أكثر الأسئلة إثارة للاهتمام في منطقتنا هذه الأيام، ذاك المتعلق بفرص إبرام اتفاقية سلام بين سوريا وإسرائيل، وتطبيع العلاقات الثنائية بينهما.
مصدر الإثارة أن البلدين في حالة حرب رسمياً، وإسرائيل لم تتوقف عن استهداف سوريا بعشرات الضربات الجوية والصاروخية الموجعة، ودمشق تخضع إلى حد كبير لنفوذ إيران وعلاقات “متطورة” مع حزب الله وميليشيات شيعية عراقية وأفغانية وباكستانية، ناهيك بالطبع، عن أن لسوريا أراضي تحتلها إسرائيل منذ العام 1967، هضبة الجولان، التي أعلنت الأخيرة ضمها رسمياً لـ”سيادتها”، واعترفت بهذا الضم الإدارة الأميركية السابقة، وحظي رئيسها بـ”تكريم” إسرائيل بأن أطلق اسمه على واحدة من مستوطناتها الكبرى.
قدمت سوريا نفسها بوصفها “واسطة عقد” ما يعرف باسم “محور المقاومة والممانعة”، واستند خطابها السياسي والإعلامي إلى مقولة أن “الحرب الكونية” التي شُنّت عليها منذ عشر سنوات، إنما تعود أسبابها ودوافعها إلى مواقفها “الصلبة والمبدئية” في وجه العدوانية الإسرائيلية، وإصرارها على استعادة الجولان كاملاً … وقبله، تمكين الشعب الفلسطيني من استرجاع حقوقه الوطنية المشروعة.
لكل هذه الأسباب و”السياقات” ظل الاعتقاد السائد في المنطقة، بأن دمشق ربما تكون آخر دولة عربية تبرم سلاماً مع إسرائيل، أو تنخرط في مسار تطبيعي معها، ذلك أن شقة الخلاف بين الجانبين، من الاتساع بمكان، بحيث أعيت الإدارات الأميركية المتعاقبة، وما زالت عصية على التجسير.
لكن تطورات السنوات الأخيرة في المشهد السوري، وما بدأ يتسرب مؤخراً من معلومات وتسريبات، تدفع جميعها على الاعتقاد، بأن “بقاء الحال السوري من المُحال”. فالأسد الذي نجا من حرب السنوات العشر، يدرك أن بقاءه في السلطة، إنما يتطلب انتهاج مقاربات أخرى، يبدو السلام مع إسرائيل والتطبيع معها، واحدة منها، يشجعه على ذلك، حليفه الروسي القوي، الذي بات يلعب دوراً أساسياً في صناعة القرار السوري، ويشكل موضوعياً، عنصر التوازن لـ “النفوذ الإيراني” في سوريا.
سنوات الحرب العشر الثقيلة، تركت سوريا تحت طائلة أعباء ثقيلة، يبدو أنها كافية لإقناع الأسد والحلقة الضيقة المحيطة به، بأنه قد يخسر في المواجهة الاقتصادية والمالية، وتحت وطأة “قيصر” وعقوباته القصوى، ما ربحه في الحرب … وأن مهمة إعادة إعمار سوريا، أصعب بكثير من “مهمة تدميرها”، وأن كلف إعادة توطين نصف الشعب السوري اللاجئ والنازح، ربما تكون أعلى بكثير من كلف تهجيرهم وتشتيتهم. هذا النمط من التحديات والتهديدات، لا يبدو أنه سيكون بمقدور حليفتي سوريا الأساسيتين في الحرب: روسيا وإيران، المساعدة على مجابهته، لاسيما وأنهما، بحاجة لمن يمد لهما يد العون والمساعدة، في ظل ما تواجهان من أعباء ومتاعب اقتصادية.
مراجعات في شتى الاتجاهات
باستثناء “النظام وضرورة بقائه”، ليس ثمة من قضية لا يمكن مناقشتها اليوم في سوريا، فالمراجعات تشمل كل شيء تقريباً، إن لم يكن على المستوى الرسمي، فعلى المستوى “الأهلي” الذي يصعب عليه التغريد بعيداً عن سرب الطبقة الحاكمة. تشمل المراجعات، شعارات نشأ عليها البعث، فمقابل شعار “سوريا قلب العروبة النابض”، هناك اليوم، من يستحضر تاريخ سوريا قبل العرب والمسلمين. ومقابل التاريخ الرسمي للبلاد الذي يبدأ عادة بالرسالة المحمدية ودولة الأمويين، هناك من ينبش في الصحف السريانية والآرامية والأشورية والكلدانية، عن جذور أعمق وأبعد، وربما “أبقى” من “الهوية العربية الإسلامية” للدولة والمجتمع.
