهم إلى لجان أمنية، وإخضاعهم إلى “تسوية” أوضاعهم لينضموا بعد ذلك إلى صفوف الاحتياط في قوات النظام السوري.

اعتقالات كثيرة تقابلها إفراجات ضئيلة
شكّل مشهد الحافلة التي حملت المعتقلين المفرج عنهم، في 5 من حزيران الماضي، صدمة لأهالي مدينة دوما المحتشدين بانتظار أبنائهم المعتقلين.

إذ حملت هذه الحافلة، بالإضافة إلى خيبة أمل الأهالي الذين لم يعثروا على وجوه أبنائهم بين المفرَج عنهم من سجون النظام السوري، تضاربًا في أرقام المفرَج عنهم أيضًا، بين ما أعلنته وسائل إعلام موالية للنظام، وما قاله ناشطون من أهالي دوما نفسها.

وذكرت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) أنه تم الإفراج عن 26 معتقلًا، وفق ما سمّاه النظام “مبادرة الوفاء”، التي أطلقها رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في أيار الماضي.

بينما قال الناشط الحقوقي ثائر حجازي، من أبناء مدينة دوما، إن العدد الموثق الذي استطاع الحصول عليه للمفرَج عنهم هو 13 شخصًا موثقين بالاسم، في الوقت الذي يبلغ فيه عدد معتقلي المدينة 2090 شخصًا، أو ما نسبته 73% من إجمالي عدد الذين اعتُقلوا من المدينة، داخل مراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري حتى اليوم، بحسب أرقام حصلت عليها عنب بلدي سابقًا من “مركز توثيق الانتهاكات في سوريا” (VDC).

وفي 3 من تموز الحالي، أفرج النظام عن 24 معتقلًا من أبناء دوما، وفق ما أعلنه محافظ ريف دمشق، معتز أبو النصر جمران، لإذاعة “شام إف إم” المقربة من النظام.

وتضارب هذا الرقم أيضًا مع الرقم الذي أعلنته صحيفة “الوطن” المحلية والمقربة من النظام، وهو 23 معتقلًا.

ولم يفرَج خلال السنوات الماضية سوى عن 19.9% من أبناء دوما الذين اعتُقلوا لتهم مختلفة، تتعلق بالغالب بأنشطتهم المناهضة للنظام، التي يدرجها في خانة “الإرهاب”، بينما وصل العدد الإجمالي للمعتقلين من أبناء دوما إلى 2825 شخصًا، أُفرج عن 536 معتقلًا منهم فقط.

وتواصل أجهزة الأمن التابعة للنظام السوري عمليات الاعتقال في المناطق المنخرطة في “تسويات المصالحة”، في مخالفة واضحة لبنود القرار الأممي رقم “2254”، التي تنص على الإفراج عن المعتقلين السوريين داخل مراكز الاعتقال، وفقًا لتقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.

وفي 12 من حزيران الماضي، أفرج النظام السوري عن 28 معتقلًا من مدينة عربين في الغوطة الشرقية، “ممن لم تتلوث أيديهم بالدماء”، لكن الناشط ثائر حجازي، أوضح لعنب بلدي أن حافلة واحدة فقط دخلت المدينة تحمل 14 راكبًا، ومن بين هؤلاء الـ14 شخصان من فئة معتقلي الرأي، اعتقل الأول منذ شهر، والثاني منذ سبعة أشهر.

في حين بلغت التوثيقات من معتقلي منطقة عربين 439 معتقلًا، منهم من قُتل تحت التعذيب، بحسب “مركز توثيق الانتهاكات في سوريا”.

وبعد الإفراج عن 412 معتقلًا خلال السنوات الماضية، وتوثيق مقتل 37 شخصًا تحت التعذيب، يبلغ عدد معتقلي المدينة 361، وفق إحصائيات المركز.

وبحسب تقرير “الشبكة السورية” للعام الحالي، فإن أعداد المعتقلين في سوريا منذ شباط 2012 وحتى آذار الماضي، فاقت 127 ألف معتقل، يقبع أكثر من 100 ألف شخص منهم في سجون النظام.

واعتبر مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، في كانون الثاني الماضي، أن ما تم تحقيقه في ملف تبادل المعتقلين إلى الآن “مخيّب للآمال”، وأن ملف المعتقلين لم يشهد أي تقدم حقيقي، بحسب قوله.

وكان النظام أفرج عن 32 شخصًا من أبناء بلدة كفر بطنا في غوطة دمشق الشرقية في 19 من حزيران الماضي، مضى على اعتقال بعضهم عدة أشهر بجرائم جنائية بسيطة، باستثناء أربعة أشخاص من المعتقلين السياسيين الموقوفين منذ عدة سنوات، وفق حديث الناشط ثائر حجازي إلى عنب بلدي.

