بحث
بحث

المدن: اتفاق القاهرة.. وتدويل ملف الجنوب الدمشقي



المدن – 

لاقى الإعلان عن اتفاق القاهرة بخصوص “وقف إطلاق النار” في منطقة الجنوب الدمشقي، ردود أفعال متفاوتة بين الرفض والقبول، من قاطني المنطقة بعسكريّيها ومدنيّيها. تسخين الملف مجدّداً، بعد موجة احتجاجات رافضة للتهجير، قبل نحو شهر، ردّاً على ما أشيع عن صفقة إيرانية-تركية، أعاد إلى الواجهة النزاع الداخلي وافتراق المشاريع في المنطقة، بين أطراف تميلُ لعقد اتفاق مع النظام بشكل مباشر على شكل تسوية أو “مصالحة”، وأطراف تميلُ إلى اتفاقٍ دوليّ لا يتضمّن ما تأتي به “المصالحة” من تهجيرٍ وتسليم سلاح وتسوية أوضاع، وسيادة النظام على المنطقة.

تيار “المصالحة” وأنصاره، أعلنوا بشكل واضح رفضهم لاتفاقٍ ليسوا طرفاً فيه، وقالوا إن مصير المنطقة يُقرّ عبر “اللجنة السياسية” الممثّلة للتجمعات المدنية والقوى العسكرية، لا عبر اتفاقٍ جانبي يخطُّه قسمٌ من “اللجنة” وعبر تمثيل فصائليّ مباشر. والحديث هنا عن “جيش الإسلام” و”جيش الأبابيل” و”كتائب أكناف بيت المقدس”. كما أكّد تيار “المصالحة” مرّة أخرى على أولوية “التسوية” مع الجهات المعنية في الحكومة السورية، مُشيرين إلى أن مسار التفاوض والتفاهم مع الحكومة قد قطع أشواطاً طويلة. هذا الموقف أعلنه عضو “اللجنة السياسية”، ممثل بلدة ببيلا الشيخ أنس الطويل، في خطبة الجمعة. وتلا ذلك مساعٍ حثيثة على أرض الواقع، لتكريس رفض الاتفاق في بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم، في محاولة لإفشال اتفاق “القاهرة”. ويتضمن ذلك أيضاً، العودة خطوة إلى الوراء في العملية التفاوضية، إلى ما قبل اتفاق “المدن الأربع”، عندما كان الحديث عن اتفاق “تسوية” من مرحلتين، تنتهي الأولى بخروج تنظيم “الدولة”، من ثمّ تبدأ الثانية والتي تشابه إلى حدٍ بعيد “المصالحة” التي يطرحها النظام، مع فارقٍ زمني أكبر للمنشقّين والمتخلّفين عن “الخدمة الإلزاميّة”.

جهود أنصار “المصالحة” لا يتوقّع أن تتوقف في القريب، نتيجة مجموعة إضافية من أسباب رفض الاتفاق، منها المعلن ومنها المبطّن. فالمعلن والمشروع في حقيقة الأمر، يبدأ بالتخوف من القصف وعودة الحصار والتضييق على الحاجز والاعتقالات، كما يحصل في غوطة دمشق الشرقية، النموذج الأكثر طرحاً في الهجوم على مشروعية “خفض التصعيد”. في حين أن المبطّن مبني على أن تطبيق الاتفاق فعلياً سيؤدي، بحسب فهم تيار “المصالحة”، إلى تقويض دورهم السياسي المستمر منذ ثلاث سنوات، ما سيبعدهم عن دائرة صنع القرار وقيادة دفة العمل السياسي داخل المنطقة، على الرّغم من كون هذا التنبؤ غير واقعي إلى حدٍ بعيد.

