بحث
بحث
انترنت

حرب غزة بعيون سوريين شهدوا موقف الفصائل الفلسطينية في سوريا

غالبية الشعب السوري يدعم القضية الفلسطينية ويختلف في الرأي والموقف تجاه الفصائل الفلسطينية

استعرض تقرير مواقف السوريين من الحرب الدائرة بين فصائل فلسطينية في غزة والجيش الإسرائيلي، وشهادات لما عاصروه مع أذرع تلك الفصائل في سوريا خلال سنوات الثورة .

وقال المهندس علاء العز المقيم في دمشق معقباً على الموقف الشعبي السوري فردياً وجماعياً بمعزل عن التوجه السياسي العام ويشرح أكثر عن موقفه ذلك مبيناً أنّ الحرب في بلاده أفرزت الناس من حولهم وفي محيطهم وإقليمهم وامتداداته وجعلت فئةً كبيرةً من السوريين تعاني الخذلان وفقدان الثقة وما أسماه “صفعة الأخ”، وفقاً لتقرير أعده موقع رصيف 22.

وأضاف: “فلسطين مقدسة دينياً وقومياً وكل شهيد هناك تنزف له القلوب في الشام، لكن هل أنا شخصياً سأقاتل هناك؟ نعم، قد أقاتل إسرائيل في بلدي، ولكنّي لن أقاتلهم بالإنابة عن حماس التي احتضنها بلدي لعقود ثم تورطت في الحرب ضدنا بل فجأةً وجدنا آليات تابعةً لها تحفر أنفاقاً للمسلحين بدلاً من أن تُستخدم في تدريب المقاومة التي تعيش العزّ لدينا”.

ويرى علاء بالأسود الذي فقد شقيقه في معارك مخيم اليرموك قبل سنوات ولم يستطع حتى الآن أن يتصالح مع فكرة أنّ فلسطينياً قتل أخاه الذي كان مستعداً ليقاتل معهم كتفاً إلى كتف في وجه إسرائيل،

وتعتبر وجهة النظر هذه محصورة في فئة مؤيدي النظام السوري، فئة رأت مخيم اليرموك يحاول قتلها، فيما هناك فئة أخرى كانت ترى أن اليرموك جزء من نسيج سوري يرفض الظلم والطغيان وثار مثله مثل سوريين كُثر ضد الحكم الاستبدادي الذي مارسه ولا يزال يمارسه الرئيس السوري بشار الأسد، وقبله والده الراحل، حافظ الأسد، وحزب البعث من ورائهما.

وسرعان ما أفرزت عملية طوفان الأقصى السوريين على نواصي المواقف، المواقف التي يمكن لحظها في الشارع، في الجلسات العامة والخاصة، وعلى السوشال ميديا، فالجميع يعبّر عن موقفه، فاليوم لا وزر على السوريين في آرائهم على غير العادة، ويقول قائل: “لا بأس بالتعبير فدولتهم أساساً لم تعرف حتى الآن كيف ستعبّر!”.

ويُعبّر الموظف مهران جواد عن موقفه المترنح بين اثنتين، يشرح أنّه لا يستطيع ألا يقف مع غزة بكل ما فيه، ولكنّه لا يغفر ما فعله الفلسطينيون ببلده، بعضهم الوازن على الأقل.

وبحسب جواد فإنّ “القصة ليست تفاضلاً، بالتأكيد لن ندعم إسرائيل في وجه المقاومة، لكن على حساباتنا أن تكون أكثر براغماتيةً فبعض الزرع إذا لم يؤت ثمره سيبور ويصبح خطراً على تربته لذا أنا مع فلسطين ومع ضحاياها، وقبل كل ذلك مع بلدي وهمومه ثم ننظر إلى الجوار لاحقاً”.

سوريون غير آبهين
ويطفو فوق كل ذلك نموذج غير مكترث. قد يكون جاهلاً لمكان فلسطين على الخريطة أساساً. هذا النموذج واحد من اثنين؛ أولهما صغير ينتمي إلى الألفية الحالية ولم يعِش لحظات شحذ همم القلوب في الانتفاضتين وما تلاهما، وثانيهما يعتقد أنّ ما مرّ به بلده يجعله منكفئاً للغاية عن جوارٍ لم يمدّ له يد العون حين كان يغرق.