والأهم، أن حديث “محور المقاومة والممانعة” في الخطابين السياسي والإعلامي السوريين، يكاد لا يحضر أبداً، أقله بالزخم ذاته، الذي رافق الأزمة السورية في بدايتها. هناك عبارات ثناء على الحلفاء، تُستدرك دائماً، بالتركيز على الدور الذي لعبه الجيش السوري في تسطير انتصارات النظام على أعدائه … ومن بين الحلفاء، هناك حفاوة بالحليف الروسي، أكثر حرارة من الحليف الإيراني.
حتى أنه بات بمقدورك أن تكتب من دمشق، مقالات توزعها على المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، وأنت تجادل في “ضرورة” السلام مع إسرائيل، وأهمية التحاق سوريا بقطار التطبيع العربي، بوصفها مداخل لحلول ومعالجات لكثير من الأزمات التي تعصف بالبلاد، ومن دون أن تتهم بالخيانة العظمى أو تستدعى للتحقيق في “فرع فلسطين” أو أي جهاز استخباري-أمني آخر.
لا أحد، رسمياً أو “شعبياً” يقترح التخلي عن الجولان المحتل، أو التنازل عن الحق السوري في الهضبة، لكن لا بأس من النظر لهذا الملف، بوصفه قضية “مؤجّلة”، فهناك أولويات أكثر إلحاحاً، تبدأ باستكمال سيطرة الدولة على مناطق الشمال السوري، الشرقي والغربي، ولا تنتهي بملفات إعادة الإعمار، وتحسين الظروف المعيشية لملايين السوريين الذين يقضون نهاراتهم في الطوابير بحثاً عن رغيف الخبز أو “تنكة ديزل” أو “عبوة غاز للطبخ”.
في المقابل، لا أحد من حلفاء دمشق، لديه حلول لهذه الأزمات، كل ما تحصل عليه دمشق، وعود من طهران، ومواعظ بالتشبث بحبال الصبر، والعض بالنواجذ على الكرامة، والاستمساك بحبال المقاومة والممانعة. أما أصدقاء سوريا الجدد، من خارج هذا النادي، مثل بعض الدول الخليجية، فهم وإن كانوا راغبين في دعم الأسد، نكاية بأردوغان، إلا أن “قيصر” يقف لهم بالمرصاد، شاهراً سيف العقوبات القصوى.
عند هذه النقطة بالذات، يأتي التدخل الروسي، سياسياً هذه المرة … موسكو حليفة دمشق، وصديقة إسرائيل، تعرف أن السلام بين الجانبين، ربما يكون بوابة دمشق، للخروج من نفق العقوبات الدولية، وتذليل العقبات التي تكاد تغرقها مع حليفها، في المستنقع الاقتصادي السوري. موسكو الراغبة بتقليص النفوذ الإيراني في سوريا، إن لم نقل إنهاءه، ترى أن إقناع الأسد بفتح صفحة جديدة مع إسرائيل، ربما يكون بداية نهاية احتساب سوريا على محور تقوده طهران. موسكو تعرف أن دمشق، وليس رام الله، هي بوابتها للقيام بدورها المنتظر تاريخياً، في عملية سلام إسرائيلية عربية، يجري الحديث عنها وعن فرص إحيائها وتنشيطها، منذ أن دخل جو بايدن البيت الأبيض.
في هذا السياق، تتواتر الأنباء و”التسريبات” عن لقاءات سورية – إسرائيلية، جرت في غير عاصمة، وتحت الرعاية الروسية، إن في “حميميم” أو في قبرص أو موسكو. وفي هذا السياق، لا يستبعد مراقبون، ان تلعب عواصم عربية دوراً في جهود “الوساطة” بين الطرفين، وهنا يشار بشكل خاص، إلى دور “خفي” يمكن لأبو ظبي القيام به، أو أن تكون قامت به فعلاً.
لدى سؤاله عن احتمالات كهذه، لم يرفض الأسد فكرة السلام مع إسرائيل أو التطبيع معها، فسوريا سبق لها أن انخرطت بنشاط في مفاوضات مباشرة وغير مباشرة، مع حكومات إسرائيلية متعاقبة، وكانت على مشارف إبرام اتفاق معها، لولا التغيرات المتسارعة في التركيبة الائتلافية والحكومية الإسرائيلية. لكن الأسد في إجاباته على أسئلة من هذا النوع، يعيد التذكير بالجولان المحتل، ولا ينسى الإتيان على “الدولة الفلسطينية” بوصفها متطلباً، ولا نقول شرطاً، لسلام سوري – إسرائيلي.
