بحث
بحث
متى سيعرف النظام أنّ السجون لا تتسع لجميع السوريين؟
حاجز جسر صحنايا في ريف دمشق- صوت العاصمة

متى سيعرف النظام أنّ السجون لا تتسع لجميع السوريين؟

“أنت في سوريا، وفي سوريا حقاً الصمت من ذهب، كي لا تنطبق عليك مقولة ‘ذهَب ولم يعد”

“اصمتوا”. كلمة تحمل الكثير من العنجهية والمباشَرة. هي هكذا، لا يمكن تجميلها أو تلطيفها، وليس مطلوباً تفهّمها، بل المطلوب هو الانصياع لها.

“لا تتكلموا. اخرسوا”. إنْ كانت أفواهكم قادرةً على الحديث، فقبضاتنا قادرة على تحطيم فكوككم، وإنْ كانت أقلامكم وأياديكم قادرةً على الكتابة فنحن قادرون على تكسير أصابعكم.

يمكن الحديث إلى ما لا نهاية عن قانون الجرائم المعلوماتية الجديد في سوريا، ولكن في الوقت ذاته من السهل جداً اختصاره. هل ثمة أحد لا يجيد الصمت؟ هذا ما يطلبه القانون. أنت في سوريا، وفي سوريا حقاً الصمت من ذهب، كي لا تنطبق عليك مقولة “ذهَب ولم يعد”.

للإنصاف، لهذا القانون حسناته، فهو ينظّم في مكان ما التواصل على شبكة الإنترنت، ويجرّم الكثير من الأفعال التي يمكن وصفها بالدنيئة، والتي ترتبط بالاحتيال والابتزاز، ويمكن القول إن الفتيات ضحايا الابتزاز هنّ الأكثر استفادةً منه. ولكن مهلاً… أيضاً هذا القانون يمنع انتقاد السلطة ورفع سقف الحديث ضد إجراءاتها والإشارة إلى الفساد…

ماذا إذاً؟ سؤال معقد تتطلب الإجابة عنه جلوساً موسعاً مع دستور سوريا وقوانينها ومراسيمها منذ عهد الاستقلال. فسوريا اليوم هي وليدة الأمس، والتاريخ يكرر نفسه، وكأنّ عبد الحميد السراج ما زال حياً يتهيب لإذابة جسد فرج الله الحلو بالأسيد. وفي سوريا، كَثُر اليوم هؤلاء الضحايا، والحديث هنا ليس في سياق شعب ودولة، أي ليس في سياق حديث سياسي بمفهومه الكلاسيكي التقليدي، بل الحديث هنا عن شعب ودولة في مواجهة آلة فساد، الدولة عينها جزء منها في أماكن متعددة. إذاً، “فيك الخصام وأنت الخصم والحكم”.

السلطة خصماً وحكماً
حين تكون السلطة هي الخصم والحكم، يصير تفنيد الأمور أكثر صعوبةً، فالأمر معقد للغاية ويتطلب صفحات واسعةً للحديث عنه، سيما إذا كان الفساد عينه ركيزةً تقوم عليها دولة بعينها، وكذلك ركيزة لكثيرين من الأفراد. يقول الأديب أحمد أمين، إنّ كل ما نراه من فساد وارتباك وفوضى وتدهور، نشأ من عدم شعور الفرد بالواجب. في سوريا، يمكن الاستفاضة جداً في شرح العلاقة التبادلية-النفعية بين بعض “المواطنين” والسلطة، في إطار تأطير الفساد وجعله وجهةً وهدفاً ووسيلةً لتذليل العقبات. ولكن ليس هذا موضوعنا، فثمة موضوع أهم، وهو الإسكات في مواجهة الإشارة ورفع الصوت.