ولا تعتقد ميساء إسماعيل 22 عاماً أنّ أمر عدم الانخراط بكل كيانها ويومياتها وطاقتها في دعم فلسطين ينعكس من عمرها الزمني أولاً فهي حين بدأت حرب بلادها كان عمرها نحو 10 سنوات ولم تحظَ إذاً بيوم ترى فيه بلادها جميلةً كما كان يروى عنها في حكايات الجدّات.

وتقول: “كنت في الصف الرابع الابتدائي حين بدأت الحرب ونحن من حمص التي شهدت أقسى المعارك تربيت مع أصوات القذائف والمدافع وأعتقد أني دفعت مبكراً جداً مع كل جيلي ثمن الحرب والآن بين كل هذا الركام نحاول صناعة فرصة للحياة. لا أقول إنّ فلسطين لا تعنيني، ولكنّها لا تشغلني بالقدر نفسه. هذه الحرب هناك مستمرة منذ كان جدي طفلاً”.

مازن عمّار وصديق ميساء وزميلها في التخرج وعمره من عمرها يشاطرها رأيها ببعض أجزائه، ويعتقد أنّ على السوري الالتفات اليوم لمعالجة مصائبه بدل الغرق في وحل السياسة: “إذا كنا كلما حصلت حرب سنكرس حياتنا لها فلن ننتهي في بلدي دفعنا الثمن وانتهينا، ثم أليس في الكون غير السوري ليحمل هموم القضايا؟ هناك مليارا مسلم ليتكفلوا هم بالتحرير، نحن السوريين أليس أجدى لنا أن نستعيد شرق الفرات بخيراته بدل هبل الأوهام التي يعرف الجميع أنّها مجرد أحلام؟ أمام جوعنا تسقط كل القضايا العروبية والإسلامية والمبدئية”.

“تهريج المزايدات”
ويتضح في إطار غير الآبهين من الصغار عمراً بروز شخصيات تحمل آراءً أكثر غضباً تعبّر عنها في مكان ما سميّة شهاب، وهي طالبة جامعية في دمشق، إذ تقول: “فلسطين، فلسطين، فلسطين، منذ وُلدت لا سيرة لنا إلا فلسطين. أنا شخصياً ماذا يمكنني أن أقدّم لفلسطين؟ لا شيء، بوست على فيسبوك لن يحررها، قلبي معهم، ولكنني منطقية، أنا أعيش يومياتي كما المعتاد تماماً. لن أنافق، ورأيي واضح، حين ينتهي تهريج المزايدات وتُفتح الحدود من كل اتجاه، فليذهب الشجعان حينها. أما الآن فيكفي تخوين من يريد أن يتابع حياته بشكل طبيعي”.

وتستدرك سميّة في سؤال يبدو أنّها تعرف جوابه في لا وعيها، ولكنّها لا تعرف جوابه الحقيقي. سؤالها كان: “خلال عمر المقتلة السورية التي قضى فيها اثنان من أخوالي والكثير من جيراني والآلاف من أهالي بلدي، هل توقفت الحياة في غزة حزناً؟ أنا سمعت العكس، سمعت أنهم دعموا المسلحين ضدنا، ورفعوا علم الذين قتلونا من السوريين (علم الثورة)!”.

“لم يحزنوا لأجلنا”
أما عن الفئة الأخرى بين غير الآبهين وهي الأكبر عمراً والأكثر مشاهدةً وإدراكاً، فيعبر عنها المحامي خليل زياد بقوله: “المشكلة مركبة، أنت تدعم طرفاً لا يريدك في جيناته، وحين تموت أنت لا يصلي عليك. القضية في المنطق تقتضي القول إنّ فلسطين تسكن قلوبنا، ولكن الجميع خذلنا في محنتنا وجعلنا نخاف من أنفسنا، فكيف يكون الآخرون؟”.

ويزيد عمر الشيخ الذي يعمل في الترجمة على رأي المحامي خليل بالقول: “كان الله بعون أهل غزة الأبرياء الضعفاء، ولكن كان الله بعون بلدي أولاً، بلدي الذي عليّ أنّ أفكر كيف أداويه قبل أن أفكر في كيف سأسند من لم يحزن لأجل موتي لحظةً”.

