أثار الظهور العلني لرامي مخلوف، رجل الأعمال وابن خال الرئيس السوري، عدة تساؤلات. فقد خاطب الرئيس السوري في تسجيلَين علنيَّين على مواقع التواصل الاجتماعي، اتهم في أحدهما أجهزة أمنيَّة داخل النظام باستهداف مؤسساته وأعماله، فضلًا عن مطالبته من جهة وزارة المالية بدفع نحو 234 مليار ليرة سورية (180 مليون دولار أميركي تقريبًا) من استحقاقات ضريبية متراكمة. أخرجت خطوات مخلوف هذه الخلافَ، الذي ظل مكبوتًا على امتداد عدة شهور داخل الحلقة الضيقة للنظام السوري، إلى العلن. وكان آخر ظهور إعلامي مهم لمخلوف قد تمَّ قبل تسعة أعوام، وذلك عندما أجرى مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، في بداية الحراك الاحتجاجي، حذر خلالها من تداعيات سقوط النظام السوري، خصوصًا على أمن إسرائيل، ثم أعلن بعد ذلك عن تفرغه للأعمال الخيرية. وما بين إطلالتَي 2011 و2020، تغيَّر وضع مخلوف كثيرًا داخل النخبة الحاكمة، كما تغيرت السياقات السياسية والاقتصادية التي رافقت ذلك. تستعرض هذه الورقة الأدوار التي قام بها مخلوف منذ بداية الحركة الاحتجاجية في دعم النظام وتمويل آلته الأمنيَّة والعسكرية، وتحلل السياق والأسباب التي أدت إلى تآكل نفوذه، وصولًا إلى اختبار فرضيتَي التصعيد أو التسوية بينه وبين النظام الذي كان يُعد، يومًا ما، من أركانه.
أولاً: نشاط مخلوف خلال الأزمة
يُعتبر رامي مخلوف رمزًا لفئة “الذئاب الشابّة” التي صعدت داخل النظام مستفيدةً من اللبرلة الاقتصادية في مرحلة بشار الأسد، وتُعد شركاته نموذجًا لطريقة إدارة الاقتصاد السوري والخصخصة على نمط رأسمالية المحاسيب والأقارب، بحيث تبقى الموارد الاقتصادية ضمن مصادر النظام الاقتصادية – السياسية – الأمنيَّة، مع إثراء المقربين. فقد ضَمن هذا النمط ألّا تُضعف اللبرلة الاقتصادية النظام الاستبدادي، بل أن تعززه عبر التداخل بين الولاء السياسي والعطاءات، والتناسب الطردي بين القرب من دوائر الحاكم وهامش حركة رأس المال في السوق، وكذلك عبر تداخل الدوائر المحيطة بالرئيس (1. الأسرة، والأقارب، والطائفة، 2. قادة الأجهزة الأمنيَّة، 3. كبار رجال الأعمال). وقد كان الحزب، من قبلُ، يعتبر ضمن هذه الدوائر، لكنه هُمِّش في مرحلة بشار الأسد.
تردد اسم رامي مخلوف منذ اليوم الأول في هتافات الحراك الاحتجاجي، وكانت مقرات شركاته أهدافًا لغضب المحتجين الذين اتهموه بالفساد واستغلال النفوذ. وردًّا على ذلك، أجرى مخلوف مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، في أيار/ مايو 2011، ضَمَّنها رسائل مباشرة للخارج، وأكد فيها أن النظام سيقاتل حتى النهاية، كما حذَّر من تداعيات الفوضى في سورية على أمن إسرائيل واستقرارها.
ظهر مخلوف إعلاميًّا مرةً أخرى، في حزيران/ يونيو 2011، مُعلنًا تفرغه لـ “العمل الخيري”، معللًا خطوته هذه بعدم رغبته في أن يكون عبئًا على سورية ولا على شعبها أو رئيسها، على حد تعبيره، لكن خطوته هذه لم تنجح في تجنيبه هو وشركاته سلسلة من العقوبات الأميركية والأوروبية، أضيفت إلى تلك التي يخضع لها منذ شباط/ فبراير 2008.