في 18 نيسان الماضي، دخل قانون الجرائم المعلوماتية الجديد في سوريا، حيّز التنفيذ، وهو قانون يعيد تنظيم القواعد القانونية الجزائية للجريمة المعلوماتية التي تضمنها المرسوم التشريعي رقم 17 للعام 2012. وكالة “سانا” قالت حينها إنّ “القرار يعيد التأطير القانوني لمفهوم الجريمة المعلوماتية ليشمل العديد من صور وأشكال السلوك الإجرامي المرتبط بالمعلومات ونظم المعلومات والتي بدأت تشهد تزايداً كبيراً في المجتمع السوري، بما فيها الاحتيال المعلوماتي وانتهاك الخصوصية والذم والقدح والتحقير الإلكتروني، وجرائم المساس بالحشمة أو الحياء، والجرائم الواقعة على الدستور والنيل من هيبة الدولة أو مكانتها المالية، بالإضافة إلى نشر تسجيلات صوتية أو مرئية غير مشروعة من دون رضا صاحبها، والجرائم المتعلقة بالبطاقة الإلكترونية وسرقة المعلومات”.

“أنت في سوريا، وفي سوريا حقاً الصمت من ذهب، كي لا تنطبق عليك مقولة ‘ذهَب ولم يعد”

ولعلّ أخطر ما جاء في القانون هو المادة 28 (الفضفاضة)، والتي تعاقب بالسجن المؤقت (من ثلاث إلى خمس سنوات)، وغرامة مالية (بين خمسة وعشرة ملايين ليرة)، كل مَن قام “بنشر أخبار كاذبة على الشبكة من شأنها النيل من هيبة الدولة أو المساس بالوحدة الوطنية”، أو بـ”نشر أخبار كاذبة وغير صحيحة الهدف منها الانتقاص من مكانة الدولة وكل مقوماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية ورموزها”، بحسب ما جاء في التعليمات التنفيذية، ليتساءل سوريون: ماذا يعني الانتقاص من مكانة الدولة؟ وما هو تعريف مكانة الدولة ومقوماتها أساساً؟ وهل هي أشياء مذكورة بنص واضح في الدستور؟ وإلى أي درجة هي موضحة؟ أم أنّ الأمر كالعادة، “الكلام عليهم والتفسير على الله”؟

ما ورد في التعليمات التنفيذية خطير ومخيف للغاية، فما المقصود بالمقوّم الاقتصادي؟ هذا يعني أنّه إذا سأل سوريٌ عن سعر صرف العملة أو حتى أشار إليه مواربةً قد يكون أساء إلى أمن البلد الاقتصادي، في بلد صار سكانه يرمّزون الدولار بالقول: “الأخضر”، و”النعنع”، و”الكيوي”، و”الأول”، وماذا يعني المقوّم التاريخي؟ هل اعتراض الفرد على شخص زنوبيا وأمجادها قديماً، أو انتقاده شخصية الملك فيصل مثلاً، يمكن أن يكون سبباً لسجنه؟ حقاً عبارات هذا القانون فضفاضة جداً.

ما المقصود؟
يعاقب القانون في المادة 29 منه بالسجن (من أربع إلى 15 سنةً) وغرامة (من خمسة إلى عشرة ملايين ليرة سورية)، على جريمة “النيل من مكانة الدولة المالية”، بحسب عنوان المادة، وفي التفاصيل فهو يعاقب “كل مَن أنشأ أو أدار موقعاً إلكترونياً أو صفحةً إلكترونيةً أو نشر محتوى رقمياً على الشبكة بقصد إحداث التدني أو عدم الاستقرار أو زعزعة الثقة في أوراق النقد الوطنية أو أسعار صرفها المحددة في النشرات الرسمية”.

وتضيف التعليمات التنفيذية إلى ذلك، أن المهدد بالعقاب هو كل مَن بث شائعات تهدف إلى “إحداث خلل وتدنٍ في قيمة الليرة السورية ورفع قيمة المستوردات بهدف غلاء المواد وحث المواطنين على اكتناز العملات الأجنبية أو المعادن الثمينة عوضاً عن العملة الوطنية”. ولكن السؤال هنا: كيف يستوي هذا في بلد باتت تسعيرة جرزة البقدونس فيه مرتبطةً بسعر صرف الدولار؟

