كتب “رياض صالح” لموقع الجمهورية عن مقالاً من ذكرياته مع الكبتاغون في دمشق، تحت عنوان “ذكريات كاتب شبح مع الحبة السحرية“، يروي فيها قصة لجوئه للكبتاغون في ظل الظروف التي عصفت به خلال المرحلة الجامعية، وتعليقه على صناعتها وانتشارها وتصديرها خارج سوريا قبل أن يقلع عن تعاطيها.
يقول الكاتب، جلستُ إلى جانب عمي أستمعُ إلى ابنه وهو يتحدث عن المعارك اليومية التي يخوضها في ريف دمشق، كان هذا قبل سنواتٍ من تسريحه.
أَخرجَ من جعبته حفنةً من الحبوب البيضاء، وقال لأبيه إنهم يوزعون هذه الحبوب عليهم قبل اقتحام أوكار «العدو»، وإنّ عليه ابتلاع كميةٍ منها في حال أصيب خلال المعركة. ستسمح له هذه الحبوب، حسب قوله، بتأجيل موته والبقاء يقظاً ليمنع الأعداء من سحب جثته وتدنيسها، أو ليجد القوة على قتل نفسه ومنعهم من انتزاع الاعترافات بالتعذيب. كان هذا أمراً عسكرياً عليه تنفيذه، أما هو فقرّر ألا تفارقه هذه الحبوب -مثل سلاحه تماماً- وسيتناولها كلها في حال أصيب؛ لأنه يريد العودة إلى بيته للمرة الأخيرة.
لا شك أنهم لم يكترثوا لوجودي، لقد ركزوا اهتمامهم على الشاب الذي يتفوه بمثل هذه العبارات الرنانة والنهائية، وكل ما فكرت فيه حينها أن ذلك الأمر العسكري معقدٌ جداً، وربما يفوق طاقة الجريح، وأن الأمور كانت “حامية” عندهم دون شك، وكل شيء صار مباحاً ومعقولاً. لم أكن أعرف وقتها أني سأبحث أنا نفسي عن هذه الحبوب في وقت لاحق. هل تتساءلون الآن لماذا يبحث شابٌّ جامعي في العشرين من عمره عن “الكبتاغون” أو “الكبتي” في كل زاويةٍ من زوايا دمشق؟ سأخبركم بالتفصيل.
كنتُ مقاتلاً أيضاً، ولكنه قتالٌ خاصٌّ بي.
فأنا ابن أسرةٍ من الطبقة الوسطى الدنيا، ولم يكن ضمن الخطة المحددة لمستقبلي تعلم أي حرفةٍ أو اكتساب أي مهارةٍ في سنٍّ صغيرة، بل كان عليّ التركيز دائماً على تسلق السلّم التعليمي وإنهاء المرحلة الجامعية لأحصل على وظيفةٍ ومعاش لا ينقطع. ولكن اعترضت هذه الخطة عدة مشكلات، جاء بعضها على شكل خياراتٍ قمت باتخاذها، في حين كان بعضها الآخر رشفاتٍ من كأسٍ تجرعه السوريون معاً.
كنت أتوق في بداية الأمر إلى الابتعاد عن عائلتي والعيش وحدي في دمشق، حتى أصير كاتباً، كي أجلس في مقاهي الشام الشعبية متأملاً شمس الظهيرة، أخطُّ أشعاراً تؤثر في كل الناس، أو أكتب روايةً عن الحياة الليلية بعد أن أخوض الكثير من المغامرات الساخنة. لهذا أصررتُ على دراسة اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة دمشق، ولكن في سنتي الثانية اتخذت عائلتي قرارها المصيري، وهو تأجيل دراستي الجامعية؛ لأنهم يمرّون بأزمةٍ ماليةٍ شديدة. كان واضحاً لهم منذ البداية بأنني لن أجنيَ الكثير من المال في المستقبل، وأنه لا يمكنهم الاعتماد عليّ؛ كنت رهاناً فاشلاً، ومثالاً عن الغصن الذي يمتصّ الغذاء ولا يثمر. أرادوا لي أن أترك دمشق، وأن أعود إلى بلدتي الصغيرة.
لم أُعارضهم لأن الأزمة الاقتصادية التي عشناها كانت قاسيةً ومحسوسة، كنا نقف طوال الوقت على أرضٍ هشّةٍ تتفسخ تحت أقدامنا، شعرت بكل حركةٍ خلال هذا السحق، وأصبحنا أشد فقراً وعوزاً وإرباكاً من أي وقتٍ سابق، سُحِقنا مع كل تحفظاتنا ومثالياتنا الشاقة، مع صالوننا المخصص للضيوف، وزهورنا البلاستيكية، مع كل فناجين القهوة وصحون الفاكهة. لقد عرفنا حقاً معنى أن تكون الثلاجة فارغةً لأسابيع طويلة، وأن يقتتل الناس من أجل رغيف خبز.