كان إعلان مخلوف التفرغ لـ “العمل الخيري” عبر “جمعية البستان”، بمنزلة غطاء للتمويه على نشاطه الجديد ضمن تحالف مركَّب يتكون من مراكز قوًى عسكرية وأمنية طائفية للدفاع عن النظام. وبناءً عليه، تولّت جمعية البستان، بدايةً من عام 2012، تشكيل ميليشيات تابعة لها بمسميات متعددة منها قوات الكميت، وقوات المهام الخاصة، وفوج مغاوير حمص، وأسود البستان، وقوات الدفاع الشعبي، وكتائب الجبلاوي. وقد انحدر أكثر عناصر هذه المليشيات من محافظتَي اللاذقية وطرطوس. واقتسمت جمعية البستان مسؤولية هذه المجموعات بالتعاون مع المخابرات الجوية والفرقة الرابعة؛ إذ تولَّت جمعية البستان عملية التجنيد ودفع الرواتب للمقاتلين ورعاية أسرهم، في حين كانت المخابرات الجوية مسؤولة عن التدريب والتسليح اللذين تولاهما أحيانًا حزب الله، لينحصر دور الفرقة الرابعة في تنسيق هذا التحالف وقيادته ميدانيًّا.
قامت جمعية البستان، أيضًا، بتمويل مجموعات قتالية تتبع للأجهزة الأمنيَّة؛ إذ تعهدت منذ عام 2013 بتمويل قوات النمر التابعة للمخابرات الجوية برئاسة العقيد سهيل الحسن. وموَّلت مجموعات قتالية أخرى تتولاها شخصيات قريبة من آل الأسد، مثل “كتيبة الغيدق اقتحام” التي كان يتزعمها الغيدق ديب؛ ابن اللواء مروان ديب وبهيجة الأسد، شقيقة الرئيس الراحل حافظ الأسد.
كما تولَّت جمعية البستان رعاية الحاضنة الموالية للنظام ودعمها لامتصاص نقمتها والحفاظ على دعمها، وذلك بعد الخسائر البشرية الكبيرة التي تكبدتها دفاعًا عن النظام. وبدايةً من عام 2013، افتتحت الجمعية شبكة من المراكز والمقرات الموجهة لرعاية الموالين للنظام والمؤيدين له في عدد من المحافظات (دمشق وريفها وطرطوس وحمص وحلب والقنيطرة ودرعا والسويداء مثلًا)، وعلى الرغم من هذا الانتشار الجغرافي، تركزت خدمات الجمعية على الحاضنة الموالية للنظام، ولا سيما في أرياف اللاذقية وطرطوس وفي بقية المحافظات، على المناطق التي ينتمي إليها منتسبو مجموعات البستان القتالية، كما هو الحال في صلخد بالسويداء.
رغم الأضرار التي ألحقتها العقوبات الأميركية والأوروبية بنشاطاته وأعماله، فإن اقتصاد الحرب أتاح لمخلوف فرصةً لتنمية أعماله، واستثمار العائدات من أجل توسيع نشاطه في الاقتصاد الرسمي، فقد نشط في تجارة نقل النفط من المنطقة الشرقية إلى مصفاة حمص؛ عبر وسطاء متعددين أبرزهم آل القاطرجي (الأخوة حسام وبراء ومحمد)، بحماية مجموعات البستان القتالية والفرقة الرابعة وصقور الصحراء، كما استأثر مخلوف بعدة عقود حصرية لتوريد النفط للنظام السوري عبر شركات “أوف شور” مقرها في الخارج للالتفاف على العقوبات المفروضة عليه وعلى النظام، ومثال ذلك شركة آبار بتروليوم سيرفيسز ش. م. م. المسجلة في لبنان.