الجهات الثورية العسكرية في المنطقة لم تكن أحسن حالاً، ظاهرياً على الأقل، رغم وجود كتلة عسكرية وازنة؛ قرابة ثُلثيّ القوة العسكرية في المنطقة، طرفاً في اتفاق القاهرة. إلّا أنّ خلافاً ظهر بين الأطراف الموقّعة، وتلك التي لم تكن طرفاً فيه، حيث أبدت الأخيرة خشيتها وحذرها منه، بسبب غموضه، ومحاولاته نسف مقرّرات جنيف 1 و2، وتجاوزها إلى الأستانة، على الرغم من إشارة الإعلان التمهيدي إلى “قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالأزمة السورية”، من دون تحديدها، وتأجيل ذلك إلى الاتفاق النهائي. هذا بالإضافة إلى تخوّف هذه الفصائل من محاولات تهميشها، والتوجّس من احتمال التفرّد والتسيّد في المنطقة، من قبل الفصائل الموقّعة. وذاك يندرج في إطار البحث عن موطئ قدم في الاتفاق. وهذا رفض نسبيّ يمكن للفصائل الموقّعة معالجته. وعليه، تجدر الإشارة إلى بياناتٍ أصدرتها فصائل في المنطقة، ومنها “لواء شام الرسول” و”فرقة دمشق”، تعلنان رفضهما لأي اتفاقٍ يرعاه الجربا (رئيس الإئتلاف الأسبق) وتياره في مصر، في ما يخص جنوبي دمشق. وتبيّن بعد ذلك أن الجربا، لم يكن في اتفاق القاهرة، ظاهرياً على الأقل، بحسب مصادر “المدن”، من دون القدرة على الجزم بعدم وجوده في كواليس إنضاج الاتفاق.

في المقابل، مؤيّدو الاتفاق تنفّسوا الصعداء قليلاً، مع الإعلان عن توقيعه في مصر، كونه أقلّ الخيارات المطروحة على طاولة التفاوض سوءاً، إذ لا تهجير ولا تغيير ديموغرافياً، ولا تسليم سلاح ولا تهديد باقتحام، لكن من دون اطمئنانٍ تام، خوفاً من تراخ روسيّ في تطبيق ضغط حقيقيّ على النظام، لتنفيذه، من دون عوائق، أو محاولات ثأر من الأهالي وسكان المنطقة خاصّة على حاجز ببيلا-سيدي مقداد، الفاصل عن العاصمة دمشق. بينما ينتظر أن يتجلّى الموقف الإيراني مما يحصل في جنوب دمشق، وهي الحالمة بـ”ضاحية جنوبية لدمشق”، تكلّل فيها إنجازاتها في “التغيير الديموغرافي” على امتداد خريطة دمشق وريفها.

ومع هذه التطورّات اللافتة يمكن اعتبار “خفض التصعيد” في ما لو أقرّ فعلياً، بمثابة خطوة أولى في إطار تسوية ملف “جنوب دمشق” كاملاً، إذ تبقى مناطق سيطرة تنظيم “داعش”، بلا حسم حقيقيّ، على الرّغم من الغارات الجوية التي نفّذها سلاح الجو الروسي والسوري، قبل أيام، بعد هدوء دام عامين ونصف العام. ورغم ذلك، فإن جبهات التنظيم كانت ولا زالت باردة وهادئة، ما يؤشّر إلى أن الغارات هي مجرّد رسائل إيقاظ، لربّما تكون فاتحة لحل سلميّ بين النظام والتنظيم. من جهة ثانية، فقد تكون الغارات إعلاماً للتنظيم ولفصائل المعارضة في البلدات المجاورة، بأن خيار المواجهة العسكرية أمام التنظيم لا يزال ممكناً، كما أن احتمال إلحاق الضرر والأذى لا يزال مفتوحاً أمام المعارضة التي قفزت من مركب التفاوض المحلّي، إلى سفينة المفاوضات الدوليّة، في حالة نكران وتشفّ من النظام، كما فهمها وعبّر عنها.

وتعيش المناطق المعنية بـ”االإعلان التمهيدي”؛ بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم ومنطقة سليخة، وحي القدم، على وقع ضغوطٍ كبيرة تمارس خلف الكواليس، وبطرق ملتوية، إذ اعتبر النظام “تدويل” ملف جنوبي دمشق خيانة لسنوات “الهدنة” الثلاث، والتي أمِلَ منها أن تكون قد عبّدت الطريق إلى “المصالحة”، فيما كانت طعنة المعارضة قاسية هذه المرة، بالذهاب إلى اتفاق مع الروس من دون النظام. وبالتالي، وعلى الرّغم من تحوّل النظام إلى مجرّد أداة من أدوات الحلفين؛ الروسي والإيراني، إلّا أنه ما زال بإمكانه إلحاق ضرر ما بأعدائه، عبر وسائل غير إنسانية، لكنّها أقل تصعيداً من القصف والقتل. وهنا يكمن تحدّي البيت الداخلي المرتّب لمواجهة مرحلة قد تطول من ضغط النظام، قد تخسر المنطقة فيها الغذاء والتجارة وحرية الحركة وتعيش درجة معيّنة من الحصار، إلّا أنها تكون بذلك قد حافظت على وجودها كمعارضة، باعترافٍ دوليّ، خاصّة من روسيا.

اترك تعليقاً