أما المادة 24، التي تحمل عنوان “الذم الإلكتروني”، فتعاقب كل مَن قام “بذمّ أحد الناس بشكل غير علني”، وتشدد العقوبة على كل مَن قام “بذمّ أحد الناس بشكل علني”، وتشدد أكثر “إذا اقترف الذم بحق المكلف بعمل عام في أثناء ممارسته لعمله أو بسببه”. وجاء في التعليمات التنفيذية، أن الغاية من هذه المادة “هي حماية الشرف والكرامة والاعتبار لدى الشخص مما يمسه من أفعال خطيرة من خلال إسناد وقائع قد تحتمل التصديق والاحتمال لدى السامع أو القارئ أو المشاهد، ولما تتخذه من علنية تؤدي إلى سقوط شرف واعتبار وكرامة المجني عليه لدى فئة كبيرة من الناس، كاختلال الثقة بالمجني عليه ممن يتعامل معه، وما يؤدي هذا الجرم من إيلام نفس وشعور المجني عليه”.

يمكن الحديث إلى ما لا نهاية عن قانون الجرائم المعلوماتية الجديد في سوريا، ولكن في الوقت ذاته من السهل جداً اختصاره. هل ثمة أحد لا يجيد الصمت؟ هذا ما يطلبه القانون

مواد كثيرة شملها القانون من أخطرها أيضاً إيقاع عقوبات تصل إلى 15 سنة سجن، وغرامات تصل إلى 15 مليون ليرة على “كل مَن أنشأ أو أدار موقعاً إلكترونياً أو صفحةً إلكترونيةً أو نشر محتوى رقمياً على الشبكة بقصد إثارة أفعال تهدف أو تدعو إلى تغيير الدستور بطرق غير مشروعة، أو سلخ جزء من الأرض السورية عن سيادة الدولة، أو إثارة عصيان مسلح ضد السلطات القائمة بموجب الدستور أو منعها من ممارسة وظائفها المستمدة من الدستور، أو قلب أو تغيير نظام الحكم في الدولة” (مادة 27). فهذه المادة التي تبدو منطقيةً للوهلة الأولى، كيف سيكون تطبيقها في بلد لا تزال الحرب دائرةً فيه مع ما ترتب عن ذلك من انقسامات وما يترتب عنه من مطالب بالإصلاح السياسي؟ هذا هو السؤال الأهم.

من حق كل دولة أن تراعي مصالحها وتحقق تطلعاتها في الإطار السياسي-القانوني، ولكن هذا لا يمنحها الحق في تعميم العموميات وجعل المحاسبة رهينةً في كل حالة على حدة من دون قانون ناظم واضح يشرح بأدق التفاصيل ما للمواطن وما عليه.

هل هو قانون طوارئ؟
“هل هو قانون طوارئ؟”؛ سؤال وجهه رصيف22، إلى محامٍ لا يرغب في ذكر اسمه لئلا يكون ضحيةً لقانون الجرائم هذا، فأجاب: “في العرف المهني، نعم، هو قانون طوارئ يتعلق بوسائل النشر، وهو واسع لدرجة أنّه يشمل كل ما يخطر ولا يخطر على البال من جرائم يمكن إلصاقها بأشخاص كثر بناءً على معطيات متعددة ومتغيرة ومتقلبة. ما بعده ليس كما قبله”.

ولكن المحامي يشير في الوقت ذاته، إلى أنّ لهذا القانون فوائد وإيجابيات في مكان ما: “على الأقل هو يحمي الأشخاص من الوقوع ضحية الابتزاز وخلافه، وفي مجتمع كمجتمعنا فإنّه انتصار للنساء اللواتي عادةً ما يقعن ضحايا للابتزاز. إذاً، على هذا الصعيد هو جيد للغاية، ولكن على الصعيدين السياسي والاقتصادي فإنّه يكبّل الشخص ويمنعه من التحدث وقول رأيه بحرية وعلانية، وأعتقد أنكم تتابعون أخبار اعتقالات لأشخاص بينهم صحافيون زملاء لكم، آخرهم في طرطوس لصحافي تحدث عن السياحة علماً أنّه يمثل جهة إعلام رسميةً”.

