في ظلّ تحوُّلات متسارعة تشهدها العاصمة السورية دمشق، كشفت الحملة الموسَّعة التي شنتها مديرية الخدمات في محافظة دمشق، مؤخَّراً، عن مشهدٍ معقَّد لتجارة الممتلكات المسروقة، التي تُدار عبر شبكة من البسطات والأسواق العشوائية.
وجاءت هذه الحملة، بدعم من قوى الأمن العام، ردَّ فعلٍ على تفاقم الفوضى المرورية والتعديات على الممتلكات العامة، لكنها كشفت أيضاً عن طبقات أعمق في الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه السوريون، إذ تتداخل الحاجة اليومية للبقاء مع استغلال الفرص الناتجة عن سنوات الصراع.
تفاصيل الحملة وكشف الواقع الخفي
أظهرت عمليات الإزالة التي طاولت البسطات في مناطق حيوية مثل البرامكة والصالحية وشارع بغداد، حجمَ التداول غير المنظَّم للسلع، التي تضمُّ مقتنياتٍ تتراوح بين الأثاث المستعمل والأجهزة الكهربائية وقطع الغيار وحتى المواد الصحية والطاقة الشمسية.
ووفقاً لملاحظات ميدانية، اعتمد الباعة على مخازنَ متنقلةٍ مخبأة داخل سيارات مركونة قرب مواقع البيع، إذ يعرضون نماذج مصوَّرة من بضائعهم عبر هواتفهم المحمولة، مع تقديم خدمات توصيل فورية بعد الاتفاق على السعر.
اللافت أن هذه الممارسات لم تكن مقتصرةً على باعةٍ هامشيين، بل شارك فيها أفرادٌ يتمتعون بصلات مع جهات حكومية أو عسكرية، وفقاً لشهاداتٍ لباعةٍ وتجار لـ”العربي الجديد”.
ففي منطقة البرامكة، التي شهدت تدخُّلاً أمنياً قبل أيام، تبيَّن أن جزءاً كبيراً من العروض يعود إلى ممتلكاتٍ منهوبة من منازل مهجورة، خاصة تلك التابعة لمسؤولين وعناصر في النظام السابق.
بين أكوام الملابس المستعملة والأدوات الكهربائية البالية، يقف أبو علي (اسم مستعار) خلف بسطة متواضعة في أحد أسواق دمشق، والذي يحاول كسب قوت يومه منذ ثلاثة أشهر، لكن ما يلفت انتباهه كما يقول لـ”العربي الجديد” ليس المنافسة، بل “طريقة عمل بعض الباعة الذين يمتلكون حمايةً تُذكّر بعناصر النظام الأسد”.
ويروي أبو علي، الذي ينقل بضاعته يومياً من منزله إلى السوق خوفاً من السرقة: “أشاهد باعةً يأتون بسيارات محمّلة بأجهزة كهربائية مستعملة: تلفزيونات، ولابتوبات، وغيرها.
يبيعونها بأسعار زهيدة ثم يغادرون خلال ساعات، وكأنهم يخشون المراقبة”، ويشير إلى أن “بعضهم يملك علاقات مع أشخاص من جهات أمنية، ما يسمح لهم بالعمل دون مساءلة”، معيداً هذه الممارسات إلى أيام نظام الأسد، حين كانت تُنقل بضائع مهربة أو مُستولى عليها عبر عناصر أمنية تُسيطر على الأسواق، ويضيف: “اليوم، تُباع أجهزة تبدو كأنها من منازل مهجورة بسبب الحرب، فهل نحن نعود لدورات الفساد ذاتها؟”
منظومة متكاملة من النهب إلى البيع
تكشف الروايات الميدانية التي استمع إليها “العربي الجديد” عن سلسلة متكاملة تبدأ بتهريب الممتلكات من المنازل المُهجَّرة في ريف دمشق الجنوبي، مثل السيدة زينب والحجيرة والديماس، وصولاً إلى توريدها للأسواق الشعبية في العاصمة، وأشار أبو محمد أحد سائقي نقل الأثاث، الذي فضَّل عدم الكشف عن اسمه، إلى أن عمليات النقل تجري بتواطؤٍ ضمني، إذ تُنقل غرف النوم والطاقة الشمسية والأدوات الصحية مباشرةً من المنازل المُنهوبة إلى مواقع البيع، مع علمٍ مسبقٍ من المشترين بأصولها غير الشرعية.
فيما يكشف سائق آخر متخصّص بنقل الأثاث المستعمل لـ”العربي الجديد” تفاصيل مثيرة عن شبكة بيع ممتلكاتٍ يُعتقد أنها مُنهوبة من منازل عناصر النظام السابق واتباعه، في مناطق ريف دمشق الجنوبي.
