ليس مفاجئاً أن ينحسر معظم ما قدمه ناشطو الغوطة الشرقية، إلى حد كبير، بالتغطيات الصحافية من تحت الأرض وفي الملاجئ، فحملة القصف التي يقوم بها النظام وحليفه الروسي على المنطقة منذ حوالي شهر كامل مطبقاً فيها سياسة الأرض المحروقة، فضلا عن الحصار الطويل الممتد من العام 2013، جعل محاولة التشبث بالحياة على السطح شبه مستحيلة.
ومنذ الأيام الأولى لحملة الإبادة الأسدية، برز ناشطو الغوطة بشكل غير مالوف في مشهدية الحرب السورية، فلم يكن هنالك تركيز على أماكن سقوط القذائف أو إحصاء لعدد القتلى ورصد لما يتم تدميره في كل غارة بشكل تقرير ميداني، فقط، بل كانت الحالة الإنسانية طاغية، بمقابلات حية مع الأحياء من المدنيين في الملاجئ، وصور للناجين تحت الأرض ليوم إضافي آخر بانتظار قذيقة صاروخ أو برميل متفجر أو غاز سام، قد يقضي على أمنهم الهش في أي لحظة، وكأن كل منشور يخرج من الغوطة يصرخ فقط: “لا نريد الموت بصمت” و”يجب على العالم أن يسمع قصتنا”.
ومن أصغر ناشطي الغوطة، محمد نجم الذي يبلغ من العمر 15 عاماً، إلى الناشط البارز براء عبد الرحمن، مروراً ببعض المدنيين ممن مازلوا قادرين على البث من حين إلى آخر، تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بتوثيق مدهش ومؤلم للحياة تحت الأرض، حيث النساء والأطفال في صدارة المشهد الصارخ من أجل تحصيل الحق في الحياة وليس للرغبة فيها فقط رغم الموت القسري، وإن كان ذلك ليس كافياً للأسف أمام الهمجية التي لم يوقفها حتى قرار مجلس الأمن الأخير الخاص بفرض هدنة شاملة في البلاد مؤخراً.
ويمكن تلمس ما سبق، فيما تبثه الناشطة نيفين الحوتري عبر حسابها في “فايسبوك”، وهي أم تعيش في الغوطة الشرقية، وتحلم بأن يتوقف القصف لساعة واحدة فقط كي تتمكن هي وطفلاها من الخلود للنوم الذي تمنعهم عنه صواريخ النظام المنهمرة كالحمم البركانية على مدار الساعة، حسب وصفها.
وبين سرد واقعها البائس في الملجأ الذي تسميه “المعتقل”، تتذكر حياتها القديمة بمزيج من الشاعرية والكوميديا السوداء التي لا تضحك بقدر ما تعتصر القلب عند قراءتها: “بالمعتقل.. بنام بطريقة أقرب ما يكون لفوق بعض.. أو على نفس الجنب.. أولا لأننا كتار والمكان ما بيوسع.. تانيا بندفي بعض.. كتير برد وما في أغطية كافية، بالمعتقل الزيارات ممنوعة، والتغطية والاتصالات مقطوعة، إذا الأخت ساكنة بالبناء المجاور صعب الوصول إلها”.
وفيما تروي الحوتري (38 عاماً) حكايات قبل النوم لطفليها، مايا وقصي، اللذين باتا يحلمان باسترجاع مخاوفها القديمة قبل التعرف على الخوف الحقيقي من القصف والصواريخ، تكتب: “في المعتقل، الزنزانة الجماعية، نرفع رؤوسنا وننظر للعالم من نافذة صغيرة.. السماء بعيدة وتصعب رؤيتها، محجوزة من كافة أنواع الطيران.. نشرتنا الجوية براميل وصواريخ وشظايا، وإن توفرت لنا وجبة طعام واحدة في اليوم فنحن من المحظوظين”، في حال تمكنت من الاتصال بالإنترنت بطبيعة الحال.
