ماذا سيحصل إذا قررت أميركا الانسحاب المفاجئ من شمال شرقي سوريا؟ ماذا لو نفذت تركيا تهديداتها بالتوغل شمال سوريا؟ ماذا لو تم بالفعل، عقد صفقة يتم تداولها سراً بتسليم حقول نفط دير الزور إلى دمشق مقابل معلومات من الأخيرة عن الصحافي الأميركي المفقود أوستن تايس؟
واقع الحال أن روسيا تستعمل هذه السيناريوهات لدفع خصوم ومتحاربين إلى البحث عن ترتيبات معينة وملء الفراغ الأميركي. موسكو دائما تحاول الموازنة بين الأعداء. تستخدم سوريا منصة لأهداف تفاوضية في ملفات أخرى في الإقليم والعالم. تفعل ذلك منذ سنوات بين إيران وإسرائيل. اجترعت بعض التسويات في الجنوب السوري، دون أن تصل إلى صفقة نهائية في البلاد. لا توقف التموضعات والمسيرات الآتية من طهران عبر حدود الإمداد. ولا تشغل منظومات صواريخها ضد القصف القادم من تل أبيب.
هذه المعادلة باتت معروفة، وإن شابتها تهديدات وتحديدات عدة، آخرها التوتر الحالي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لبيد بسبب تصريحات الأخير عندما كان وزيراً للخارجية عن “جرائم حرب” روسية في أوكرانيا وضغوطات موسكو على الوكالة اليهودية في روسيا. لذلك، كان القصف الإسرائيلي الأخير ضد أهداف سورية و”مسيرات إيرانية”، بمثابة إشارة “لبيدية” بالتصميم على تنفيذ “الخطوط الحمر”.
منذ التدخل المباشر نهاية 2015، كانت السياسة الروسية في سوريا عبارة عن “سيف بحدين”. فيها كثير من العسكرة بين الأعداء وقليل من السياسية. تسويات مع الفرقاء الأجانب واستهتار بالفرقاء السوريين. الإعلام والسياسة، غطاء الخيار العسكري ومستلزمات الطروحات الأمنية. في “الدويلات” السورية الثلاث، القائمة تحت “المظلة الروسية”، هناك ترتيبات بين واشنطن وموسكو، وبين أنقرة وموسكو، وبين تل أبيب وموسكو، وبين طهران وموسكو. هناك أيضاً، خط سياسي وهمي بين الأطراف السورية. كان مربوطا في جنيف قبل أن تقرر موسكو قطعه لأنها غاضبة من سويسرا والغرب و”توحدهما” ضدها بسبب أوكرانيا.
جديد “سياسة الحدين”، ما تقوم به روسيا سراً بين دمشق وأنقرة وبين دمشق والقامشلي. كيف؟
بعد الارتباك الأميركي خلال الانسحاب من أفغانستان وبعد التردد خلال إدارة دونالد ترمب، باتت إدارة جو بايدن أكثر استقراراً في بقائها العسكري شمال شرقي سوريا. لكن هناك حالياً ثلاثة تطورات:
الأول، بعد الهجوم على أوكرانيا، حاول الجيش الروسي أكثر من مرة اختبار نظيره الأميركي لدفع واشنطن لحوارات سياسية وعسكرية ثنائية وفك العزلة بسبب أوكرانيا، علما بأن اتفاقا عسكرياً ينظم العلاقة بينهما في سوريا منذ 2017.
الثاني، يريد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن يستثمر تنامي أهمية دوره بسبب “مستنقع أوكرانيا” لتوجيه ضربة قاصمة لأكراد شمال سوريا.
الثالث، الرئيس بايدن وعد عائلة الصحافي تايس بالتواصل مباشرة مع فريق الرئيس بشار الأسد بحثا عن معلومات عن الصحافي المفقود منذ حوالي عقد. وبين الأفكار المتداولة تسليم نفط دير الزور لدمشق كبداية تفاوضية، علما بأن مبعوثي ترمب كانا عرضا في صيف 2019، انسحابات عسكرية من شمال شرقي سوريا مقابل إطلاق تايس.