وقال مفضّلاً عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية: “أعمل منذ أشهر على نقل غرف نوم، وصالونات، وأدوات صحية، وحتى أنظمة طاقة شمسية، من أحياء مثل السيدة زينب ومساكن نجها والحجيرة والديماس، إلى منازل المشترين”، مضيفاً: “أنا والزبون ندرك أن هذه القطع من مساكن مهجورة أو مُستولى عليها، لكن السعر الزهيد يُغري المشترين”.
وتابع: “أهالي المنطقة يعرفون أن آلاف المنازل نُهبت، ويُشترون أثاثها علناً في أسواق دمشق الشعبية أو عبر مستودعات السيدة زينب”.
وتقدِّر تقارير غير رسمية لوسائل إعلام ومنظمات، واستناداً إلى شهادات سكان محليين، أن أكثر من 50 ألف منزل في ريف دمشق الجنوبي تعرَّضت للنهب، ما وفَّر تدفقاً مستمراً من البضائع إلى الأسواق العشوائية، وتُعتبر مناطق مثل سوق السيدة زينب والحجيرة مراكزَ رئيسيةً لهذه التجارة، إذ تُباع المقتنيات بأسعارٍ زهيدة مقارنةً بقيمتها الفعلية، ما يجذب شرائح واسعة من السكان الذين يعانون من تدهور القدرة الشرائية.
تنظيم حكومي ومقاومة من الباعة
في محاولة لاحتواء الفوضى، باشرت محافظة دمشق بتطبيق خطةٍ لتنظيم الأسواق الشعبية، شملت إزالة البسطات العشوائية في مناطق مكتظة مثل الصالحية وشارع بغداد، قبل أن تُصدر إنذارات أخيرة لأصحابها في البرامكة ومقابل وكالة سانا، مع بدء تنفيذ الإزالات بعد انتهاء المهلة المحددة، بالإضافة إلى تخصيص مواقع محدَّدة للبسطات في أحياء مثل كراج صيدنايا والسويقة ونهر عيشة، مع منح أولوية للفئات الأكثر تضرراً مثل أسر الشهداء وذوي الإعاقة.
إلّا أن هذه الخطوة واجهت رفضاً واسعاً من الباعة، الذين اعتبروا المواقع الجديدة “نائية وتفتقر إلى حركة الزبائن”، ما يهدد مصدر رزقهم الهش أساساً.
وأوضح موظف في محافظة دمشق لـ”العربي الجديد” أن الحملة تأتي “مراعاةً للوضع المعيشي الصعب”، مشيراً إلى تخصيص أكثر من 10 مواقع منظمة داخل أحياء شعبية مثل كراج صيدنايا والسويقة وحي الزهور ونهر عيشة والزبلطاني، بالإضافة إلى ساحة جامع الوسيم بمخيّم اليرموك.
وكشف أن 65% من المواقع خُصصت لذوي الشهداء ومصابي الحرب وذوي الاحتياجات الخاصة، بينما يُمنح الباقي للمتقدمين عبر “مركز خدمة المواطن” مقابل رسوم رمزية، وأكد أن المناطق الجديدة “محمية ومراقبة”، داعياً الباعة إلى “الالتزام بالضوابط حفاظاً على المصلحة العامة.
فيما عبر محسن أبو شاهين، أحد باعة حي البرامكة، عن استيائه من القرارات الأخيرة، معتبراً أن نقل النشاط إلى مناطق بعيدة سيزيد من التكاليف على الباعة والمشترين.
وقال في حديث لـ”العربي الجديد”: “السلطة تحارب الفقراء بدل أن تدعمهم”، من جهتها، بررت السلطات المحلية إجراءاتها بالحاجة إلى “استعادة النظام العام وحماية الحقوق التجارية لأصحاب المحال النظامية، الذين شكوا من تراجع مبيعاتهم بسبب المنافسة غير العادلة من البسطات”.
ورغم الادعاءات الرسمية بـ”المرونة”، يتساءل الباعة عن مدى شمولية الحلول لفئة كبيرة من غير القادرين على دفع الرسوم، وعن مصير من فشلوا في تأمين مواقع بديلة قبل الإزالات القسرية.
تداعيات اقتصادية واجتماعية
أدى انتشار الأسواق العشوائية إلى تحوُّلاتٍ اقتصادية بارزة، منها تراجع الإقبال على الأسواق النظامية، إذ قدَّمت البسطات سلعاً متنوعة بأسعارٍ أقل بفضل مصادرها غير الشرعية، كما ساهمت في تفاقم البطالة بين العاملين في القطاعات الرسمية، مثل الحرفيين وتجار التجزئة، الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن منافسة الأسعار الزهيدة للسلع المنهوبة.
فعلى الصعيد الاجتماعي، خلقت هذه الظاهرة حالةً من التناقض الأخلاقي، إذ يشتري السكان ممتلكاتٍ يعلمون أنها مسروقة، في حين يُجبر آخرون على بيع الممتلكات المنهوبة لتأمين لقمة العيش، سامر الأشقر (اسم مستعار) تاجر بسطة في سوق الصالحية وصف هذا الوضع في حديث لـ”العربي الجديد” بأنه “تبادل للأدوار بين الضحية والجلاد”، مشيراً إلى أن بعض من تعرَّضوا للنهب سابقاً أصبحوا اليوم مشاركين في شبكات البيع نفسها.