الهدف هو كم الأفواه في القاعدة الشعبية للدولة، ومنع الانتقاد ورفع الصوت في وجه الكوارث المعيشية، وهذا يخالف بشكل صارخ دستور 2012، الذي يكفل حرية التعبير والرأي والقول

وفي أواخر أيار الماضي، استُدعي مدير مكتب صحيفة البعث الرسمية في طرطوس، إلى فرع الجرائم المعلوماتية في الأمن الجنائي في دمشق، على خلفية مقال رأي له في موقع محلي اسمه “فينكس”، حمل عنوان: “شواطئ مفتوحة بالاسم”، ثم استُدعي صاحب الموقع أيضاً بعد أيام، قبل أن يقرر القاضي لاحقاً تركهما بعد إعادة إحالة الضبوط المنظمة بحقهما إلى قاضٍ آخر مختص بملف الجريمة المعلوماتية.

مقاطعة العديد من المعلومات والاستماع إلى الكثير من الأشخاص، يبيّنان أن الخوف يغلب على الناس. الجميع “خفض دوز” الحديث في الآونة الأخيرة. ويمكن بمطالعة ومراقبة لصفحات فيسبوك في سوريا، ملاحظة انخفاض معدل الحديث عن الفساد بصورة عامة قياساً إلى ما كان عليه في فترات سابقة.

الجميع خائفون من السجن، في ظل لا جدوى الحديث غالباً، ولا جدوى الإشارة إلى الفساد الذي ظلّ كما هو خلال سنوات، حسب ما أوضح أشخاص لرصيف22، فيما طالب آخرون بالتحلي بالمزيد من الشجاعة للمواجهة والكشف عن الفساد، وقال أحدهم: “هل تتسع الزنازين لكل السوريين؟ لماذا علينا أن نخاف؟”.

يبدو الآن، وبما لا يدع مجالاً للشك، أنّ الهدف هو كم الأفواه في القاعدة الشعبية للدولة، ومنع الانتقاد ورفع الصوت في وجه الكوارث المعيشية، وهذا يخالف بشكل صارخ دستور 2012، الذي يكفل حرية التعبير والرأي والقول. باختصار، هو قانون يمنع انتقاد سياسات الحكومة.

السلطة ضربت جرس الإنذار في وجه رعاياها، قائلةً بصريح العبارة: “اصمتوا، لا نريد سماع صوتكم”. وهذا عينه ما جعل الناس تختار الصمت في هذه المرحلة الحرجة، فلا أحد يريد أن يكون من أوائل ضحايا القانون هذا، في ظلّ تحوّل الصحافيين إلى “ملطشة”، مع الغياب الكبير لدور وزارتهم واتحادهم في حمايتهم، إذ مجرد منشور على فيسبوك كفيل بحبسهم.

انتهى التغاضي، ولو البسيط، عن بعض الحريات، بعد أن نص القانون الجديد على تجريم ممارستها، وببساطة يمكن الآن ملاحظة أنّ الناس كانوا أكثر حريةً وقدرةً على الانتقاد والتعبير في الفترات السابقة، قياساً إلى الفترة التي تلت صدور القانون والهمروجة التي رافقته على وسائل الإعلام وتعميمه على وسائل التواصل الاجتماعي ليصل إلى الجميع ويأخذ منهم الخوف مأخذاً.

اليوم قلّما نجد منشوراً يتحدث عن سلبيات الحكومة. وخلال شهر حزيران الجاري أُلقي القبض على شخص اسمه “وضاح ع.” بجرم التعامل مع مواقع إلكترونية تصفها الحكومة بالمشبوهة، وطبعاً شكل “التعامل” في حالته كان إرسال معلومات عن قضايا فساد لصفحات إخبارية يديرها أشخاص يقيمون خارج سوريا. وقد تكون الوثائق التي أرسلها الموقوف مزورةً، وربما لا، فلا أحد يمتلك الجواب الدقيق، ولكن في المحصلة تم توقيفه.

وخلال هذا الشهر أيضاً، أُلقي القبض على شخص اسمه “وسام م.” بالجريمة نفسها، وهي التعامل مع مواقع مشبوهة.

لا نقول إنّ الوضع صار اليوم سيئاً بعد أن كان جيداً، ولكن اليوم تم تشديد العقوبات وتغليظها وتوسيع مروحتها، ليصير من أسهل ما يكون توقيف أي شخص. الآن صارت الدولة بمختلف مسمياتها الوظيفية والإدارية هي الخصم، وليس أفرادها كأشخاص طبيعيين.

المصدر: رصيف 22