مائة سوق لبيع السيارات المستعملة بسوريا، بل مائتان، بل قل أكثر، فذاك العطش لاقتناء سيارة من جراء ثلاثية حكم نظام الأسد الشهيرة “منع، قيد، حصر” حوّل شوارع وساحات بجميع المدن السورية، إلى أسواق سيارات مفتوحة وعلى كلّ الاحتمالات.
فهناك، جراء الرغبة والإغراق وإغراء الأسعار، لا ضابط ومحددات تحكم وتنظم تجارة السيارات بكل أنواعها، بعد قرار السماح المحيّر والمفتوح، سوى العرض والطلب، ولا ضامن سوى الدق على الصدر أو مسك الشاربين.
هكذا يبدو المشهد المرشح يومياً للتعقيد واستنزاف النقد الأجنبي من السوق السورية، مذ أصدرت وزارة النقل مطلع العام، قرار السماح باستيراد جميع أنواع السيارات، متنازلة عن جميع الشروط التي تحفظ البيئة وأمان السوريين، مكتفية بشرط وحيد هو ” ألا يكون مضى على تصنيع السيارة المستوردة أكثر من 15 عاماً”، من دون أن تحدد بلد المنشأ، أو وجهة الاستيراد، أو حتى فحص فني دقيق، قبل منح اللوحة المؤقتة، لئلا تتحول المستوردات إلى توابيت متحركة في الشوارع والميادين، بواقع قدم السيارات واهتلاك البنى التحتية بسورية.
قصارى القول، من التضليل ربما، الاكتفاء بمقولة “من حق السوريين أن يركبوا سيارات، بعد سني المنع والتشهّي وغلاء الحافلات”. أو التذرع بتحصيل العائدات الجمركية ببلد يبحث عن الموارد التي تعالج العجز الكبير في الموازنة العامة للدولة، رغم ما فوّته تخفيض الرسوم الجمركية بين 70% و80% على الخزينة العامة.
الحاصل هو تبرير إصدار قرار السماح المفتوح هذا، والتغاضي عن عقابيل كثيرة ستتبدى تباعاً، بالتوازي مع تهافت أساطيل السيارات من دول شرق آسيا والخليج وأوروبا والولايات المتحدة، إن مباشرة عبر تجار ضحكت لهم الظروف وفتحت لهم طاقة الحظ، أو وكلاء وجدوا بالسوق السورية ضالتهم، فأعلنوا عن كسر أسعار وخدمات توصيل من دول مجاورة، ليرموا بشوارعها ما لفظته دول كثيرة، إن جراء قوانين الأمان والبيئة، أو الإصدارات الجديدة والحديثة التي دخل عليها التحكم الذكي أو استهلاك الكهرباء بدل الوقود الأحفوري… ولعلّ عدم استيراد سيارات حديثة تعمل على الكهرباء أو حصر الإدخال بطرازات ودول محددة، أدلة واضحة وربما فاضحة.
إذاً، وبعيداً عن التجني، فالفوضى هي الوصف الأدق لما يجري بأسواق السيارات المستعملة بسورية. فوضى على صعيد الاستيراد، وفوضى على صعيد التسعير، وفوضى لعدم استثمار ذاك العطش، لبناء منظومة نقل متطورة بسورية وتحصيل عائدات مالية، يمكن أن توّظف بمواقع ضرورة، إن بقطاعات الصحة أو التعليم، أو حتى توظيف تلك المليارات المتوقع جبايتها، بتحسين دخول السوريين لتنشيط الأسواق ودورة عجلة الإنتاج.
أما أن تفتح الحدود السورية لسيارات بعمر 15 سنة، تم على الأرجح، تنسيقها بالبلاد التي تتخلص منها، واستغلال حاجة وتلهف السوريين، فذاك ما سيعدد الآثار قريباً، بعد الحوادث والأعطال وتلوّث البيئة وحتى زيادة استهلاك الوقود.
وكل هذا، إن لم نقف على آلاف المركبات من موديلات 2007 و2008 وما تسمى السيارات المقصوصة أو الغارقة ذات الجودة والأمان المتدنيين، والتي دخلت عبر البحر وشمالي سورية ومن وجهات خارجية عدة، ربما الإمارات بمقدمتها، أو أساطيل السيارات القديمة والمعاد تصديرها عبر معبر نصيب، لتجد بالسوق السورية رواجاً بدل تسليمها لمعامل صهر المعادن.
بعيداً عن توصيف الواقع “المرعب” التي تعيشه الشوارع وأسواق السيارات المتكاثرة كالفطر في سوريا، نسأل: ما هو حجم الأموال التي خرجت وستخرج من سورية لتمويل عمليات استيراد السيارات، وفق ما نرى من تسامح وحرية استيراد وفتح مدة الاستيراد، وما أثر نقص المعروض الأجنبي الذي كان يمكن أن يضخ بقطاعات أجدى وأقنية أكثر ضرورة، على سعر صرف الليرة السورية التي يخطئ من يفكر بإلغاء الأصفار، يمكن أن تتحسن أو تستعاد الثقة بها.
كما يخطئ من يرى أن مالك السيارة فقط من سيدفع ثمنها، لأن المستهلك السوري وبعد تراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار، سيساهم عبر غلاء أسعار المنتجات بسعر السيارة، ويشارك ربما الصناعي بالسعر من جراء ارتفاع أسعار الوقود بعد زيادة الطلب واستهلاك السيارات… وتدفع الخزينة العامة للدولة بعد تساهلها بشروط الاستيراد وتخفيض الرسوم.
ونسأل عن عدم تعديل قرار السماح المفتوح، بعد تشكيل الحكومة بسورية ووصول وزير مخضرم لوزارة النقل، عايش قضية السيارات منذ حكم الأسد البائد وزيرا للنقل وكان له الصوت العالي بمنع استيراد السيارات المستعملة من موديلات ووجهات محددة أو بعمر قديم. وهو يعلم أي آثار ستترتب وثغرات ستفتح، بعد انتهاء أشهر العسل وأفراح السوريين، إن على قطاع قطع الغيار ونزيف الدولار أو على الطرق والمرافق السورية المهدمة بعد حرب وقصف إهمال.
نهاية القول: قد يرى كثيرون أن من حق السوريين امتلاك سيارة رخيصة والتنعّم ببعض رفاهية الحياة، بعد حرمان وتجويع استمرا لعقود. وقد يكون بهذا الرأي حق ووجهة نظر، شريطة عدم استمرار هذه الذريعة إلى أن تتبدد مكتنزات السوريين وتتحول الشوارع إلى مقابر السيارات القديمة بالعالم.
ما يعني الاكتفاء بشروط التسامح، سواء لجهة سنة الصنع أو المواصفات وبلد المنشأ، والخروج سريعاً بتعديل للقرار الارتجالي الذي أصدرته حكومة تسيير الأعمال المنحلة، عبر قرار يؤسس لخريطة نقل مستقبلية لا تضطر لصهر السيارات المستوردة، ويضمن التعديل سلامة السوريين ويقلل من استهلاك الوقود وتلوّث البيئة، ويعيد، بالآن نفسه، حقوق الخزينة العامة بعد تخفيض الرسوم.
كما، ولذلك بحث آخر ومستقل، ربما يفتح قرار استيراد السيارات المستعملة المفتوح هذا، الباب لقرار استيراد الآلات المستعملة بعمر وبشروط ومواصفات مدمرة للإنتاج والجودة… فتتحول المصانع لساحة خردة، بعد تحويل الشوارع لمكب سيارات.
المصدر: العربي الجديد