استياء عام يخيّم على العائلات
بينما كانت وسائل إعلام موالية للنظام السوري تروّج للدفعات الخمس التي أفرجت عن 142 سجينًا من مناطق ريف دمشق، استاء أهالي معتقلي الرأي بسبب عدد المفرَج عنهم الضئيل مقارنة بعدد المعتقلين السوريين الكبير المسجل لدى مراكز حقوقية سورية ودولية داخل السجون التابعة للنظام.

ولم تكن دفعات الإفراج عن المعتقلين الأخيرة في ريف دمشق خطوات تفيد بشكل فعلي في تغيير الوضع الحقوقي لهذه القضية، وفق ما قالته عضو “رابطة عائلات قيصر” ياسمين مشعان في حديث إلى عنب بلدي.

والاستياء العام الذي خيّم على عائلات معتقلي الرأي هو بسبب الدعاية التي روّج لها النظام في أثناء إطلاق سراح المعتقلين، وفق ما تراه مشعان، إذ تعتبر سابقة للسلطة في سوريا أن تقيم حفل استقبال رسميًا في مدينة دوما لـ26 معتقلًا مفرجًا عنهم، بحضور شخصيات رسمية، منهم محافظ ريف دمشق، معتز أبو النصر جمران، ومدير أوقاف ريف دمشق، خضر شحرور.

و”على الرغم من فرحتي بالمفرَج عنهم بشكل كبير وخلاصهم، خصوصًا من له سنوات في المعتقل، ولكن هذه الإفراجات تعتبر تمييعًا للقضية الأساسية وملف المعتقلين”، وفق ما قالته مشعان، خصوصًا بعد الضغط الذي شكّلته روابط عائلات المعتقلين السوريين مؤخرًا بالمطالبة بوجود آلية لضمان الإفراج عن معتقلي الرأي في سجون النظام بشكل مباشر دون الانتظار لإقامة “تسويات” سياسية بين أطراف النزاع.

غياب المعايير الواضحة للإفراج
الإفراج عن المعتقلين في سوريا يكون في أغلب الأوقات بعد حدوث مناسبة سياسية لمصلحة السلطة في سوريا.

وتأتي الدفعات المتكررة الأخيرة للإفراج عن المعتقلين على خلفية زيارة رئيس النظام السوري، بشار الأسد، إلى مدينة دوما في غوطة دمشق الشرقية خلال تصويته في الانتخابات الرئاسية التي أعلنت دمشق فوزه بها لولاية رابعة.

وبذلك، فإن الإفراج عن المعتقلين مرهون بحدوث تغيرات سياسية تمد النظام بالقوة أكثر، دون الاستناد إلى أرضية حقوقية واضحة المعايير، وهو سبب آخر لاستياء أهالي المعتقلين من تلك الإفراجات، وفق ما تعتقده الناشطة السورية وإحدى مؤسسات حركة “عائلات من أجل الحرية” بيان شربجي في حديث إلى عنب بلدي، التي هي أيضًا شقيقة الناشطَين المعتقلَين معن ويحيى شربجي، من أبناء مدينة داريا في ريف دمشق.

عدم وجود معايير واضحة للإفراج غير المشروط عن معتقلي الرأي في سوريا يخلق لدى أهالي المعتقلين توقعًا دائمًا بخروج ذويهم في كل دفعة جديدة يعلن عنها النظام، وحين لا يجدون ذويهم من بين المفرَج عنهم، يزيد شعور الاستياء أكثر لأن عمليات الإفراج هذه لم تشمل الجميع، وفق ما عبّرت عنه شربجي.

وحين لا تكون هناك نوايا لدى النظام السوري للإفراج عن جميع المعتقلين في سجونه، تكون أي عملية إفراج هي عبارة عن استغلال بعيدًا عن وجود رغبة حقيقية بحل ملف المعتقلين في سوريا، بحسب ما قالته شربجي.

وكان ضمن المفرَج عنهم بعض المحكومين بجرائم جنائية، مشيرة إلى أن جميع المفرَج عنهم من معتقلي الرأي أو غيرهم هم بنظر السلطة مجرمون بحكم تشريعاتها على السواء.

ومعظم المعتقلين في سوريا يحالون إلى محكمة “الإرهاب” بموجب قانون “مكافحة الإرهاب” رقم “12” لعام 2012، بجرم الإخلال بالأمن العام أو زعزعة نظام الحكم أو كيان الدولة.

وهناك عدم إشراك لأهالي المعتقلين بملفهم في كل عملية إفراج غير مشروط تقوم بها السلطة في سوريا، و”هذا الذي نعمل عليه الآن كعائلات من خلال الآلية التي طرحناها الشهر الماضي، والتي شرطها تضمين الأهالي والضحايا بالحل، وأن يكون الحل كما يراه الأهالي وضمن رؤيتهم”، وفق الناشطة السورية شربجي.

قوة الإفراج ما زالت بيد السلطة
يدرك النظام السوري أن ملف المعتقلين من الملفات السيادية التي يتحكم بها ويستعملها كورقة ضغط في المفاوضات السياسية بين الدول الفاعلة في سوريا، وبالتالي فإن الإفراج عن عدد ولو كان ضئيلًا من معتقلي الرأي، هو إشارة إلى المجتمع السوري والدولي بأن القوة لا تزال بيد النظام فيما يتعلق بملف حقوق المعتقلين، وفق ما يراه مدير مبادرة “تعافي”، أحمد حلمي، في حديث إلى عنب بلدي.