الحالة انتقلت بدورها إلى وسائل الإعلام المعارضة (أورينت، روزنة، زمان الوصل،..) التي رصدت حياة المدنيين داخل الملاجئ، كما مد بعض الناشطين وسائل إعلام كبرى (سي إن إن، يورو نيوز،..) بمقاطع توثق الحالة المأساوية داخل الغوطة، لدحض سردية النظام التي يدعي فيها أن العملية العسكرية في الغوطة ليست سوى محاربة لجماعات إرهابية مرتبطة بتنظيم “القاعدة” في الغوطة وأن النظام لا يقتل المدنيين الموجودين هناك بل “يحميهم”.
وزورت وسائل إعلام النظام العديد من المقاطع من داخل الغوطة حسبما أشار ناشطون، بما في ذلك استيلاء النظام على عدد من المقاطع ورفع أعلامه في مناطق آخرى، كما أن الحديث المتكرر في خطاب دمشق وموسكو عن الممرات الآمنة، غير اموجود أصلاً، وانتهاكها المزعوم من قبل المعارضة، يخدم غرضاً واحداً هو جعل هجمات النظام ضد المدنيين “شرعية” و”مبررة”، ما يجعل المقاطع الإنسانية المصورة داخل الغوطة شديدة الأهمية للرد على تلك الادعاءات وإظهار الحرب على حقيقتها.
وصوّر فراس عبد الله، الشاب المتطوع في الدفاع المدني قبل أيام، مدنيين بينهم أطفال في أحد الملاجئ، مختبئين من القذائف التي يسمع دويّها خارجاً، متحّدثاً أثناء تنقله داخل أحد الأنفاق باللغة الانجليزية: “نحن الآن تحت الأرض وهذه الأنفاق نستعملها كأنفاق في الغوطة الشرقية. الناس هنا يختبئون من قصف الطيران المكثف ومن البراميل المتفجرة التي يتمّ إلقاؤها عبر الطوافات العسكرية”. ويصوّر الشريط أيضاً الحالة البائسة التي يعيش فيها المدنيون حيث يصف رجل يتكلم في الشريط المكان بـ”الوسخ” وبالمكان غير المُهيّأ للسكن.
وعبر “تويتر” يمكن مشاهدة الأطفال في الملاجئ وهم يرفعون يدهم اليمنى مخاطبين العالم أنهم مازالوا على قيد الحياة، ويمكن الاستماع لهم يتحدثون عن حياتهم السابقة وأوضاعهم الحالية في مقاطع فيديو عفوية، مثل المقطع الذي نشره الناشط محمد نجم في كانون الأول/ديسمبر الماضي، ويتحدث فيه الأطفال عن أمنياتهم بمناسبة العام الجديد، والتي لا تتعدى أمنية صبي صغير برؤية والده المعتقل في سجون النظام، أو رغبة صبي آخر ألا يضطر لحمل الماء والحطب بعد الآن، ورغم أن الفيديو نفسه حصل قبل اشتداد الحملة العسكرية الأخيرة، إلا أن حالة الحصار والقصف لم تتوقف في الغوطة منذ خمس سنوات كاملة.
وبعد سنوات من حصار المنطقة، قالت منظمة أطباء بلا حدود أن الجيش السوري قصف المنطقة على مدار الساعة تقريباً خلال الأسبوعين الماضيين ما أسفر عن مقتل أكثر من ألف شخص، وأدت سياسة الأرض المحروقة إلى سيطرة جيش النظام على نصف الغوطة الشرقية تقريباً بعد فصلها إلى قسمين، مع منعه المدنيين من الخروج عبر المعبر الآمن الوحيد المتوفر الذي يتعرض للقصف بدوره، علماً أن الأمم المتحدة تقدر عدد المدنيين المحاصرين في المنطقة بنحو 400 ألف إنسان.
المصدر: جريدة المدن الالكترونية