صوت العاصمة – خاص
بعيداً عن الصواريخ والقذائف، بعيداً عن قطع الكهرباء والمياه والانترنت، بعيداً عن ضجيج السوق، بعيداً عن تواجد المهجرين وأزمة “الشحادين”، بعيداً عن صراخ البسطات وأزمة السرافيس، بعيداً عن السلاح العشوائي في الشوارع، بعيداً عن أزمة الخبز، في عاصمة الحرب، هنالك مناطق بعيدة كل البعد عن هذه الحرب.
عند خروجك من الحدود الإدارية للعاصمة دمشق والتوجه نحو اتستراد بيروت، فإنك تنتقل من عالم إلى آخر، لتشاهد مدن وأحياء لم ولن تمر بها الحرب، وكأنها في كوكب آخر وليس في سوريا عام 2016. حيث الفلل الضخمة والقصور الملكية، المطاعم الراقية والمدارس الدولية والأندية حيث تُمارس رياضة ركوب الخيل والرماية، بعد أن ظن الكثير من السوريين أن هذه الحياة قد انقرضت منذ خمس سنوات، أسواق وبضائع تكاد تختفي من قلب العاصمة، جميعها موجودة في مناطق غرب دمشق التي لم يمر اسمها يوماً على الإعلام.
قرى الأسد – الديماس – يعفور – الصبورة
كانت تلك المناطق قبل اندلاع الثورة مصيفاً يقصدها الدمشقيون وأبناء الريف الدمشقي بسبب جوها البارد صيفاً، يتمتعون باستئجار الفلل والجلوس على ضفة النهر وممارسة الطقوس الدمشقية المعروفة ب “سيران الجمعة”. وبالرغم من أن الحرب لم تطل تلك المناطق عسكرياً، لكن الانتعاش الاقتصادي طال المنطقة بشكل كبير، خاصة من اولئك الناس الذين يكسبون أموالهم بطرق غير مشروعة، ومحدثي النعمة من مرتزقة النظام السوري وميليشياته وتجاره، حيث أصبحت تلك المدن أمنية بشكل كامل، يسكنها كبار الضباط والمسؤولين وتجار الحرب الذين أرادوا أن يبقوا بعيداً عن ضجيج المدينة وخطرها، بعضهم من قام بتملك فيلا من مواطنين قد هجروا الوطن، وآخرين قاموا بإعمار قصورهم بأموال الحرب والسلاح، لكل شخص منهم حارة فرعية، مغلقة بباب حديدي، ومفرزة أمنية خاصة مزودة بكاميرات للمراقبة، أسلحة متنوعة وسيارات حديثة لم ترى منها في أرقى أحياء العاصمة، بعضها من دون لوحات، وأخرى تحمل لوحات لبنانية، تعود ملكيتها لتجار الدرجة الأولى في دمشق، مع انتشار لعناصر مسلحة لحماية تلك الشخصيات، ولكن السلاح هنا ليس عشوائياً وليس بيد جهلة وعناصر أغبياء كأولئك المنتشرين في أحياء دمشق وعلى حواجزها، بل كلٌ شيء منظم ومنضبط، وحراستهم تعادل حراسة الرؤساء..
في تلك المناطق لست بحاجة إلى دمشق نهائياً، فكل شيء متوفر، مع طريق مؤمن إلى بيروت على مدار الساعة، فأغلبهم يقضي عطلته الأسبوعية في لبنان مع أطفاله، ليبعدهم عن جو الحرب التي لم تصلهم أصلاً.
في ذلك الكوكب الذي يُسمى “غرب دمشق” لا تنقطع الكهرباء نهائياً، فالخط الرئيسي هناك يغذي تلك المناطق إضافة لتغذية أوتوستراد بيروت والفرقة الرابعة، ولا انقطاع للمياه فلديهم ما يكفيهم لشهور، ولا يشعرون بانقطاع الغاز والمحروقات فكل يوم تدخل سيارة لتوزع الغاز على المنازل والفلل وحاشيتهم. لا يقفون على دور الخبز، فهنالك مخبز مخصص لسكان المنطقة، غير الخبز الذي يأتي من بيروت مع البضائع التي باتت مفقودة في أهم مولات العاصمة.
وبالرغم من أن المنطقة خارج نطاق العمليات العسكرية، لكن يوجد فيها عشرات المراكز والساحات المخصصة لتدريب الميليشيات الموالية المحلية كميليشيا الدفاع الوطني، كما تعتبر مركزاً هاماً يقطنه كبار مسؤولي حزب الله اللبناني، وتتواجد فيها مشافي ميدانية تابعة لهم ومستودعات للذخيرة، كونها المناطق الأكثر أمناً في محيط دمشق، بحيث يمنع الدخول إلى تلك المناطق إلا بموافقة أمنية من الفرقة الرابعة أو عبر أحد الأشخاص القاطنين هناك.