استثمر مخلوف جزءًا من العائدات التي حصل عليها من اقتصاد الحرب لتوسيع أعماله الاقتصادية والتجارية في سورية، مؤسسًا ما يزيد على ثماني شركات خلال الفترة 2011-2020، بعضها يملكها كلّها (مثل “مؤسسة نور للتمويل الصغير”)، وبعضها الآخر يشاركه فيها آخرون (مثل “شركة روافد دمشق” المساهمة المغفلة الخاصة التي تستثمر حصة مهمة في مشروع ماروتا سيتي.
ثانياً: تغير التوازنات وانفراط التحالف
بدأ تحالف مخلوف مع مراكز القوى العسكرية والأمنيَّة داخل النظام يتعرض للضغوط مع بلوغِ التدخل العسكري الروسي في سورية ذروته عام 2016، وتغيرِ التوازنات داخل القصر الجمهوري عقب وفاة والدة الرئيس بشار الأسد، أنيسة مخلوف، وهي عمة رامي، ومرضِ محمد مخلوف، “عراب العائلة”، بحسب ما يوصَف به، وتنامي نفوذ شخصيات من العائلة الحاكمة ليست على وفاق مع آل مخلوف، وصولًا إلى قرار بشار الأسد المتمثل بتهميش آل مخلوف وإضعافهم وإخراجهم كليًّا من الواجهة، مع بلوغ العمليات العسكرية نهايتها على الأرض صيف عام 2019، ومساعي بشار إعادة تركيز مصادر القوة، ومن ضمنها الموارد المالية، داخل النظام بين يديه.
-1 التدخل الروسي
كان للتدخل الروسي العسكري أثرٌ حاسم في تثبيت النظام السوري وتمكينه من زيادة رقعة سيطرته الجغرافية من نحو 22 في المئة في عام 2015 إلى ما يقارب 63 في المئة في بداية عام 2020، كما كان لهذا التدخل أثره في تفكيك تحالف مخلوف مع المخابرات الجوية والفرقة الرابعة. وكانت قيادة العمليات الروسية في سورية (قاعدة حميميم) قد قامت بالاستثمار في قوات النمر وجعلت منها يدها المحلية الضاربة داخل مراكز قوى النظام، وصولًا إلى تنظيمها في صيف 2019 وتحويلها إلى “الفرقة 25 مهام خاصة”، بقيادة العميد سهيل الحسن. أما الفرقة الرابعة فقد منحها التدخل العسكري الروسي فرصةً لالتقاط أنفاسها، وإعادة ترتيب صفوفها. كما أخذت في التركيز أكثر فأكثر على أنشطة اقتصاد الحرب. وقد ساهم هذا الأمر في تأجيج التنافس بين حلفاء الأمس؛ إذ زاحمت الفرقة الرابعة ميليشيات جمعية البستان القتالية في ممارسة مهمات الترفيق والترسيم، وصولًا إلى إقصائها عن العمل في هذا المجال بقرارات رسمية، كما أدى الاهتمام الروسي المتنامي بقوات النمر إلى تسرُّب عناصر ميليشيات جمعية البستان للعمل مع سهيل الحسن، طلبًا للحماية، وسعيًا وراء الامتيازات المادية، لينعكس ما سبق سلبيًّا على الحضور الميداني لميليشيات البستان القتالية.