وجدت موسكو في هذه الإشارات، فرصة. رتبت محادثات أمنية غير علنية بين دمشق وأنقرة، ترمي للوصول إلى ترتيبات وتعاون بين الطرفين ضد “حزب العمال الكردستاني” والإرهاب شمال سوريا. وأحد الخيارات المطروحة فعلاً، إحياء اتفاق أضنة الذي وقع في 1998 وسمح للجيش التركي بالتوغل بعمق خمسة كيلومترات في العمق السوري لملاحقة مقاتلين أكراد. طبعاً، سوريا تغيرت والإقليم تغير والعالم تغير. المفاوضات المدفوعة روسيا ترمي إلى البحث عن صيغة معدلة للاتفاق. ولا شك أن القمة الثلاثية في طهران التي لامستها زيارة وزير خارجية سوريا فيصل المقداد، أعطت دفعة إضافية لخط أنقرة – دمشق تحت خيمة موسكو.
اللافت وغير المفاجئ، أن موسكو تقوم بالوقت نفسه برعاية اتفاق آخر، بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية” التي يفترض أن الخط الأول من الوساطة يقوم ضدها أو على الأقل ضد المكون الأساسي فيها وهي “وحدات حماية الشعب” الكردية.
هنا، رعت قاعدة حميميم محادثات لتطبيق مذكرة تفاهم كانت أنجزت في تشرين الأول 2019، بين قائد “قوات سوريا الديمقراطية” مظلوم عبدي ومدير الأمن الوطني اللواء علي مملوك. وقتذاك، ترددت “قسد” في تطبيق كل بنود الاتفاق – المذكرة بعدما وافقت أميركا على تأجيل الانسحاب وتمديد البقاء. أما الآن، فباتت “قسد” مستعدة لتنفيذ هذه البنود، بحيث تم نشر 574 جندياً سوريا في مناطق مختلفة قرب المالكية والمثلث السوري – العراقي – التركي، وعين العرب (كوباني) وعين عيسى ومنبج في ريف حلب، بحيث تكون “رادعا” للشهوات التركية.
يواكب كل ذلك، تفكير في عواصم غربية بضرورة البدء بوضع “خطة بي” كي يكون الانسحاب العسكري الغربي منظما في حال حصوله، لعدم تكرار تجربة أفغانستان. كما تواكب ذلك، نصائح غربية لـ”قسد” بضرورة البحث عن اتفاقات وترتيبات مع دمشق “لأننا سنغادر عاجلاً أو آجلاً”. أما دمشق، فإن كل المعلومات تفيد بأنها لم توافق إلى الآن على إجراء محادثات سياسية. الترتيبات العسكرية ممكنة، لكن التنازلات السياسية غير واردة. صحيح أن مفاوضات بين دمشق والقامشلي في 2018، أظهرت خلافات حول مستقبل “قسد” والإدارة الذاتية والمعابر الحدودية واللغة والرموز، لكن إلى الآن لا تزال دمشق متمنعة على جرعات اللقاح الروسي الذي تكرره موسكو في كل مناسبة.
أميركا أجرت تدريبات واستنفارات وإنزالات واغتيالات شرق الفرات. إسرائيل قصفت “مسيرات إيرانية” قرب دمشق. “مسيرات تركية” قصف أهداف كردية شمال سوريا. ومسيرات “معارضة” استهدفت قاعدة حميميم غرب البلاد.
طائرات روسية قصف “المنطقة التركية” شمال غربي البلاد. كل هذا يتم في سوريا، بعد ساعات من القمة الثلاثية في طهران والوساطة التركية بين أوكرانيا وروسيا لعقد “صفقة الحبوب”، ونجاح موسكو في “وأد” مسار جنيف بين الأطراف السورية. عناصر معقدة تساهم في تعقيد شيفرة اللغز السوري بدلا من تفكيكها، وتعظيم المعاناة وسراب المآلات السورية.
المصدر: الشرق الأوسط