“مع غزة حتى الموت”
من الصعب إجراء مسح بياني واستنباط نسب مئوية دقيقة لمواقف السوريين برغم أنّها غير مخفية، هي التوجهات الرئيسية والمركزية والتي يمكن لحظ طغيان أحدها على الآخر، ولعلّ الطاغي هنا فئة مندمجة تماماً بتفاصيل وملامح معركة غزة كقضية وجودية لأبعاد يمكن تمييزها ما بين إنسانية ودينية وقومية وسياسية، والأخيرة، أي السياسية، لأنّها تتماهى مع السياسة السورية الخارجية في التموضع ضمن “محور المقاومة”، وكاستمرار لشكل الحرب السورية القائمة التي كانت إسرائيل بطريقة ما طرفاً فيها.

وخلص التقرير باستمزاج بعض الآراء إلى أنّ المعبّرين عن هذه الفئة يتعاملون مع ما يحصل كقضية وجودية بتمامها وكمالها، قضية من شأنها إذا ما خسرت غزة حربها أن يخسروا هم بشكل مباشر كل ما حققوه من مكاسب عسكرية في وجه “أدوات” عدوٍ قصف مطاراتهم، ثلاث مرات منذ بدء معركة “طوفان الأقصى”، وقبل تلك المعركة مراراً.

يقول الموظف سمعان سليمان المقيم في طرطوس: “هذه معركة وجود، إما نكون أو لا نكون، حربنا مع أمريكا في شرق الفرات والإرهاب في إدلب ليستا أهم إطلاقاً من حربنا مع إسرائيل، لنمُت جميعنا فداءً لتحرير فلسطين وبلدنا”.

“هذه معركة وجود، إما نكون أو لا نكون. حربنا مع أمريكا في شرق الفرات والإرهاب في إدلب ليستا أهم إطلاقاً من حربنا مع إسرائيل، لنمُت جميعنا فداءً لتحرير فلسطين وبلدنا”.

فيما يقول المهندس رجب حسين من اللاذقية، بعد عرض النماذج السورية عليه حيال الموقف من “طوفان الأقصى”: “كل شخص ليس بروحه وماله مع فلسطين الآن، هو خائن ولو كان سورياً قدّم نصف عائلته شهداء في حربنا. هذه إسرائيل التي تفتك حتى الآن ببلدنا، وإياك أن تعتقد أنّ لدينا عدوّاً غيرها، من نحاربهم منذ بداية الحرب في سوريا على الأرض هم أدواتها”.

وكذلك الأمر بالنسبة للموظف المتقاعد كريم عبّاس، المقيم في ريف حماه، والذي يؤكد أنّ سوريا عماد “محور المقاومة، وهي لذلك دفعت الثمن خلال حربها الكبرى. لم نحارب 13 عاماً لنستكين الآن، حاربنا منذ أول طلقة ونعرف أن عدونا إسرائيل وطريقنا إلى إنهائها لن تعبّده إلا دماء شهدائنا في سوريا وكل دول محور المقاومة”.

ولدى بعض الأشخاص أسباب دينية تتعلق بإسلامية فلسطين ويهودية إسرائيل، بعروبة فلسطين وعنصرية إسرائيل، طغيان إسرائيل ومظلومية الضفة والقطاع، فالحشو السياسي والعقائدي السوري الرسمي التاريخي على مدار عقود عبر المناهج والنقابات والاتحادات والأحزاب محوره أنّ فلسطين المرتجى، وأرض المقدّس، وعمق القضية المركزية التي ماتت وستموت أجيال لأجلها.

هذا النموذج منذ اليوم الأول رهن نفسه في مجالسه، وعلى صفحات السوشال ميديا الخاصة به، ليكون مستنفراً لأجل فلسطين لحظةً بلحظة، حتى غدا مشهد الفيسبوك في سوريا غارقاً بالغرابة، فصفحات تحارب أكثر من الغزّيين أنفسهم وصفحات تعيش في “اللا لا لاند”.

نموذج غريب ومركب
بالتوازي مع ذلك كله، ثمّة نموذج هو الأغرب والأكثر فداحةً، أي الذي لا يمكن فهم مشاعره، والذي يجرح ويداوي، وأولئك أشخاص تعجّ صفحاتهم بدعم القضية وتجاهلها، لا يحدث ذلك بين يوم وآخر، بل بين قصة وأخرى في الوقت نفسه ضمن تلك الخاصية المميزة في تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي.