-2 تغير التوازنات داخل النظام
شهدت التوازنات داخل مراكز التأثير في النظام تغيرات مهمة منذ بدء الحراك الاحتجاجي، فقد خرج آل طلاس من سورية، وتمَّت تصفية زوج أخت الرئيس، والرجل القوي في المؤسسة الأمنيَّة – العسكرية، اللواء آصف شوكت في تفجير خلية الأزمة، ولم يكن لهذه التغيرات أثرٌ ملحوظ على نفوذ آل مخلوف في القصر الجمهوري، لكنّ الحال تبدل بوضوح مع وفاة والدة الرئيس، أنيسة مخلوف، في شباط/ فبراير 2016، ومرض شقيقها محمد مخلوف، وهكذا فقدت العائلة أبرز داعميها داخل القصر الجمهوري. وزادت مشكلات مخلوف مع تنامي نفوذ منافسيه داخل القصر الجمهوري، أي زوجة الرئيس أسماء وشقيقه اللواء ماهر. وقد بدا واضحًا، خلال الفترة الأخيرة، تنامي دور أسماء الأسد داخل القصر الجمهوري، ومساعيها لإعادة توزيع الثروة داخل العائلة الحاكمة، وقد ألمح إلى ذلك رامي مخلوف في إطلالاته الثانية على مواقع التواصل الاجتماعي، في إطار اتهام بعض المحيطين بالرئيس بمسؤولية التحريض ضده.
انعكست التغيرات داخل القصر، أيضًا، على تنامي نفوذ اللواء ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة، ومزاحمته لمخلوف في أنشطة اقتصاد الحرب، وكذلك في الأعمال التجارية التي يتولاها، الأمر الذي بدا جليًّا مع إقصاء ميليشيات مخلوف عن قطاع الترفيق والترسيم في البداية لمصلحة شركة القلعة الأمنيَّة التي يملكها رجل الأعمال المعتمد من مكتب أمن الفرقة الرابعة خضر طاهر الذي دخل قطاع الاتصالات عبر التأسيس لشركة إيماتيل، إلى جانب استخدامه من قبل ماهر الأسد للهيمنة على بعض الاستثمارات التي تعود إلى آل مخلوف.
3- تركيز مصادر القوة
كان قرار بشار الأسد العامل الحاسم في إضعاف نفوذ رامي مخلوف وصولًا إلى إنهائه. وقد جاء قرار الأسد في سياق مساعيه لتفكيك مراكز القوى التي تعزز دورها خلال الأزمة، ولا سيما ما كان منها على مستوى الطائفة، وإعادة تركيز مصادر القوة سياسيًّا وماليًّا وأمنيًّا في القصر الجمهوري وتحت إشرافه. وقد انعكس هذا التوجه بحملة الضغوط التي بدأت على رامي مخلوف منذ صيف 2019، والتي هدفت إلى تفكيك شبكاته “الخيرية” والأمنيَّة والاستحواذ على شركاته وأمواله. ظهرت أولى بوادر هذه الحملة عبر إخضاع جمعية البستان لإشراف القصر الجمهوري، من خلال تعيين معن إبراهيم المشرف العام على ضريح حافظ الأسد رئيسًا للجمعية بدلًا من سامر درويش، إضافةً إلى تفكيك مجموعات البستان القتالية وإلحاقها بالأجهزة العسكرية والأمنيَّة للنظام. وعلى سبيل المثال، تمَّ إلحاق قوات الكميت التابعة لجمعية البستان التي يقودها فراس عيسى بقوات الغيث/ الفرقة الرابعة. وصدر قرار قضائي، في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، يتعلق بحل الحزب السوري القومي الاجتماعي – الأمانة العامة، المحسوب على رامي مخلوف. وأخيرًا، صدرت سلسلة أوامر الحجز الاحتياطي في حق مخلوف، بضوءٍ أخضر من الرئيس نفسه.
ثالثاً: الأزمة الاقتصادية
لا شك في أن تأزم العلاقات هو من مظاهر شُحِّ الموارد مع توقف اقتصاد الحرب من دون العودة إلى اقتصاد السلم؛ وذلك بسبب العقوبات، والتحفظات الدولية الكثيرة على إعادة الإعمار، وغيرها من الطرق التي ظنت روسيا أنها يمكن أن تقود إلى إنعاش الاقتصاد من جديد.