ولكنني سرعان ما تدبرتُ مخرجاً وأكملت دراستي، متسلحاً برغبةِ البقاء في مدينةٍ حافظت على حيويتها رغم الكابوس الذي أنهك البلاد كلّها، بدأ الأمر بكتابة بعض الوظائف الفصلية نيابةً عن زملائي في الجامعة، ووفرت بالمقابل كتبي الجامعية مجاناً، ثم ذاع صيتي وبدأت أجني المزيد من المال.
كتبت المواضيع الأدبية والأشعار والأبحاث النقدية للكثير من الزبائن، وأمضيت الليالي في الدراسة والكتابة تحت أضواء مكتبة السكن الجامعي الباهتة، حرصاً على تقديم نسخةٍ جيدةٍ ومتميزةٍ لكل شخص، لأني خشيت انقطاع رزقي.
اتّحدتُ بعد ذلك مع مجموعةٍ من الرفاق من السنة الثانية وتصدّينا لأبحاث ماجستير آتية من كلية الإعلام أو بعض الفصول من أبحاث الدكتوراه التي تخص طلاب علم الاجتماع، حتى أننا تواصلنا مع طلاب الجامعات اللبنانية والإماراتية، وازدهر العمل في السنة الثالثة، لقد درست كل يوم تقريباً في تلك السنة، ولكنني لم أقرب دروسي، ولهذا رسبت للمرة الأولى في حياتي كلها. لم تهتم عائلتي بذلك، مع أن الرسوب يعدّ من الجرائم الكبرى لديهم، لقد أيقنوا أخيراً أننا نغطس في الوحل، وعملي بعيداً عنهم أفضل من تواجدي في المنزل وإطعامي، في تلك السنة اتضحت المعادلة التي تقول إن المال سيد الموقف.
في كل المهمات التي أنجزتها كان هناك مشتركً واحد: لا أحد يقرأ حقاً. صوت ارتطام رزمة المال على طاولة دراستي مماثلٌ لارتطام الأوراق على طاولة أستاذ الجامعة، وبالنتيجة تُحرق هذه الأوراق كلها تمجيداً للجهل. كرهتُ زيف العملية التعليمية، وكرهت الكتابة جداً، ولهذا تركتُ الجامعة.
لم أحتج الجامعة في ذلك الوقت، لأنني توسعت وبتّ أعمل مع الجميع، عملتُ ككاتبٍ شبح مع متطوعي المنظمات الإنسانية، والباحثين المستقلين، ومخرِجي السينما الجدد.
كنت أكيّف أسلوبي وأفكاري وتوجهاتي لتناسب مستوى الشخص الذي يدفع لي. لقد أصبحت آلةً كاتبةً حقيقية، وأصبح لي منطقي الخاص: خليطٌ بين البائع والدارس؛ منطقٌ يناسب التكرار الذي عِشتُه. لم أكن أفكر، بل اكتفيت بتنفيذ مجموعةٍ من الخطوات حتى نالت مني الآلام، وأصبح ظهري مقوساً وكأنّ ثقل حياتي تمركز في أحشائي، وأصابعي تصدر قرقعةً كلّما حركتها، وعيناي تشجعاني على اقتلاعهما كلما نظرتُ إلى ورقةٍ بيضاء أو إلى شاشة الحاسوب.
ولكن الأسوأ كان أنني فقدت الدافع والرغبة لفعل أي شيء، كلما جلست أمام الحاسوب أصابني الإعياء وكأنّ زوبعةً تعصف بي بلا توقف، كنت أريد أن أكون شيئاً ما في هذه الحياة، لكنّ الزمن محاه تماماً.
هنا تعرفتُ على الكبتي. توافرت المادة بشكلٍ مجنونٍ في تلك الفترة، وكانت تجعلني يقظاً وقادراً على الاحتمال؛ أضع ربع حبةٍ تحت لساني، أمتص مراراتها، أبكي قليلاً ثم أعصر وجهي لأشعر به، وأكمل عملي.
يهتك الكبتي بالأعصاب، يزيد من آلام الظهر ومفاصل اليدين، ويجعلك غاضباً طوال الوقت، لكنه خيارُ الساعات الأخيرة عندما توشك على الموت، كما يبقيك الكبتي يقظاً رغم جروح خسارتك. كان عليّ إنجاز تلك المهمّات على أكمل وجه.
