تبدو كمية الوقاحة التي يصدرها النظام السوري وحلفاؤه إعلامياً ودبلوماسياً عند حديثهم عن مؤتمر اللاجئين المزمع عقده خلال اليومين المقبلين في العاصمة دمشق، لا تصدق، ليس من ناحية المزاعم بأن البلاد باتت واحة للحريات السياسية فقط، حيث لا اعتقال ولا انتقام ولا ملاحقات أمنية، بل أيضاً بتصدير صورة وهمية عن “الدولة السورية” ككيان متماسك قادر على توفير كافة الخدمات الأساسية لمواطنيه، سواء من المقيمين في الداخل السوري أو من نحو 6.5 ملايين لاجئ في دول العالم يسعى المؤتمر إلى إعادتهم إلى “حضن الوطن”.
لا طائل بالتأكيد من تفنيد الزعم الأول، لأنه ليس أكثر من نكتة سمجة لا تضحك أحداً ولا تخدع حتى طفلاً في الخامسة من عمره، نظراً لتاريخ النظام الأسدي الطويل مع قمع الحريات والموثق جيداً في البيانات الدولية ذات الصلة. أما الشق الثاني فهو أكثر إثارة للاهتمام ربما، لأن النظام في السنوات الأخيرة كان عاجزاً تماماً عن تأمين أبسط الخدمات الأساسية لمواطنيه، لدرجة اعترافه بذلك العجز، وتجاوزه للحدود القديمة التي كانت تمنعه من الاعتراف بوجود “التقصير”. ما دفع بأزمات الكهرباء والغاز والمحروقات والاتصالات وغيرها، إلى واجهة وسائل الإعلام الرسمية، مع إلقاء اللوم على “خيارات السوريين الاقتصادية” التي تجعلهم شركاء في المؤامرة الكونية التي تستهدف “الدولة السورية”.
ومنذ مساء الاثنين، كانت وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية تكرر البيانات الروسية التي نشرتها وكالات أنباء تابعة للكرملين، وقال فيها خبراء روس أن “عودة اللاجئين تتطلب إيجاد ظروف مقبولة في الحد الأدنى من أجل إقامة العائدين إلى بلدهم وتوفير فرص عمل لهم”. أما التفسير الروسي والاسدي لهذه العبارة فتمحور حول “الإجراءات الغربية لتقويض كل الإمكانات الاقتصادية السورية المتبقية وسرقة مواردها الطبيعة وتعميق الصعوبات المعيشية للسوريين بهدف منع أي محاولات لإعادة الحياة في سورية إلى طبيعتها”.
وتفردت صحيفة “الثورة” الرسمية بنشر افتتاحية حاولت تفسير “الرفض الغربي” للمؤتمر، بأخذ الإطار السابق وتضخيمه ليصبح كذبة العام ربما، بالقول أن “قيام مؤسسات الدولة بتوفير مقومات العيش الكريم في الوطن من خدمات وإعادة إعمار ما دمرته يد الإرهاب في مناطق مختلفة بعد أن تم تحريرها واستعادتها، لم تحرج فقط قوى العدوان وتفضحها، بل كانت وما زالت الوقائع والشواهد التي تؤكد قوة الدولة من جهة، وتمثل من جهة أخرى الدليل القطعي على أنها الأحرص على عودة أبنائها الذين مارست بحقهم التنظيمات الإرهابية والقوى الداعمة لها القتل والتهجير والسرقة والإرهاب”.
ولعل الصورة الأخيرة التي انتشرت صباح الثلاثاء من أمام أحد الأفران في ضاحية العاصمة دمشق، صحنايا، لعشرات الأشخاص يتجمعون في الظلام ضمن طابور لا يمكن تحديد ملامحه بدقة، في الظلام الدامس، تشكل الرد المثالي على تلك الكذبة الوضيعة، فـ”الدولة السورية” التي لم تعد سوى نسخة هزلية عما كانت عليه قبل سنوات الحرب، عندما كانت كياناً مترهلاً ومتهالكاً، لاف توفر الكهرباء والخبز والمحروقات في آن واحد للسوريين المساكين الظاهرين في الصورة، والذين تكرر صورهم مع اختلاف وجوههم وأسمائهم، في كل مرة تظهر فيها صور الطوابير المذلة، والتي بلغت حداً قاسياً قبل أسابيع، أمام فرن ابن العميد في العاصمة دمشق، الذي تم تركيب أقفاص حديدية لـ”تنظيم الدور”، في منظر بدا أشبه بأقفاص تحتجز العبيد مثلما تروي القصص وكتب التاريخ.
