زيارة الساعات الأربع المفاجئة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى العاصمة الإيرانية طهران، واللقاء الذي عقده مع المرشد الأعلى للنظام علي خامنئي ونظيره إبراهيم رئيسي، تأتي في توقيت دقيق على المستويين الإقليمي والدولي، سواء في ما يتعلق بحال الغموض التي تمر بها المفاوضات النووية بين إيران والمجموعة الدولية، أو ما يتعلق بتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا.
زيارة الأسد تأتي أيضاً كجزء من حراك إقليمي ودولي باتجاه طهران، إذ تزامنت مع زيارة وزير خارجية النمسا والموقف الذي صدر عن نظيره الإيراني حسين أمير عبداللهيان، الذي أكد فيه رفض بلاده لما يجري في أوكرانيا، ومن المفترض أيضاً أن تستقبل في الأيام المقبلة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد في إطار جولة تأخذه إلى ألمانيا وبريطانيا وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، في حين يستعد مساعد مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إنريكه مورا لزيارة طهران وإجراء مفاوضات الفرصة الأخيرة لإعادة إحياء مفاوضات فيينا.
في الشكل حاول قائد قوة القدس إسماعيل قاآني إيصال رسالة واضحة إلى الإدارة الأميركية والدول المتمسكة بموقفها الحازم في مسألة العقوبات على حرس الثورة وإدراجه على لائحة المنظمات الإرهابية، بأنه ما زال الذراع الإقليمية الأقوى للنظام الإيراني في الإقليم، وأن أي محاولة للتفاوض مع طهران لابد أن تمر عبر هذه البوابة، بخاصة إذا ما أرادت هذه الدول، وتحديداً واشنطن، التوصل إلى تفاهمات تساعد في ترتيب المنطقة وأوضاعها، بحيث تساعد في تخفيف انخراطها في أزماته.
وفي الشكل أيضاً استطاع قاآني تلافي الأخطاء التي وقع فيها سلفه قاسم سليماني خلال الزيارة السابقة للأسد إلى طهران في عهد الرئيس حسن روحاني عام 2018، والتي أحدثت شرخاً في العلاقة بين سليماني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي اُستبعد من الزيارة، إذ شارك عبداللهيان في اللقاء الذي جمع الأسد مع المرشد إلى جانب رئيسي وقاآني، وهي خطوة توحي بوجود نوع من الثقة بين “قيادة الميدان” و”قيادة الدبلوماسي” في العهد الجديد، كانت مفقودة في عهد روحاني وظريف.
وفي المضمون فإن الزيارة تشكل حاجة إيرانية خلال هذه المرحلة بقدر الحاجة نفسها التي تشكلها للأسد ونظامه، فهي تصب في إطار تنسيق المواقف للتعامل مع التطورات والمستجدات المتوقعة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وما فيها من إعادة ترتيب الأوراق ومناطق وحدود النفوذ بين القوى الفاعلة والمؤثرة في معادلاتها، فالنظام الإيراني يعمل على تثبيت معادلة دوره ومساحة نفوذه في الإقليم استعداداً لوضعها على طاولة أي تسوية إقليمية أو دولية، وهي رسالة للأطراف الإقليمية المعنية بمواجهة النفوذ الإيراني، وأن المعادلة التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار أن النظام لن يسمح بإدخال أي تعديل يؤثر أو يؤدي إلى تقليص نفوذ المحور الذي يقوده، والممتد من العراق مروراً بسوريا ووصولاً إلى لبنان، إضافة إلى اليمن، وأن التداخل في مناطق النفوذ مع القوى الإقليمية الفاعلة والمنافسة له على هذه الساحة لا يعني إمكان استسلامه أو تراجعه، بخاصة أنه بدأ مساراً يأمل بأن ينتهي إلى تسويات مع العواصم الإقليمية حول بعض الملفات المتأزمة، مثل الرهان على حصول إيجابية على خط الحوار مع السعودية حول الأزمة اليمنية، وتمرير الاستحقاقات الدستورية في العراق في إطار تفاهمات مع الجهات المؤثرة في هذه الساحة في أنقرة وأبوظبي والرياض.