ملف المعتقلين وحقوقهم في سوريا هو من أبرز الملفات السيادية التي لا تزال تحت قوة النظام، ويستعمله كـ“مسرحية تبييض أمام المجتمع الدولي”، من أجل أن يظهر النظام على أنه العامل الأساسي في حل ملف المعتقلين والمختفين قسرًا، بحسب ما يراه حلمي.

وينجح النظام السوري في ذلك وسط العوائق التي تقف أمام المنظمات الحقوقية السورية لضمان إطلاق سراح المعتقلين، إذ لا توجد إرادة دولية سياسية حقيقية لوقف انتهاكات النظام، وفق حلمي، بالإضافة إلى أن النظام “متمرس في لعبة المماطلة” قبل أن يخضع إلى أي تسوية سياسية أو حقوقية تميل إلى مصلحة المعتقلين.

الإفراجات.. رسائل لـ”تأديب الشارع”
يتعامل النظام السوري بمجرد الحديث بشأن قضية المعتقلين بتحفّظ وحرص، إذ لا يعترف بأعداد المعتقلين الكثيرة التي تغص بها سجونه، وينكر ما يرتبط بهذا الموضوع من قضايا تعذيب وتصفيات، على الرغم من معرفته أن الشارع يعي ويعرف ما تخفيه جدران المعتقلات التي كرّس النظام من خلالها شبح الخوف والترهيب بين الناس.

والتعامل مع قضية المعتقلين بهذه الطريقة يعكس محاولة النظام إهانة قضية نبيلة وجوهرية في حياة السوريين، وفق ما قاله المحلل السياسي حسن النيفي في حديث إلى عنب بلدي.

فإفراجه عن العشرات مقابل اعتقاله أكثر من 100 ألف شخص، تقليل من شأن القضية، وأسلوب لا يليق بالأولوية التي يشكّلها ملف المعتقلين للشعب السوري.

واعتبر النيفي أن خلق مسار “أستانة” وسيلة للالتفاف على مسار “جنيف” الذي كان من المفترض أن يفضي إلى تغيير النظام عبر الانتقال السياسي، لافتًا إلى حضور قضية المعتقلين في البنود رقم “12” و”13″ و”14″ من القرار “2254”.

إلا أن موسكو سعت لإفراغ القرارات الأممية من مضمونها السياسي، وفق ما قاله المحلل السياسي، وهي تدعم النظام للالتفاف على قضية المعتقلين الحاضرة كبند إلزامي وفوق تفاوضي في أي مسار سياسي بين النظام السوري والمعارضة.

ويرى النيفي أن اعتماد النظام على الاعتقال قائم على توجيه خطابات تخويف وذعر نفسي صامتة للآخرين، فالإمعان بتعذيب السجناء وإخراجهم هياكل عظمية تمشي على قدمين رسالة تخويف وترويع للناس بغرض “تأديب الشارع”.

وبالعودة إلى تاريخ النظام منذ أيام حكم الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، فإن قضايا حقوق الإنسان وحملات الاعتقال والتعذيب في أقبية السجون، لم تكن قضايا مثارة من قبل المجتمع الدولي أو أي طرف آخر، بحسب المحلل السياسي.

وأضاف بشار الأسد في فترة رئاسته لسوريا إلى تلك الجرائم مزيدًا من عمليات الاعتقال، دون أن يقدم المجتمع الدولي وسيلة إلزامية رادعة للنظام، ولم يضع محاسبته موضع التطبيق، وهو ما يمكن اعتباره تطمينات للنظام لارتكاب جرائمه بدم بارد.

واعتمد النظام السوري سياسة القبضة الأمنية للاستمرار في السلطة منذ عام 1970، وبرزت خلال حكم الأسد الأب سجون مثل “صيدنايا” و”تدمر” و”المزة العسكري” وسواها، امتلأت بالمعتقلين من مختلف التيارات السياسية.

واستمر بشار الأسد على نهج أبيه في سياسة الاعتقال مع توليه السلطة في عام 2000، وتفاقمت مع بدء الثورة، فامتلأت السجون والمعتقلات.

وتشكّل قضية المعتقلين هاجسًا لدى الشارع السوري في سوريا، وعلى الرغم من مطالبات كثيرة ونشاط متزايد من قبل منظمات حقوقية عديدة للمطالبة بإطلاق سراحهم ومنحهم حريتهم المسلوبة دون شرط، يطلق النظام سراح أعداد قليلة جدًا منهم، ويقدم ذلك عبر وسائل إعلامه على أنه “مكرمة من السيد الرئيس”، في الوقت الذي يحتفظ فيه بأكثر من 100 ألف معتقل مجهولي المصير.

المصدر: عنب بلدي