من نظام إلى آخر… نفس الأدوات
لا يمكن فصل ازدهار تجارة الممتلكات المنهوبة عن السياق السياسي الأوسع، فخلال السنوات الأولى من الحرب السورية، سمحت الفوضى الأمنية بانتشار عمليات النهب المنظم، غالباً تحت غطاءٍ من التواطؤ من فصائل مسلحة أو جهات نافذة أمنية وعسكرية.
وبحسب شهود عيان، فإنّ العديد من الممتلكات المنقولة إلى الأسواق اليوم تعود إلى منازل كان يقطنها مسؤولون أو عناصر أمنية في النظام السابق، التي استولت عليها لاحقاً جماعات موالية للسلطة الحالية، وتُظهر الوقائع أن هذه الممارسات لم تكن نتاجَ مرحلة انتقالية عابرة، بل تحولت جزءاً من البنية الاقتصادية الجديدة، إذ تُدار التجارة عبر شبكاتٍ تضم عناصر من النظام القديم والسلطة الجديدة، ما يُعمِّق الشعور بالظلم لدى السكان الذين يرون أن “الوجوه لم تتغير، بل الأدوار فحسب”.
فيما يقول عاهد العامر مهجر سوري سابق عاد مؤخراً إلى منزله المدمر في ريف دمشق لـ”العربي الجديد”: “عدنا بعد نزوح دام سنوات لنجد بيوتنا خراباً، فاضطررنا لاستئجار مساكن كان يسكنها عناصر نظام الأسد، وشراء أثاث من منازل مهجرين أو هاربين جدد”، ووصف العامر الوضع بـ”المُحزن”، مضيفاً: “لقد تبادلنا الأدوار. نهرب من مكان إلى آخر، ونستولي على ممتلكات بعضنا مجاناً أو بأسعار زهيدة.
التاجر لم يتغير؛ لا تزال العقلية ذاتها، إن لم تكن الوجوه نفسها، تبيع حتى معاناة الناس وآلامهم”، كاشفاً عن مفارقة لاذعة: “المساكن الحكومية المخصّصة سابقاً لعناصر الأمن تُؤجر اليوم لنازحين بلا مأوى، بينما تُباع ممتلكات مهجرين في سوقٍ تشبه ما كان يحدث أيام النظام البائد”، مشيراً إلى ولادة “شبكات استغلال جديدة ورثت الفساد القديم، مستفيدةً من انهيار القانون”.
جوانب أخرى للأزمة
إلى جانب التداعيات الاقتصادية، خلَّفت الأسواق العشوائية أضراراً بيئية واجتماعية، منها تشويه المرافق العامة بسبب التعدي على الأرصفة، وازدحام الطرقات، وانتقال النزاعات بين الباعة وأصحاب المحال إلى الشوارع، كما أدى اختلاط السلع المشبوهة بالبضائع اليومية إلى تآكل الثقة بين المشترين والباعة، إذ لم يعد بالإمكان تمييز الأصل القانوني للسلع المعروضة.
وفي شهادةٍ لافتة، ذكر سامر الجفان، تاجرٌ في سوق الحميدية لـ”العربي الجديد”؛ أن الأصوات العالية للباعة والمناوشات اليومية حول مواقع البيع حوَّلت عملية التسوق إلى تجربةٍ مرهقة، خاصة للنساء والأطفال، ما دفع العديد من العائلات إلى تجنُّب هذه المناطق تماماً.
وتكشف أزمة البسطات وتجارة الممتلكات المنهوبة عن تعقيداتٍ تتجاوز الجانب الأمني، إذ تُشكل الحاجة الاقتصادية المُلحَّة وقوداً رئيسياً لاستمرار هذه الظاهرة، ففي ظلِّ تآكل قيمة الليرة السورية وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات قياسية تجاوزت 60% حسب بعض التقديرات، تتحوَّل التجارة غير المنظمة ملاذاً للآلاف من العائلات التي تفتقر إلى بدائل عيشٍ كريمة.
ومن هنا، تبرز الحاجة إلى سياساتٍ لا تقتصر على الإجراءات العقابية، بل تشمل إعادة إحياء القطاعات الإنتاجية، وتأمين فرص عملٍ مستدامة، وإعادة توزيع عادل للموارد، فبدون معالجة الجذور الهيكلية للأزمة، ستستمر الدورة نفسها؛ نهبٌ لتعويض النهب، وفقرٌ يغذّي الفقر، وصراعٌ يدفع السوريين إلى تبادل أدوارهم؛ ضحايا وجلّادين في الوقت ذاته، حسب مراقبين.
المصدر: العربي الجديد