المدن –
لا يُعرف حتى اللحظة ما إذا كانت بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم، جنوبي دمشق، قد دخلت فعليّاً ضمن اتفاقية “المدن الأربع” أم لا، رغم وجود إشارات تُرجّح أن الاتفاقية سارية المفعول في المنطقة. وأوضح مصدر مُطّلع على تفاصيل الاتفاق، أن البند المتعلّق بالبلدات الثلاث هو: “تثبيت وضع جنوب دمشق على ما هو عليه”، وذلك يعني أن الاتفاق لن يُمهّد لأي تهجير مستقبلي، بحسب المصدر.
تجميد الوضع الحالي في المنطقة بناءً على الاتفاق يمنحها، بطبيعة الحال، فترة 9 أشهر لتتنفس الصعداء، كما يحرم النظام من إمكانية الضغط والتصعيد من جديد بغرض رضوخ المعارضة في المنطقة وقبولها “المصالحة”، خاصة بعد اتباع النظام سياسة “المُهل” المؤقتة خلال الأسابيع الأخيرة من العام 2016، والتهديد بإغلاق الحاجز وإعادة الحصار مجدداً على المنطقة تارة، أو التلويح بعمل عسكري مدمّر تارة أخرى. وذلك إذا لم تُقبل مبادراته لـ”التسوية السياسية”، وأهمّها “مبادرة الـ46 بنداً” التي تعدّ بشكل أو بآخر مبادرة منمّقة “للاستسلام”، وكانت قد رفضتها منطقة جنوبي دمشق، وفاوضت النظام على تعديلها من دون الوصول إلى نتيجة.
وكانت “المرحلة الأولى” من اتفاق “المدن الأربع” ما بين “أحرار الشام” و”هيئة تحرير الشام” من جهة، ومليشيا “حزب الله” اللبنانية و”الحرس الثوري” الإيراني من جهة ثانية، قد بدأت في 12 نيسان/إبريل، بضمانة قطرية. وينص الاتفاق في ما يخص جنوبي دمشق على “وقف إطلاق النار” في بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم، لمدّة 9 شهور، منذ بدء التنفيذ، و”إخلاء” مقاتلي “هيئة تحرير الشام” المحاصرين شمال غربي مخيم اليرموك إلى محافظة إدلب، في “مرحلته الثانية”، أي بعد 60 يوماً من “المرحلة الأولى”، بالإضافة إلى دخول مساعدات إغاثية إلى مناطق محاصرة من دون تحديدها.
وبعد نشر بنود الاتفاق أصدرت “اللجنة السياسية” الممثّلة لبلدات يلدا وببيلا وبيت سحم، بياناً رسمياً أواخر آذار/مارس، أعلنت فيه رفضها إقحام المنطقة في الاتفاق، مؤكّدة أنه “لا يعنينا لا من قريب ولا من بعيد”، مضيفة أنها الجهة الوحيدة والمفوّضة عن المنطقة لإبرام أي اتفاق، كما أوضحت أن “أي اتفاق يُبرم من قبل أعضاء اللجنة السياسية فإننا ندرسه ونُقرُّ ما فيه من مصلحة للمنطقة ويكون ساري المفعول بعد إقراره من قبل اللجنة كاملة”، وتلى ذلك خروج تظاهرةٍ شعبيّة حاشدة في البلدات الثلاث رفضاً لربط مصيرها باتفاق “المدن الأربع”.
فهم الموقف الموحّد في “اللجنة السياسية” تجاه الاتفاق لا بدّ أن يتم عبر إدراك السياق المرحلي والظرفي للمنطقة، خاصّة بعد بدء معركة أحياء دمشق الشرقية؛ القابون تشرين برزة، وعدم قدرة النظام على فتح جبهات متعددّة في آنٍ واحد. فالنظام يتّبع تكتيك تجميد جبهة وتسخين أخرى. عدا عن خصوصية ملف البلدات الثلاث وتعقيداته، وحساسيّة موقعها الذي يجاور مدينة السيدة زينب، معقل المليشيات الشيعية متعدّدة الجنسيات في سوريا من جهة، وأحياء الحجر الأسود ومخيم اليرموك والتضامن مركز الثقل الكبير لتنظيم “الدولة الإسلامية” على مقربة من دمشق من جهةٍ ثانية.