أحد موظفي مطعم راقي في منطقة يعفور يحدث مراسلنا عن طبيعة المنطقة وعمل تلك المطاعم فيقول: الأجواء هنا أكثر من طبيعية ولا وجود للحرب، والمطعم الذي أعمل به يعتبر من أشهر المطاعم ضمن سلسلة تعود ملكتيها لأحد الضباط المتقاعدين المعروفين- نعتذر عن ذكر اسمه حفاظاً على سلامة الموظف- يزورنا يومياً عشرات الشخصيات الهامة، من سياسيين وعسكريين وتجار وأمراء حرب برزوا في السنين الأخيرة وتحولوا من أناس عاديين إلى أرباب ملايين، يقصدون تلك المناطق للابتعاد عن ضجة الحرب وعقد الصفقات وإدارة الأعمال.
يضيف الموظف: في كل ليلة تسمع أرقام خيالية على الطاولات، فمثلاً مبلغ 250ألف ليرة سورية كلفة العشاء يعتبر رقم عادي جداً بالنسبة لزوار المطعم، ولا يتفوه أحدهم بكلمة واحدة عند سماع الفاتورة، بل يرسل المبلغ مع مرافقته مع “بقشيش” لموظفي المطعم.
تلك السهرة من الممكن أن تكون أكسبته الملايين، لا بأس أن تكون فاتورة العشاء 250 ألف ليرة، يقول محاسب المطعم ذاته مؤكداً أنه ليس هنالك شيء مفقود في تلك المطاعم، جميع أنواع الفاكهة على مدار السنة موجودة، تستورد عبر لبنان بأسماء اولئك الأشخاص.
أبو زاهر، وهو اسم مستعار لرجل أربعيني يعمل سائقاً لدى أحد وزراء حكومة النظام السوري، يحدث مراسلنا عن إغلاق بعض طرقات المنطقة كل صباح، ليمر موكب تابع لـــ “محمد حمشو” أو لزوجة “رامي مخلوف” أو أحد الضباط، مؤكداً أن موكب الوزير يقف في انتظار مواكب أصحاب رؤوس الأموال لتمر خوفاً من التشبيح، مؤكداً أن عدة شجارات تمت السيطرة عليها مباشرة، حدثت في المنطقة بين مرافقة أصحاب رؤوس الأموال ممولي الميليشيات المسلحة، وبين أزلام الحكومة المدنيين، وحتى إن كان وزيراً، فهو لا شيء أمام أبناء عائلة الأسد وحلفائهم وقيادات الدفاع الوطني وحزب الله وغيرهم.
في الطرف المقابل من المشهد، وليس ببعيد عن مظاهر الترف والفلل الفخمة، تجد عشرات المنازل العشوائية والأبنية ذات الطابقين في أراضٍ زراعية، تم إعمارها من قبل بعض المهجرين، أو بعض مرتزقة رؤوس الأموال الذين تركوا قراهم وقرروا العيش بجانب أسيادهم، فبعضهم من بنى فوق أرض ليست أرضه، وآخر أخذ البيت عنوة من سكانه الأصليين، الذين كانوا يعملون في حراسة الفلل في أوقات الشتاء في ما مضى .
مناطق السكن الشعبي شهدت تظاهرات صغيرة جداً من قبل السكان الأصليين، استطاع النظام السيطرة عليها بسهولة كبيرة وبطرق دبلوماسية اعتمدت على مناقشة كبار السن وتحريضهم على الشباب الثائرين تارةً، أوعبر العمليات الأمنية تارة أخرى، لينتهي الحراك بشكل كامل بعد أسابيع قليلة.
أحد السكان الأصليين في المنطقة “أبو ياسر” وهو موظف في إحدى دوائر الحكومة، يحدثنا عن بدايات الثورة، وكيف كانت أجهزة المخابرات وقوى الفرقة الرابعة تداهم السكن الشعبي، بحجة وجود مطلوبين، وكيف بدأت حينها عمليات المسح الأمني للضغط على الناس وإخراجهم، حيث أن أغلب سكان تلك المناطق من كرد الجزيرة، كانوا يعملون مع عوائلهم نواطير لتلك الفيلات قبل أن يتم بيعها وتهجيرهم، ولم يبقى منهم اليوم إلا القليل.
بالمجمل: نستطيع أن نقول أن تلك المناطق هي خارج دائرة الحرب السورية، ولا يوجد مثيل لها حتى في قرى الساحل السوري الآمنة، والتي لا تخلو من تشييع القتلى.
أما هنا فلا وجود للحرب، بل الوجود فقط لتجارة الحرب.