صوت العاصمة – تحقيق خاص
سنوات طويلة مرّت على الحرب السورية، وسط ظروف اقتصادية سيئة، فلم يبقَ عائلة سورية إلا ولديها مغترب أو مهاجر خارج سوريا، يقوم بتحويل مبالغ شهرية كمصروف لعائلته في ظل تردي الواقع المعيشي في دمشق.
ومع ازدياد حركة تحويل الأموال، رغم تفاهة المبالغ التي تصل شهرياً على آلاف العوائل السورية في دمشق، ذهبت أجهزة المخابرات إلى مراقبة حركة الأموال والتحويل عبر أفرعها الأمنية، والتدقيق اليومي على الأسماء التي تُرسل تلك الحوالات من الخارج، ومستلميها داخل دمشق، وهنا ذهب النظام لاختراع حجج جديدة تتعلق بمكافحة الإرهاب وتمويله بهدف التضييق على الناس ومراقبة كل شيء، فضلاً عن حملات كبيرة نفذها فرع الأمن العسكري (215) استهدفت مكاتب التحويل الأسود، وهي المكاتب التي تعتمد على تحويل الأموال من وإلى سوريا بشكل غير نظامي، نظراً لانخفاض التكاليف وسهولة التسليم، مقارنة بالمكاتب النظامية التي تقوم بتسليم الحوالات بالليرة السورية وبسعر صرف البنك المركزي الذي يختلف كثيراً عن سعر السوق السوداء، فضلاً عن ارتفاع قيمة رسوم الحوالة في المكاتب النظامية.
عشرات التجار، وسماسرة العملة كما يُطلق عليهم في أسواق دمشق، تم اعتقالهم على مدى سنوات وقاموا بدفع مبالغ كبيرة وصلت إلى 50 مليون ليرة سورية لحل المشكلة مع فرع الأمن وإطلاق سراحهم، فيما لا تزال الأجهزة الأمنية تلاحق التجار يوماً بيوم وتقوم باعتقال من يثبت عليه تحويل العملة او التعامل بالدولار، وسط مراقبة مكثفة للاتصالات عبر أجهزة مطورة يقوم النظام باستخدامها .
لم تتوقف سطوة النظام الأمنية على مكاتب التحويل فقط، تل تعدت ذلك لتطال المدنيين الذين تصلهم حوالات مالية من خارج سوريا، وحتى من داخلها، عبر استدعاءات لأفرع المخابرات والتحقيق معهم، أو اعتقالهم مباشرة بعد عمليات دهم لمنازلهم أو مناطق عملهم، وطرح أسئلة سخيفة على الناس أثناء التحويل، لماذا تحولون الأموال؟؟ ومن أين تحصلون عليها، هل تمولون الإرهاب في سوريا؟؟ كم تدفع لكم الدول التي تدعم الإرهاب شهرياً؟؟ ما هي نشاطاتكم ضد الحكومة ؟؟، أسئلة وصفها مدنيون بالمهينة، من أجل مبالغ لا تتجاوز مئتي ألف ليرة سورية تكاد لا تكفي مصروف عائلة لمدة شهرين.
أم يحيى، ربة منزل تحدث مراسلنا عن استدعائها من قبل فرع الأمن العسكري عبر الهاتف للتحقيق معها بعد استلامها عدة حوالات متكررة من ابنتها التي تقيم في هولندا، وذلك عبر شركة “ويسترن يونيون” العالمية، حيث تم التحقيق معها عن مصدر تلك الأموال، ولماذا يتم إرسال مبالغ شهرية لها، وعلى ماذا يتم صرف كل هذه الأموال، مع العلم أن أكبر حوالة مالية لم تتجاوز 150 ألف ليرة سورية، بحسب أم يحيى، حيث تم اطلاق سراحها بعد أربعة ساعات من التحقيق الهزلي وتوجيه أسئلة تافهة لا إجابات لها .
أما معين، وهو رجل ستيني، يقيم في منطقة الجسر الأبيض، فقد داهم فرع فلسطين منزله فجراً قبل ستة أشهر، وتم اعتقاله ونبش المنزل رأساً على عقب بحثاً عن دولارات، على خلفية اعتقال أحد المسؤولين عن مكاتب التحويل السوداء في سوق الحريقة، والذي كان معين قد استلم منه مبلغ 800 دولار امريكي قبل أيام، كحوالة من ابنته في ألمانيا، لدفع أجرة المنزل لمدة ثلاثة أشهر. أسئلة كثيرة وتهم عديدة تم توجيهها للرجل العجوز خاصة أن الحوالة مصدرها مكتب غير مرخص، وأنها بالعملة الصعبة المحظور تداولها، ولم يتم إطلاق سراحه حتى جلب مبلغ 800 دولار من قبل أقربائه، تم تسليمها إلى الفرع مع توقيعه على تعهد بعدم التعامل مع تلك المكاتب مجدداً.
وطالت تلك الاعتقالات والاستدعاءات تجار في سوق الألبسة وآخرين في عدة مهن، بعد استلام حوالات مالية موثقة بفواتير، ثمناً لبضائع تم بيعها في المحافظات السورية، كاللاذقية وطرطوس وحمص، الخاضعة لسيطرة النظام أيضاً.
ويتحدث كمال وهو تاجر ألبسة في سوق الصوف، عن استدعائه مرتين للتحقيق معه في فرع أمن الدولة، آخرها كان قد قضى يومين، قبل إطلاق سراحه بعد دفع مبلغ مالي لتجنب الورطة التي وُضع فيها، بعد إلصاقه تهمة “تمويل الإرهاب” إثر حوالة مالية استلمها عبر مكتب العنكبوت بلغت ثلاثة ملايين ليرة سورية.
في الوقت التي تقوم فيه أجهزة المخابرات بملاحقة البسطاء الذين يقومون باستلام مبالغ مالية تجنباً للجوع يستمر تجار الحروب بتداول الدولار علناً في وسط الأسواق، ومبالغ تصل إلى 200 ألف دولار في الجلسة الواحدة، غير عمليات تهريب التي تجري يومياً إلى خارج سوريا عبر نقطة المصنع، تصل إلى مئات ملايين الليرات، بحسب ما حدثنا أحد العاملين في شركات الصرافة في منطقة شتورا، حيث أنه يومياً تصل سيارات سورية فخمة تحمل بداخلها حقائب مليئة بالعملة السورية، يتم تصريفها في المنطقة وإيداعها في مصارف بيروت الخاصة، فضلاً عن القائمين على مكاتب التحويل المرخصة، والذين باتوا تجار حروب أيضاً بشراكة مع النظام السوري، وأحد مصادر العملة الصعبة لقادة الميليشيات الموالية ورؤساء أفرع المخابرات، فمن الهرم إلى العنكبوت، إلى طيبة مروراً بــ أكسبريس، وانتهاء بشركة “ويسترن يونيون” العالمية، تبسط مخابرات النظام سلطتها على المدنيين، وتتبادل المنفعة بمئات آلاف الدولارات مع أصحاب تلك الشركات.