وما ظهر على أنه وحدة في الموقف داخل “اللجنة السياسية” ليس دليلاً مؤكّداً على وحدة المبدأ أو الرؤية، لأن حلفاً مبنيّاً على الضرورة ومصلحة المنطقة العامّة قد لا يعلن الأسباب الحقيقية لبعض مواقفه السياسية لأسبابٍ تكتيكيّة. وقد انبنى الموقف الثوري داخل “اللجنة السياسية” الرافض لإقحام البلدات الثلاث في اتفاق “المدن الأربع” على اعتبارات متعددّة، منها العداء المعلن لـ”هيئة تحرير الشام” ورفض تمثيلها للكيانات العسكرية العاملة في المنطقة؛ كما جاء في بيان “جيش الأبابيل” التابع لـ”الجبهة الجنوبية” في 30 آذار 2017. وكذلك الموقف العدائي المعروف من فصيلين رئيسيين آخرين وهما “جيش الإسلام” و”لواء شام الرسول”، اللذين يرفضان مشروع “القاعدة”، إما لأسباب منهجية أو ثورية، أو نتيجة للقتال الذي حصل في العام 2015 بين “شام الرسول”، بشكل رئيس، و”جبهة النصرة” في حينها، ما أفضى لانسحاب “النصرة” من بلدة بيت سحم إلى مخيم اليرموك معقلها الرئيسي، وخلو البلدات الثلاث من أي تواجدٍ عسكريّ لها.
بينما اعتبر أنصار مشروع “المصالحة الوطنية” أن تحويل ملف المنطقة من مفاوضات محليّة مع النظام إلى شأنٍ دوليّ، سيؤدي إلى كوارث، آخذين في الحسبان المصالح الإيرانية في البلدات الثلاث الملاصقة لمنطقة السيدة زينب، عدا عن تفضيلهم لاتفاقٍ مع “الجهات المعنية” كما يحبّذون تسميتها، أي مع النظام وفروعه الأمنية، لا مع إيران أو “حزب الله”، لقناعةٍ ضمنية بأنه سيحمل صفة الديمومة ويكون نافذاً من دون معوّقات، وسيضمن بقاء “أهل السنّة” في المنطقة. بينما تحمل العلاقة مع إيران ومليشياتها هاجساً طائفيّاً، وتخوّفاً من عمليات التغيير الديموغرافي وتهجير أهالي المنطقة واستبدالهم بسكان من الطائفة “الشيعية” إن أحكمت إيران نفوذها على البلدات الثلاث مستقبلاً.
التحليل السابق لا يمكنه أن يلغي نقطة مفصليّة حول “اتفاق المدن الأربع” وبيان “اللجنة السياسية”، وهو عامل الوقت والظرف التفاوضي، فلا يمكن اعتبار الرفض مطلقاً وعاماً ومبنيّاً بالضرورة على المبادئ والرؤى والأيديولوجيا، بل إن الأمور نسبيّة. وربما لو عرضت حالة التجميد هذه على المنطقة في فترة المهل المتلاحقة، وأصعبها كانت قبل ثلاثة شهور، والمعروفة بمهلة الـ72 ساعة التي مدّدت لـ24 ساعة، عندما كانت المنطقة على صفيح ساخنٍ تتحرّق بحثاً عن حل، لما كان من الواقعي والمنطقي أن ترفض، بل لربّما صدرت بيانات ترحّب بها. ولكن اليوم، وفي خضم الحديث عن استمرارية شمول “اتفاق المدن الأربع” للبلدات الثلاث، رغم الرفض المعلن والتظاهرات وغيرها، فمن يسأل عن موقف “اللجنة السياسية” أو رأي أهالي المنطقة وثوارها في تقرير مصيرهم؟ في بلدٍ دُوِّل الصراع فيه، فباتت دول الشرق والغرب، صاحبة القرار الأول والأخير فيه، من دون أن يكون للسوريين أيّ دور سوى الرضوخ والتنفيذ، و”أكل العصي” إن لزم الأمر.