ومع انتهاء العمليات العسكرية على الأرض، والخروج من اقتصاد الحرب، بدأ ينكشف الوضع الاقتصادي الهش للنظام. وقد انعكس ذلك بوضوح مع انخفاض الإيرادات العامة، وتدهور سعر صرف الليرة السورية وتراجع الإنفاق العام، وزادت متاعب النظام الاقتصادية بسبب مطالبة حلفائه بتسديد المستحقات المترتبة عليه. وقد دفع ذلك النظامَ إلى الضغط على رجال الأعمال، خاصة الذين أثرَوا خلال الحرب، وأجبرهم على دفع مبالغ نقدية لتمويل استحقاقاته الداخلية والخارجية. وفي بداية الأمر، تجاوب مخلوف مع هذا التوجه، لكنه بدأ يتذمر حينما أدرك أن الأمر يتعدى دعم النظام إلى رغبة النظام نفسِه في السيطرة على أصوله المالية وشركاته.
تعرض الاقتصاد السوري خلال الأزمة إلى انهيار كامل تقريبًا، وتُقدر بعض المصادر الخسائر التراكمية منذ عام 2011 إلى عام 2019 بنحو 428 مليار دولار، أي نحو ستة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي السوري في عام 2010، كما تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنحو 65 في المئة عمَّا كان عليه قبل الأزمة. ويمكن الوقوف على مظاهر الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعانيها النظام من خلال ثلاثة مؤشرات رئيسة.
أول هذه المؤشرات تدني الإيرادات العامة التي انخفضت من أكثر من 17 مليار دولار في عام 2011 إلى نحو 9 مليارات دولار في عام 2019، بحسب بيان موازنتَي عامَي 2011-2019، ويمكن تفسير هذا الانخفاض بعدة عوامل أبرزها: 1. تضرر القطاعات المُدِرَّة للقطع الأجنبي (مثل السياحة والنفط)، 2. تقييد حركة الصادرات بفعل العقوبات الغربية والأميركية، وتضرر القطاعات الإنتاجية (مثل الصناعة والزراعة)، 3. تدني إيرادات الضرائب من مستوًى يعادل 7 مليارات دولار في عام 2011 إلى أقل من 942 مليون دولار في عام 2018.
أما ثاني المؤشرات فهو يتعلق بانهيار سعر صرف الليرة السورية؛ إذ زاد الانهيار الاقتصادي وأزمة المصارف اللبنانية، مضافًا إليها سياسة البنك المركزي في تجنُّب التدخل المباشر لدعم الليرة، وارتفاع تكلفة الاستيراد، وخصوصًا المشتقات النفطية التي تقدر بنحو 200 مليون دولار شهريًّا، الضغوطَ على الليرة السورية التي انخفض سعر صرفها من 46 ليرة سورية مقابل دولارٍ أميركي واحد في عام 2010، إلى ما يزيد على 1300 ليرة سورية في السوق السوداء في ربيع عام 2020، الأمر الذي انعكس سلبيًّا على القدرة الشرائية للسكان وعلى أسعار السلع. وقد أشارت صحيفة قاسيون المحلية إلى ارتفاع تكاليف المعيشة لعائلة مكونة من خمسة أشخاص بنسبة 13 في المئة منذ بداية عام 2020، لتصبح 430 ألف ليرة سورية شهريًّا خلال ربيع 2020 (ما يعادل 320 دولارًا) بعد أن كانت في حدود 380 ألف ليرة سورية في كانون الثاني 2020.
يتصل المؤشر الثالث بانخفاض الإنفاق العام وتراجع الدعم الاجتماعي الحكومي؛ إذ تشير الأرقام المستقاة من تحليل بيانات الموازنة العامة في سورية في الفترة 2010-2020 إلى انخفاض حادٍّ في قيمة الموازنة بالدولار، من 16.5 مليار دولار في عام 2011، إلى 9.2 مليارات دولار في عام 2020، باحتساب سعر صرف البنك المركزي.