على أن النظام وروسيا هنا، لا يهتمان كثيراً بنتائج المؤتمر نفسه ربما، بل بفكرة تنظيمه فقط، لأنه يصبح ركيزة للدعاية والخطاب الدبلوماسي المتمحور حول “المواقف الغربية الرافضة للحل السياسي” في البلاد. وعلى هذا الأساس كانت التحليلات تتحدث عن فشل المؤتمر وفرص نجاحه الضعيفة، انطلاقاً من حقيقة مقاطعة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي له، وهي الدول التي تربط العودة الطوعية للاجئين بوجود استقرار حقيقي بناء على حل سياسي جذري ينهي كافة المظالم الموجودة في البلاد. وترى الدعاية الأسدية هنا في هذا الموقف “عدواناً” وتستعمله كمنطلق لترويج فكرة الإرهاب المدعوم من الغرب في سوريا كجزء من مؤامرة مستمرة منذ العام 1971 لتغيير سياسة دمشق “المستقلة”، مثلما كرر المحللون على شاشة “الإخبارية السورية”.
والحال أن موسكو هي التي تقوم بهندسة المسار السياسي للحل القادم في سوريا، وتسعى للترويج لفكرة استقرار البلاد وإيجاد خاتمة للصراع هناك قبيل الانتخابات الرئاسية العام 2021. ومازالت تضغط على النظام السوري لإجراء إصلاحات شكلية تنهي الصراع المجمد في البلاد منذ معركة حلب العام 2016، تقابل بتعنت رسمي، ما أفضى إلى معارك إعلامية بين الجانبين في وقت سابق من العام الجاري، بلغت ذروتها في الرسائل المبطنة التي قدمها عضو مجلس الشعب خالد العبود والتي هدد فيها بثورة شعبية ضد الروس في حال “غضب الأسد منه”. ولعل اللقاء الذي جمع بوتين بالأسد عبر اتصال بالفيديو، الاثنين، يشكل أسلوباً لتلافي تكرار هذه المهاترات الهزلية بالإيحاء أن هنالك “تنسيقاً” بين الجانبين وليس مجرد إملاء للأوامر كما هو الأمر في الواقع.
وتتضمن المبادرة الروسية بالطبع، إلى جانب تصدير فكرة دعم الجيش الروسي للمجتمعات المحلية، الترويج إلى أن البلاد توفر متنفساً للمعارضين في المستقبل من جهة، وملاذاً آمناً للاجئين. ويشكل عقد مؤتمر دولي في دمشق، بدلاً من أستانة أو جنيف أو غيرها من المدن التي احتضنت مؤتمرات ولقاءات لبحث الأزمة السورية سابقاً، محاولة للقول أن العاصمة السورية مستقرة وأن الحرب انتهت وأن الاعتراف بالأسد بات واقعاً. مع الإشارة طبعاً إلى أن من شأن وضع نهاية لأزمة اللاجئين، رفد النظام السوري بالمال اللازم لإعادة الإعمار، في وقت بات النظام فيه مخنوقاً بسبب العقوبات الغربية التي عززها قانون قيصر في حزيران/يونيو الماضي.
والحال أن فكرة المؤتمر قديمة وتعود إلى العام 2017، وشكلت حينها جزءاً من مبادرة روسية أشمل عرفت في الإعلام العالمي بكونها تسعى لإعادة صياغة النقاش الإنساني الدولي حول سوريا، ونقله بعيداً عن التركيز على رفع دعاوى قضائية بخصوص جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد بتجويع مئات الآلاف من المدنيين في المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة، وقتله الآلاف وتسببه بأزمة لجوء هي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وخلق سردية بديلة تشوه الحراك السلمي نحو الديموقراطية في البلاد.