ولمّا لم يعدّ استمرار المال مشكلةً أساسية، واجهتني مشكلة شحّ الكبتي، رأيتُ على شاشة التلفاز شحنات الكبتي المهربة تحمل توقيعاً سورياً، فشعرتُ بالحنق الشديد لأنهم بدأوا بتصديره. هذا سيعني قِلَّته في سوريا وارتفاع سعر الحبة. لماذا لم يتركوا لنا حتى هذا السمّ لنكمل به!
بسبب القلّة ذهبتُ مع صديقي إلى عدة أماكن بحثاً عن الكبتي، والتقينا في إحدى المرات بمجموعةٍ مرِحةٍ من الأشخاص. شعرت بأنهم مختلفون عني جداً، وبدا لي أنهم لا يعرفون التعب، وأنهم لا بد ليسوا بحاجةٍ للكبتي، ولهذا يتبرعون لنا به.
كان يجب أن نأخذ الكبتي من أحدهم، ولكنهم كانوا فضوليين وودودين على نحوٍ غريب، فأخبرناهم عن حياتنا الرتيبة وعن عملنا وعن السبب الحقيقي وراء سعينا للكبتي.
ظهرت نظرات التعاطف على وجوههم كأنهم يشعرون بما نمرّ به. لم يكونوا أكبر مني بكثير، فمن أين لهم بهذه الخبرة؟ نهض الشخص المنشود أخيراً وأخرج كمياتٍ كبيرةً جداً من الكبتي وأعطاني حفنةً منه ذكّرتني بأول حفنةٍ رأيتها في حياتي من هذه المادة. أخبرني بضرورة توخي الحذر، وأن عليّ تدبر أمري جيداً مع المخدرات، كأن أمارس الرياضة، أو أن أشرب الكثير من الماء وأتناول منتجات الحليب باستمرارٍ لكي أُخرِجَ السموم من جسمي، ثم أن أتوخى إيقاع المخدر؛ فالكبتي يرفع ضغط الدم، مما يسبب آلاماً في الرأس تجعل التفكير مستحيلاً. هذا ما يجعل الإنتاج كثيفاً ولكنّه رديء، لذا نصحني بتدخين الحشيش الذي يعكسُ مفعول الكبتي ويهدِّئ الجسم والأفكار.
سمعت نصائحه وتحذيراته فقط لأنني حملت بين كفيّ مخزون شهرين من الكبتي، ولكنني سمعتها على أي حال!
عرفتُ لاحقاً أن جميع الذين في تلك الجلسة هم كتابٌ أشباح، ولكنهم ليسوا أشباحاً عاديين، بل كانوا امتداداً لمجتمعاتٍ أوسع وأكثر تنظيماً، بعضهم مختصون بكتابة السيناريو التلفزيوني ويعملون لصالح كتّابٍ مشهورين، وبعضهم يتواجد في مجموعاتٍ سرية تُخلق وتختفي فجأةً لصالح شركات الإنتاج، وهناك المترجمون المغمورون الذين ينجزون كل العمل وحدهم، ثم يقدمونه -ببساطة- إلى مترجمٍ مخضرم ليدمغ اسمه على النتاج ويبيعه لدُور النشر.
وهناك الشخص المنشود الذي كان شبحاً لروائيٍّ مشهور، سمعت أنه كتب له ثلاث روايات، وأنه كان يجتمع بالكاتب لعدة ساعاتٍ فقط يخبره خلالها عن أحلام وصورٍ عالقةٍ في ذاكرته، وكان على الشخص المنشود أن يخط روايةً كاملةً بناءً على ثرثرة هذا الكاتب.
كنت مفتوناً بهم إلى حدٍّ كبي، كانوا معنيين بالكتابة الجيدة وبالبحث عن أشكال جديدة، وبحيل وعادات الكتّاب من أنحاء العالم، صاغوا الشخصيات من لحمهم ودمهم، وأعطوها أعزّ ما يملكونه من ذكريات وأكبر ما لديهم من خيالاتٍ وأحلام، وكان عندهم قواعد صارمة تتعلق بآلية إنجاز المهمة، ومواعيد تسليمها، وطرق إرسال الملفات واستلام الأموال. جنوا أضعاف ما جنيته، ولم تنقطع الأعمال عنهم، لأنهم أشخاص موثوقون ومنضبطون جداً، ومن أهم أدبيات المهنة التي التزموا بها هي عدم ذكر اسم الكاتب الظاهري على الإطلاق، ولكن على اعتبار أن لكل فاصلةٍ في النص ثقلها في المعنى، وحتى الخلل في النص مدروس، فقد تمكنوا -على حدّ قولهم- من تمرير رسائل بين سطورهم، واستحالَ كشفهم لأنهم محترفون. لقد وجدوا لذةً استثنائيةً في مخاطبة المتلقي الذكي، ذلك الذي يشعر بوجودهم، ووجدوا متعةً أكبر في حثه على تفكيرٍ ما أو شعورٍ محدد.