وحين يتحدث عضو في القيادة المركزية السورية، سفير ووزير سابق في نظام البعث، عن أن بلاده لا تحتسب على “محور المقاومة”، وأنها لا تعارض سلاماً مع إسرائيل وتطبيعاً معها، وحين يقدم النظام على إحباط مرامي طهران بتحويل جنوب سوريا إلى جبهة مع إسرائيل على غرار جنوب لبنان سابقاً. وحين تسقط دمشق، كافة الوساطات التي تبذلها طهران والضاحية الجنوبية لمصالحته مع حركة المقاومة الإسلامية “حماس” … وحين يبتلع المتحدثون باسم النظام ألسنتهم وهم يُسألون عن التطبيع العربي الإسرائيلي، ويكتفون بترديد عبارات التحفظ الخجلة والمترددة، فإن من الواضح تماماً لكل المراقبين، أن دمشق، لا تريد إغلاق هذا الباب، ولكنها تسعى لولوجه بأثمان معلومة، فما هي؟
لعبة الأثمان والشروط المتقابلة
في ظني، أن إقرار الغرب والولايات المتحدة، بفكرة بقاء الأسد في السلطة، والاعتراف بشرعيته، هو الشرط الأول، أما الثاني، فهو رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عنه. والثالث، هو الحصول على مساعدات تمكنه من مواجهة “الجائحة الاقتصادية” وملف إعادة الإعمار. دمشق أقل اعتناء بملف استعادة اللاجئين، ولا تبدو على عجلة من أمرها في هذا الصدد، وهي ترى أنه بات “مشكلة” الدول المضيفة وليس مشكلتها.
أما القول: بأن دمشق، تريد وساطة إسرائيلية للعودة إلى الجامعة العربية، فلا أحسب أنه جدي على الإطلاق، فلا عضوية الجامعة هدف يسيل له لعاب أحد، ولا إسرائيل، برغم الاختراقات التطبيعية، تمتلك قرار عودة سوريا للجامعة العربية. في ظني أن الأمر يندرج في إطار “الدعاية” التي دأب نتنياهو على ترويجها لتعظيم مكاسبه التطبيعية مع بلدان عربية بعينها.
وفي قضية الجولان، ليس مستبعداً أبداً أن “يتواطأ” الطرفان الإسرائيلي والسوري، على إبقاء الملف معلقاً، كأن يدخلا في جولات “لا منتهية” من المفاوضات، لا تُلزم إسرائيل بإنهاء احتلالها ووقف استيطانها، من جهة، بيد أنها توفر للأسد فرصة الانفتاح على الغرب وكسر قيود العقوبات، دون تنازل “رسمي” عن الهضبة من جهة ثانية، وبهذا تحقق إسرائيل غايتها بالقول إن قطار التطبيع وصل إلى أصعب محطاته العربية، فيما تستظل دمشق بالمفاوضات لحل مشكلاتها الأخرى في الداخل والخارج.
لن تكون مهمة الأسد سهلة، إن هو قرر الانتقال من “خندق المقاومة والممانعة” إلى الضفة الأخرى، ضفة الدول المطبّعة مع إسرائيل. فإسرائيل ليست في عجلة من أمرها، وهي لن تفتح هذا الملف أبداً، إن كان ثمنه الجولان المحتل، أقله حتى إشعار آخر. وإيران بنت لنفسها منازل كثيرة في دمشق وعموم الأراضي السورية، وإدارة بايدن التي تثير ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان في علاقاتها مع أقرب أصدقائها وحلفائها، لن تتخلى عن هذا الملف، وهي تفكر بمقاربة الملف السوري … أما موسكو، فهي وإن كانت على عجلة من أمرها في استحداث اختراق على المسار السوري – الإسرائيلي، إلا أنها لا تمتلك النفوذ والأدوات التي تجعل نجاحها في مسعاها أمراً مؤكداً.
لكن مع ذلك، ثمة في الأفق ما يغري الأسد على التفكير بطرق الباب الإسرائيلي، وما يساعده على الاستجابة المرنة لشروط الغرب ومتطلباته، بالذات ما خص منها إيران وحزب الله، منها نجاح واشنطن وطهران المحتمل في استنقاذ الاتفاق النووي، وإعادة دمج إيران في الاقتصاد العالمي والمجتمع الدولي، ومنها المتاعب التي تواجه حلفاء طهران في العراق ولبنان، وتعاظم فرص حل الأزمة اليمنية التي أعطاها الرئيس بايدن مكانة متقدمة في سلم أولوياته. ومنها التقارب العربي مع دمشق، على خلفية مواجهة الدور التركي “المتغوّل” في سوريا، وسط تأييد وتعاطف من بعض الدول الأوروبية.
وسيجد الأسد، إن هو قرر طرق هذا الباب، دعماً وتشجيعاً من أطراف عربية ودولية عديدة، بمن فيها حليفه الروسي، وهي أطراف تلتقي مصالحها عند تخليص سوريا من النفوذين الإيراني والتركي، وقد يكون الأسد وصل إلى هذه الخلاصة، طالما أن بقاءه على سدة الحكم في سوريا هو الهدف الأسمى، وطالما أن سوريا، شعباً ومجتمعاً، تغلي على مرجل الضائقة الاقتصادية. ألم يقل المثل العربي القديم: صاحب الحاجة أرعن”.
المصدر: قناة الحرة