أما في الموضوع السوري الذي يشكل مركز الاهتمام الإيراني خلال المرحلة المقبلة في ظل مساعيه إلى إدارة الملفات الأخرى من طريق الحوارات المتشعبة، فإنه يسعى ويعمل لتسهيل انطلاق مسار الحل السياسي المتحكم بمسار إعادة الإعمار الذي ما زال عالقاً ومعطلاً على الرغم من إعلان النصر الذي رافق زيارة الأسد العام 2018، وهو ما كرس حقيقة أن الانتصار الميداني تصعب ترجمته سياسياً واقتصادياً من دون التوصل إلى تفاهمات مع القوى المؤثرة في الساحة السورية.
تثبيت التحالف أو العلاقة الاستراتيجية بين طهران ودمشق يأتي في الوقت الضائع الذي تنشغل فيه موسكو بحربها التي بدأت تتحول إلى استنزاف في أوكرانيا، مما أتاح لطهران أن تلتقط أنفاسها على الساحة السورية بعد أن عمدت موسكو إلى محاصرة دورها والتضييق عليها، وقد تكون هذه الخطوة إما بالتفاهم بينهما ومن باب ملء الفراغ منعاً لدخول لاعبين جدد أو تعزيز أدوار لاعبين موجودين، وإما من باب توظيف الانشغال الروسي وفرض تقاسم جديد لمساحات النفوذ بينهما، وفي كلا الحالين التواطؤ على مواجهة الطموحات التركية ومحاصرتها، ولعل المؤشر الأولي لهذه المتغيرات جاء مع إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نية حكومته إعادة نحو مليون لاجئ سوري إلى بلادهم، وإعلان الحكومة الألمانية تقديم دعم للاجئين بأكثر من مليار يورو، ومعها قطر بنحو 50 مليون دولار، وهو ما يعني في المحصلة الضغط على أنقره تمهيداً لإنهاء أزمة الشمال السوري وإعادته إلى سيطرة الحكومة المركزية في إطار تعزيز سلطة النظام وتأهيله للمرحلة المقبلة.
ولم تغب مسألة إعادة سوريا إلى الجامعة العربية والاحتضان العربي للنظام في دمشق عن بنود المحادثات التي دارت بين المرشد الأعلى والأسد، إذ لا تعارض طهران هذه الجهود لأنها تفتح الطريق أمام تفعيل مسار الحل السياسي، وتسهم في طمأنة العواصم العربية المعنية بالأزمة السورية بإمكان تحويل هذا البلد إلى مساحة حوار وتفاهم، وليكون مدخلاً لحل ملفات ونزاعات أخرى عالقة بين الطرفين، بخاصة الساحة اللبنانية التي من المتوقع أن تشهد بعد الانتخابات البرلمانية عودة فاعلة ونشطة للدور السوري.
أما في موضوع السلام الإقليمي وإمكان تفعيل مسار التفاوض بين دمشق وتل أبيب الذي يعد جزءاً من الجهود العربية الساعية إلى الدفع بعملية السلام في المنطقة، فلا يبدو أن طهران تعارض هذا التوجه بما يضمن لدمشق استعادة أراضيها في مرتفعات الجولان، وحتى تحويلها إلى منطقة عازلة منزوعة السلاح تحت إشراف دولي، من دون أن تدخل دمشق في مسار تطبيعي سيشكل إحراجاً لها ومحاصرتها على هذه الساحة، بخاصة أن النظام في طهران يرى أن معركته في الإقليم محصورة مع تل أبيب والتصدي لمساعيها الرامية إلى إخراجه من مناطق نفوذه في لبنان وسوريا والعراق، بما تشكله من موقع متقدم في رؤية كلا الطرفين الاستراتيجية وتقاسم النفوذ الجيو-سياسي.
المصدر: اندبندنت عربية