المدن – إياد الجعفري
كان يمكن توصيف التراجع الأخير في سعر صرف الليرة السورية بأنه نتيجة لضبابية المشهد حيال التداعيات المحتملة لعملية “طوفان الأقصى” على الوضع الأمني بسوريا، لولا أن تكرار دورات تذبذب سعر الصرف، وانفصالها عن واقع أسعار السلع، يدفعان لقراءة مختلفة تشكك بموضوعية سعر الصرف كمؤشر اقتصادي عام في سوريا.
وعلى وقع الأنباء عن إطلاق قذائف هاون من الأراضي السورية باتجاه الجولان المحتل، يوم الثلاثاء الفائت، أنهت الليرة مساراً نحو التحسّن دام أسبوعين، وعكست اتجاهها لتخسر 6.5% من قيمتها، خلال ثلاثة أيام. وتزامن ذلك مع أنباء عن نقل مقاتلين مدعومين من إيران إلى تخوم الجولان، وتوافد مقاتلين وقادة من حزب الله إلى الجغرافيا ذاتها.
في ضوء هذه الأنباء، وإذا افترضنا وجود حركة عرض وطلب طبيعية في سوق العملة المحلية، فإن اتجاه المتاجرين إلى حالة تحوّط في ظل ضبابية المشهد السياسي والأمني بالمنطقة، أمر طبيعي. وهو ما حدث حتى على المستوى العالمي، إذ ارتفع سعر الذهب بوصفه ملاذاً آمناً. لكن في الحالة السورية، لا تخضع العملة، بوصفها سلعة، لحوافز العرض والطلب والعوامل النفسية المرتبطة بالتطورات السياسية والأمنية، إلا بصورة جزئية. فيما تبدو العوامل المرتبطة بتدخل النظام وأجهزته، أكثر تأثيراً على هذه السلعة (العملة).
ومما يدل على ذلك، أنه يمكن رصد أربع دورات تذبذب لسعر صرف الليرة مقابل الدولار، خلال شهرين فقط، وضمن هامش 2000 ليرة (بين 13000 إلى 15000 مقابل الدولار). أي أن الليرة ارتفعت وهوت مقابل الدولار، بنسبة 13.33% من قيمتها، أربع مرات في شهرين. وهو ما يُفقد تحسّن سعر صرف الليرة، أي قيمة له، نظراً لقصر مداه الزمني، الذي لا يتعدى الأيام في بعض الدورات، وقد يمتد في أحسن الأحوال إلى أسبوعين، كما في الدورة الرابعة والأخيرة.
وكما هو معلوم، فإن التذبذب الكبير والمتكرر لسعر الصرف أكثر ضرراً على الحياة المعيشية في بلدٍ ما، من تراجع سعر الصرف مرة واحدة، واستقراره بعدها. وهو ما يمكن مشاهدته جلياً في سوريا، ففيما كانت الليرة تتذبذب بين هبوط وارتفاع، كانت أسعار السلع والبضائع في اتجاه واحد فقط، هو الارتفاع. وقد تعزّزت بصورة جلية، حالة الانفصال بين واقع سعر الصرف في السوق السوداء، وبين واقع أسعار السلع والبضائع. وهو ما تسبب بانتقادات حادة للفريق الاقتصادي بحكومة النظام، الذي أطلق وعوداً وتبريرات مختلفة، لتفسير حالة الانفصال هذه، ولتخفيف الحرج الذي بات فيه.
فخطاب النظام السياسي والإعلامي اعتاد على تقديم سعر صرف الليرة بوصفه مؤشراً لأدائه، وصولاً إلى توصيف العمل على رفعه بأنه “معركة”، حسب تعبير رأس النظام، بشار الأسد، قبل أكثر من سنتين. تلك “المعركة” هي وجه آخر من وجوه الصراع مع “الخارج”. فإذا تمكّن النظام من تحسين سعر صرف الليرة، يعني ذلك أنه يسجّل نقاطاً على “الخارج” في “معركته” تلك. ولأن ذاك “الخارج”، وفق الخطاب ذاته، يريد دفع الليرة للانهيار، بغية التأثير على معيشة السوريين “المؤيدين” بشدة، للأسد، بغية تقليبهم عليه، فإن النتيجة المنطقية المستنتجة من هذا الخطاب هي أن تحسّن الليرة يجب أن يؤدي إلى تحسّن في معيشة السوريين. وهو ما بات الشارع ينتظره، بل ويطالب به، عبر الإعلام الموالي، كلما تحسّن سعر صرف الليرة.
وهو ما حدث مجدداً في الأسبوعين الأخيرين، حينما طالت دورة تحسّن سعر صرف الليرة وترافقت مع زيارة الأسد إلى الصين، فأوحت بأن هناك مساراً إيجابياً، يتجه نحوه الوضع الاقتصادي العام. لكن ذلك لم ينعكس مطلقاً على واقع أسعار السلع والبضائع، بل على العكس. إذ قفزت أسعار الألبان والأجبان إلى الضعف خلال شهر، وارتفعت أسعار الكونسروة والتبغ والإسمنت، وطالبت مؤسسة “حماية المستهلك” بفتح باب استيراد الأسماك واللحوم المجمدة، بعد أن خرجت أسعار الإنتاج المحلي الطازج منها، تماماً، خارج قدرة غالبية السوريين. وهو واقع لم يستطع إعلام النظام إنكاره، حتى أن جريدة “البعث” الناطقة باسم الحزب الحاكم أقرّت بأن الأسعار العالمية للغذاء انخفضت مؤخراً، فيما ارتفعت الأسعار المحلية.
وفيما يرهن النظام معيشة السوريين للسياسة، فيقدّم تحسّن سعر صرف الليرة كـ “انتصار” له، فيجنّد كل أجهزته لتحقيق هذا الهدف، بطرق قسرية، تتنافى مع قوانين العرض والطلب، كحبس السيولة من الليرة السورية، والقيود على الاستيراد، والتدخل في سوق العملة عبر مضاربين تابعين له، بالمقابل، يفقد مؤشر سعر الصرف دوره في تقديم تأشير موضوعي لواقع الاقتصاد السوري، بصورة شبه كاملة.
وبذلك تحولت اللازمة الخطابية التي كان حازم قرفول، حاكم المصرف المركزي السابق، يكررها دوماً، إلى حقيقة. لكن بصورة معاكسة لمقصده منها، قبل بضع سنوات. إذ كان قرفول يدمن الرد على منتقديه بأن سعر صرف الليرة في السوق السوداء “وهمي”، بمعنى أن قيمة الليرة أعلى مما هي عليه في تعاملات هذه السوق. هذه اللازمة أصبحت اليوم واقعاً، فمؤشر سعر الصرف في السوق السوداء أصبح “وهمياً” بالفعل، بمعنى أن لا قيمة له، في تقديم تصوّر لواقع واتجاه الوضع الاقتصادي في هذا البلد.