انعكس تراجع الإنفاق العام على سياسات الدعم الاجتماعي الحكومي، وذلك بحسب ما تظهره المقارنة بين موازنات 2018-2019-2020، حيث تم تخفيض الكتلة النقدية المخصصة لدعم المشتقات النفطية، وهو ما يُعد مؤشرًا على تحرير النظام لأسعار هذه السلع. يُلاحَظ كذلك انخفاض دعم الدقيق في موازنة عام 2020 مقارنةً بما كان عليه في موازنة 2019، في ظل صعوبات تعترض قدرة النظام على تأمين احتياجات الدقيق التمويني، واضطراره إلى ترشيد استهلاك العائلة السورية من مادة الخبز عبر آلية البطاقة الذكية. وفي المقابل، لا يُلاحَظ تغيرٌ فيما يتعلق بدعم قطاع الكهرباء الذي زاد على 1.6 مليار دولار، من دون أن يطرأ تحسن ملحوظ على واقع التغذية الكهربائية. إلى جانب ما سبق، لا يُلاحَظ كذلك تغيرٌ كبير في حجم الدعم المخصص للإنتاج الزراعي والصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية اللذين يعتبران ضئيلَين، ذلك أنّ قيمتهما مجتمعَين لا تتجاوز حاجز 50 مليون دولار.
لقد زاد وضع النظام سوءًا مطالبات حلفائه بضرورة دفع ما يترتب على الخدمات التي قدموها للنظام خلال الأزمة. فعلى سبيل المثال، توقف الخط الائتماني الإيراني في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، الأمر الذي أحدث اختناقات في توفير المشتقات النفطية في مناطق سيطرة النظام، ليعود الخط الائتماني الإيراني في أيلول/ سبتمبر 2019 بحسب تصريحات حكومية، من دون الكشف عن أسباب الانقطاع والاستئناف، الأمر الذي يمكن تفسيره بالتفاهم على آليات جديدة ناظمة لدفع الأموال المستحقة على النظام.
لجأ النظام تحت ضغط الحاجة إلى السيولة المالية، في مواجهة استحقاقاته الاقتصادية ومطالب حلفائه، إلى انتزاع أموالٍ من رجال الأعمال تحت مسمى “مكافحة الفساد”، وجاء قرار الحجز الاحتياطي المتعلق بأموال رامي مخلوف وشركائه ضمن هذا السياق. استجاب مخلوف في البداية لهذا الأمر، وعقد تسوية مالية مع مديرية الجمارك فيما يتعلق بقضية شركة آبار بتروليوم، لكنه احتج في وقت لاحق على قرار الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد القاضي بضرورة تسديد كل من شركتَي Syriatel وMTN مبلغًا مقداره نحو 234 مليار ليرة سورية لخزينة الدولة، ولعل احتجاجه يُعدّ إقرارًا منه بأن القضية تتجاوز حاجة النظام إلى سيولة نقدية لتمويل استحقاقاته إلى قرار اتُّخذ متعلق بتحجيمه وانتزاع أمواله المنقولة وغير المنقولة، ولا سيما ما كان منها خارج سورية. وما عزز لديه هذه القراءة استمرار قرار الحجز الاحتياطي رغم إجرائه تسوية مالية مع مديرية الجمارك في وقت سابق، وهو الأمر الذي قد يبدو أنه دفعه إلى نقل الخلاف للعلَن، عبر إطلاق تسجيلَين على مواقع التواصل الاجتماعي.
رابعاً: احتمالات التسوية والتصعيد
يتجه الموقف العام بين عائلتَي الأسد ومخلوف إلى أحد السيناريوهين التاليين: إمّا التوصل إلى تسوية من نوع ما وإمّا التصعيد، ولئن كانت للنظام تجارب سابقة في التخلص من منافسيه فإنّ خيار التسوية يبدو هو الخيار الأرجح، خاصةً في ضوء موازين القوى التي تميل كليًّا إلى مصلحة النظام.