ودعت وزارة الدفاع الروسية إلى عقد “مؤتمر للاجئين السوريين” تحت رعاية روسية، لأول مرة في 5 أيلول/سبتمبر عام 2018، ووصفته بـ”الحدث التاريخي”، وأكدت ضرورة مشاركة الدول المعنية والأمم المتحدة فيه. وقال رئيس المركز الوطني الروسي لإدارة الدفاع ميخائيل ميزينتسيف، حينها أن “الأسد تلقى المبادرة الروسية بإيجابية استثنائية، لعقد مؤتمر دولي حول اللاجئين”. كما تم تقديم مقترحات روسية للولايات المتحدة بهذا الصدد خلال قمة هلسنكي بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب في تموز/يوليو من نفس العام.
وفيما نشرت صفحات موالية أخباراً كاذبة عن تقديم آلاف السوريين إلى البلاد طلبات للعودة الطوعية من الدول الأوروبية، تبقى الأسباب الأساسية التي أجبرت السوريين على النزوح واللجوء موجودة، مثل الاعتقالات التعسفية والتعذيب داخل السجون، وانتشار الميليشيات ونقاط التفتيش والوضع الإنساني والاقتصادي المأساوي، كما أن الأخبار عن عمليات انتقامية من لاجئين عادوا إلى “حضن الوطن” في السنوات الأخيرة تبقى أمراً متكرراً في نشرات الأخبار، ومن الجيد هنا استذكار “النصيحة” التي وجهها العميد في الحرس الجمهوري عصام زهر الدين، قبل مقتله العام 2018، للاجئين بألا يرجعوا للبلاد، لأن جيش النظام “لن يسامح أحداً” على حد تعبيره حينها.
واسترجع المعلقون هذه العبارة في مواقع التواصل الاجتماعي، بموازاة سخريتهم الواسعة من المؤتمر ككل، خصوصاً ان السوريين في الداخل باتوا يتحدثون عن رغبتهم في الرحيل كأمنية وحيدة مشتركة يمتلكونها. ولم تقتصر التعليقات المستنكرة على المعارضين الذين كرروا عبارات مثل “لا عودة بوجود الإرهابي بشار الأسد”، بل شملت الموالين الذين طالبوا “الحكومة” بتوفير سبل العيش للسوريين في الداخل أولاً قبل التفكير بمن هم خارج البلاد. فيما تحدث آخرون عن أن السبب الأساسي لأزمة اللجوء هو الإرهاب الممنهج الذي قام به النظام طوال عشر سنوات وسياسة الأرض المحروقة التي اتبعها لتدمير المدن والقرى الثائرة ضده منذ العام 2011، وكان هنالك وضوح في توصيف المشهد ككل بأنه زائف ومضلل.
والحال أن كلمة زائف قد تكون الأدق عند وصف أي سياسة تجاه سوريا، من أي طرف كان. هي فالبلاد تعاني من مشكلة الدبلوماسية الزائفة “Pseudo diplomacy”، ليس فقط من الجانب الروسي/الأسدي الذي يقدم المبادرات الوهمية، بل أيضاً من ناحية السياسات الغربية التي يمكن وصفها بأنها سياسة اللاسياسة، حيث لا يمتلك البيت الأبيض تحديداً أي استراتيجية محكمة بشأن سوريا، بالتوازي مع الرغبة الأميركية منذ عهد الرئيس باراك أوباما، بالانسحاب من الشرق الأوسط الذي يفقد أهميته الاستراتيجية بشكل مضطرد. وفيما اختار الغرب طوال خمس سنوات على الأقل، فسح المجال للدبلوماسية الروسية كي تفرض رؤيتها الأحادية غير المجدية، فإن أزمة اللاجئين تبقى مهددة للاستقرار الأوروبي نفسه، لأن الدبلوماسية الزائفة نفسها، تغذي خطاب اليمين المتطرف وتزيد من الاستقطاب في عالم متقلب.
المصدر: جريدة المدن