وبحسب التقرير بعض هؤلاء الأشخاص، أنّهم يضعون صورةً يندبون فيها فلسطين، وبعدها صورةً لطعام، أو حفلة، أو شراب، أو نكتة، ثم صورة لفلسطين، وهكذا دواليك. هؤلاء يحيّرون الآخرين، فحتى الآن لا أحد يفهم موقفهم، وإن كان يمكن تفسيره أحياناً بالخجل مما يحصل حولهم، مع الاستمرار في اهتمامهم بإبراز حياتهم.

وأجاب سائد عمران وهو خبير نفسي على التساؤل حول تباين النواقف والآراء بقوله: “هذه فئة يمكن تصنيفها على أنّها من النوع الذي يخشى لوم المجتمع، فيحاول مجاراته في قضاياه وأحزانه وهمومه، لكن في الوقت نفسه يعود ليخبر الناس كيف تسير حياته وكم هي جميلة، وهذا هو أبرز تجليات صراع الأنا والهو والأنا العليا، وهؤلاء عموماً فقط يسايرون الناس من حولهم لئلا يعيب أحد عليهم تجاهلهم مآسي الآخرين”.

ويضيف: “هؤلاء لا يمكن أن يقول أحد عنهم إنهم سيئون إطلاقاً، هم فقط يقاربون القصص من زوايا خاصة بهم، وفي باطنهم هناك صوت يقول لا تدعموا ما يحصل فلن تغيّروا شيئاً، أو حتى أنهم يكونون في الأصل غير آبهين، مقابل صوت يقول لهم احضروا على الساحة، وتفاعلوا لئلا يثار كلام ضدكم. وفي سوريا لا يوجد أسهل من الاتهام بالوطنية”.

يوضح عمران أنّ “الحالة الوطنية الجمعية التي اشتدّ عصبها منذ اليوم الأول ستتراجع شيئاً فشيئاً مع تقادم الوقت لدى الناس الذين تنحصر سبل دعمهم لغزة في السوشال ميديا، فالناس تحتاج أن تتابع أشغالها وأعمالها وحياتها وإن ظلّت راهنةً منصاتها لأجل ما يحصل فكثيرون منهم سيخسرون أشغالهم وأعمالهم، عدا عن حالة الملل التي ستصيبهم أساساً”.

النكتة قالت كل شيء
صحيح أنّه لا يمكن طرق أبواب السوريين فرداً فرداً لسؤالهم عن رأيّ كلّ منهم وكيف يقارب المشهد، ولكن من الأكيد أنّ التشابه في الخطوط العامة يعمّ الحالة لكونها أكثر بعداً من حصرها في قضية محلية صغيرة، على اعتبار أنّها صارت الشغل الشاغل للعالم أجمع.

ورصد التقرير آراء عدائيةً، وأخرى متوحشةً، وغيرها مغاليةً في المشاعر، وما من إمكانية لعرضها جميعها، هذا عدا أنّنا واجهنا أناساً يمكن الاعتقاد أنّهم يكذبون في تبيان موقفهم لدواعٍ تتعلق بالحياة السياسية في سوريا أساساً، وأولئك تحديداً بدوا مقلقين، فأحدهم افتتح حديثه بأنّه لا يملك ثمن حليب لطفله الصغير، وختم حديثه بأنّه ينتظر بفارغ الصبر أن يحمل سلاحاً ليحرر فلسطين.

ولكن في المجمل لا شك أنّ كُثراً في سوريا يحبون فلسطين كثيراً، يحبونها كما يحبّون حلب وحمص واللاذقية، ويحبّونها لأنّها تسكن في لا وعيهم الوطني ما بَعُدَ منه وما قرب، إلا أنّ للحرب السورية أثراً نفسياً جباراً اعتدى على كيانات الرجال وقلوبهم وجعل حساباتهم تتغير، أو تؤجّل في أفضل الأحوال، فمن راح منزله بقذيفة أدرك قباحة الحرب، ومن راح شقيقه بطلقة قناصة عرف بشاعة الحرب، ومن مات ويموت جوعاً صارت أولوياته أن يشبع.

وبعد ذلك كله، أليس من غرابة الموقف، وسوء المشهد، ونكد الدهر، أن السوريين كانوا قد تداولوا على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي قبل أشهر عدة نكتةً سوداء تقول: “متوسط راتب الموظف في غزة 500 دولار.