صرتُ أبحث عنهم خلال القراءة أو المشاهدة، أفكر في خطورتهم وقدرتهم مع مرور الوقت على إحداث تغييراتٍ حقيقيةٍ مستفيدين من اختفائهم. فكرتُ بوجود أشباح للسياسيين والصحفيين والقضاة، ولعناصر المخابرات أيضاً؟
أنار لي الأشباح طريق الكتابة مجدداً، ماتَ الكاتب بالنسبة لي، وعاشَ الشبح.
كان أكثرهم شجاعةً هو الشخص المنشود، الذي كتب روايةً وسلم أجزاء منها إلى الروائي الظاهري كما جرت العادة، ولكنه ارتبط جداً بهذه الرواية وشعر بأنها تخصه حقاً، وعليها أن تكون بدايةً لطريقه الخاص، بعد أن أمضى سنوات عمره يطمس اسمه وموهبته من أجل المال. طالبه بها، ولكن الروائي رفض الفكرة تماماً وهدده، انتزعها منه ودمرها تماماً. كانت ابنة أفكاره التي لم ترَ النور أبداً.
اتضح أن القوانين والآداب التي يتقيد بها الأشباح سُنّت من قبل كتّابٍ كسالى مستلقين على أرائكهم، وهؤلاء مستعدون لإنهاء مستقبلك المهني تماماً باستخدام قوتهم الرمزية، وكل العقود والإيميلات السرية تأتي لصالحهم، إذ يجرّدون الكاتب الشبح رسمياً من ملكيته الفكرية، ليُمسي الخاسرَ الوحيد في هذه الصفقة.
***
بعد عدة سنوات، في بيروت، وبعد الكأس الثالثة، رفع شابٌّ أردنيٌّ كأس الحنين إلى سوريا وإلى مشاوير الطفولة إلى درعا ودمشق لشراء ملابس وحلو العيد فاستجبنا، ثم رفع كأس الكبتس السوري (أكتبها كما لَفظَها) الذي وصل إلى العاصمة الأردنية، على الرغم من أن الجيش الأردني فجر عشرين مهرباً، لكنه لم يقدر على إعاقتهم، ووصل «كبتس الجهاديين» وهو مغطىً بسواد دخان الانفجارات. أسمعه وأنا أصرخ في داخلي: لا تذقه، فإن موتنا مُعدٍ.
لا يمكن لأي إنسانٍ توخي إيقاع الكبتي، لأن له اليد العليا في تغيير سلوكه وفي إخماد دوافعه الحياتية. يضمن الكبتي توتراً ينتقل عبر الأعصاب إلى كلّ خليةٍ في الجسم، ويضمن الغضب الذي لا ينطفئ.
حبةٌ تحت اللسان ومرارةٌ للمحاصرين الذين ينشدون النجاة دون جدوى؛ حبةٌ تحت اللسان ومرارةٌ للأوطان والأحلام التي صارت سجوناً تضيق بناسها، وتنهشهم من الداخل ثم ترميهم فارغين، ضحايا بلا اسمٍ ولا صوت؛ حبةٌ تحت اللسان ومرارةٌ بطعم الفقر والموت؛ حبةٌ تحت اللسان ومرارةٌ للقاتل وأخرى للضحية.
لمّا ينجو أحدٌ منّا، لا ابن عمي ولا أنا ولا حتى الشخص المنشود.
لم أعد أَستخدمُ الكبتي. أقوم فقط ببعض الأعمال المكتبية في دارٍ للنشر الآن، لكنّ الشك لا يزال يعتصرني بأن رغبتي لأكون كاتباً لم تكن حقيقيةً أبداً: هي مجرد وهمٍ جميلٍ أردتُ التعلق به ولجأت إلى المرارة والسواد لأُحققه. الكتابة الحقيقية تحتاج إلى نور، وأنا سأظل متمسكاً بالظل حتى ينقشع الشك عن قلبي، أو حتى النهاية.