وفضلًا عن أنّ النظام يمتلك سجلًّا حافلًا بالتخلص من منافسيه والمتمردين عليه، كما حصل مع وزير الداخلية الأسبق غازي كنعان في عام 2005، فإن الأسد يتحكم بكل مفاصل السلطة ومؤسساتها، ويستخدمها ضد منافسيه، على غرار ما ظهر في قرارات الحجز الاحتياطي التي أصدرتها وزارة المالية ومديرية الجمارك العامة في حق رجال الأعمال، ومنهم رامي مخلوف. يُضاف إلى ذلك أنّ الأسد قد قام بإجراء تعيينات جديدة في المؤسستين الأمنيَّة والعسكرية خلال الفترة السابقة؛ بهدف ضمان ولائهما، واحتواء أي مراكز قوًى ناشئة موالية لروسيا أو إيران. وإلى جانب ما سبق، نجح الأسد في تفكيك الجزء الأكبر من شبكات مخلوف والسيطرة عليها. وفي المقابل، خسر مخلوف جزءًا كبيرًا من نفوذه داخل سورية من جرَّاء الإجراءات التي اتخذت ضده خلال الفترة السابقة، ولكن يبقى لمخلوف أوراق قوة تعزز موقفه التفاوضي تجاه الأسد؛ إذ يتمتع آل مخلوف بنفوذ داخل الطائفة العلوية، بالنظر إلى المساعدات المالية الكبيرة التي قدمها لها خلال الأزمة، وما زال يقدمها، وبالنظر إلى المخاطر التي يمكن أن يتكبدها الكثيرون في حال الاستحواذ على أصوله المالية. كما يُعد مخلوف أحد خازني أسرار العائلة الحاكمة، وقد نجح إلى حد ما في وضع الأسد تحت الضغط، عبر نقل الخلاف المستتر إلى العلَن. إضافةً إلى ذلك، طالب مخلوف الأسدَ بصرف الأموال المطلوبة منه على “الفقراء”، في محاولة منه للإشارة إلى أن غاية النظام من مصادرة أمواله هي تحويلها إلى حسابات العائلة، كما حمَّل مخلوف النظام المسؤولية في حال تعرُّض حياته للخطر. الأهم من كل ذلك أن جزءًا كبيرًا من الأموال، المنقولة وغير المنقولة، ولا سيما الأموال الموجودة في الخارج، هي باسم مخلوف، وهو وحده من يمتلك سلطة تحريكها.
وفي وقت لا تزال فيه الأجواء مشحونة بين الطرفين، وعلى الرغم من أن صاحب القرار داخل النظام السوري هو منصب الرئيس، حتى في حالة ضعف النظام وتبعيته وفقدانه للقرار السيادي الخارجي، فإن خيار التسوية يبقى الأرجح، على الأقلّ في هذه المرحلة؛ إذ قد يتخوف النظام من تضرر صورته لدى الطائفة العلوية التي دفعت الجزء الأكبر من تكلفة الدفاع عنه. وربما يخشى النظام من انعكاسات الخلاف المعلن مع مخلوف على الوضع الاقتصادي، فضلًا عن حاجته الماسة إلى السيولة المالية لمواجهة استحقاقاته الاقتصادية التي يتوقع أن تتصاعد مع دخول “قانون قيصر” حيز التنفيذ في الفترة المقبلة. علاوةً على ذلك، أبدى مخلوف، إدراكًا منه لضعف موقفه، استعداده للتسوية، عارضًا ملامح أولية لشكلها في التسجيلين اللذين نشرهما. وثمة تقارير تتحدث عن وساطات لإنجاز تسوية، من نوع ما، تسمح بإضعاف مخلوف من دون أن تؤدي بالضرورة إلى القضاء عليه. ولكنّ التجربة تثبت أنّ النظام السوري لا يسامح حتى في حالة التسوية المؤقتة، وأنه سيحفظ في ذاكرته محاولةَ مخاطبة الرأي العام من فوق رأسه، أو مخاطبة الرئيس علنًا.