بهتاف “الجيش والشعب إيد وحدة” أعلن رئيس لجنة “المصالحة” في بلدة ببيلا الشيخ أنس الطويل، عن تدشين مرحلة جديدة في جنوب دمشق، عنوانها الأبرز “تقدّم تيار الثورة بشكل عام والعسكر بشكل خاص”، خطوة للأمام، على حساب تيار “المصالحة” وأنصار “التسوية” تحت شعار “الحل سوري–سوري”.
تعجّل الطويل، في قطف ثمار محاولاته المتكررة، الرامية إلى تحقيق “المصالحة” مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد، فانقلب الأمر عليه رأساً على عقب، وطرحه خارج المنطقة، مطروداً من قبل الفصائل العسكرية، وممنوعاً من الدخول إليها مجدداً. وذلك بعد أن زجّ بنفسه في جولةٍ جديدة (رفع فيها سقف طموحاته في الأهداف والخطاب إلى الحد الأقصى) من ضرباته الاستباقية التي يسعى من خلالها لتقديم المنطقة كهدية لنظام الأسد على طبق من ذهب، من دون وجود ضغط حقيقي من قبل النظام.
وشهد الجنوب الدمشقي خروج مسيرة مؤيدة لـ”المصالحة”، وصلت إلى نقطة قوات الأسد على حاجز ببيلا-سيدي مقداد، وحيّت قوات النظام بهتاف “الجيش والشعب إيد وحدة”، كما تخللها اتصال “الطويل” بأحد ضباط فرع الدوريات برتبة نقيب، واتفق معه على ترتيب لقاء بين رئيس “فرع الدوريات” العميد طلال العلي، وجمعٍ من شبّاب المنطقة الراغبين بـ”التسوية” والانضمام إلى صفوف “الدفاع الوطني”، وحدد اللقاء في صالة “الجود” بمنطقة القزاز في دمشق، إلّا أن تحرّك الفصائل حال دون الاجتماع. وتلا المسيرة طرح استبيان في المجلس المحلي لبلدة ببيلا، يدعو المنشقين والمتخلفين عن الخدمتين الإلزامية والاحتياطية، إلى تقرير مصيرهم، إما بالتسوية والانضمام لقوات الأسد، أو بالخروج إلى الشمال.
بالطبع، ليس الجديد هو ترويج الطويل لـ”المصالحة” مع النظام، فهو عرّابها ورأس حربتها في مواجهة الثورة، إلّا أن الفارق بين محاولاته المستميتة خلال السنين الماضية، وهذه المرّة، يكمن في بلوغ الذروة في الصراحة والعلانية، في الخطاب والسلوك، والانتقال من حيّز الطرح النظري لـ”المصالحة” إلى الحيّز العملي، والتفرّد التّام بمصير الجنوب الدمشقي. الأخطر كان في التركيز على مستقبل الشريحة-العصب في المنطقة؛ الشباب، ووضعهم دون أي مبرر حالياً، أمام امتحانٍ صعب في فترة ركودٍ سياسي نسبيّ في ملف المنطقة.
الفصائل العسكرية بحسب ما أعلنت، رأت في تصرّفات الطويل تجاوزاً للخطوط الحمر، وتفرّداً في القرار، وخروجاً عن مظلّة “اللجنة السياسية” الممثلة للقوى المدنية والعسكرية في المنطقة، على الرغم من تجميد دور “اللجنة” منذ مدّة طويلة، وانقلاباً على المحددات السياسية الرئيسية المتوافق عليها ضمنياً بما يخص مستقبل المنطقة. وبالتالي، استدعى ذلك القيام بردّ فعلٍ حازم على خطوة الطويل الأخيرة، عبّرت عنها الفصائل من خلال عملية أمنيّة، أعادت خلط الأوراق، بإبعاد الطويل من مسرح المنطقة إلى دمشق، حيث يسكن بالفعل، وأضعفت الكتلة المسلّحة المرتبطة به، ونسفت أو كادت تنسف جهوده في مسار “المصالحة”.
النظام من جانبه ردّ على هذه التطورات الخطيرة بإغلاق حاجز ببيلا-سيدي مقداد، وفرض حصاراً على المنطقة، من دون أن يبدي مؤشرات تصعيدية توحي بحسم طريقة التعامل مع ملف الجنوب الدمشقي، بناءً على انقلاب الفصائل، على أساس الخيار العسكري، وهي التي كانت قد أعلنت التزامها بالاتفاقيات الموقّعة مع النظام. النظام في المقابل، لن يتخلّى بسهولة عن ورقة الطويل الرابحة، لاعتبارات عديدة تتعلّق بكونه صاحب مشروع ورصيد شعبي، وبالتالي يصبح من الغباء التنازل عنه بلا تنغيص وزعزعة الصف الداخلي في جنوبي دمشق، وصولاً إلى محاولة فرضه مجدداً على السّاحة، إن كان عن طريق إغلاق الحاجز، أو بزيادة الضغط من خلال القصف أو “الحشد الشعبي”. كما يحصل الآن من خلال التظاهرات النسائية التي تخرج في ببيلا تطالب بعودة الطويل، وتدعو الجيش الحر للخروج إلى الشمال، وتثبيت “المصالحة” في المنطقة، من دون أن تتعرّض لها الفصائل.
على المستوى الشعبي انقسم الأهالي بين مؤيّد للعملية الأخيرة ورافض لها، المؤيدون رأوا فيها ضرورة المرحلة، والرّد الطبيعي على مساعي الطويل والهدايا المجانية التي يبادر بها للنظام بين الحين والآخر، من دون مقابل أو مكتسبات. هذا بالإضافة إلى الاحتقان الكبير داخل الشارع الثوري من ارتماء الطويل في أحضان النظام، واصطفافه بشكل كلّي في الضفة المقابلة، وتأسيسه مشروع “الثورة المضادّة” في المنطقة، على حساب تجاهل قوى الثورة بل ومعاداتها، والنيل الدائم منها إما عبر المنابر أو من خلال تحكّمه بالقرار السيادي في ببيلا ومحاولة منع الحراك السلمي فيها.
أما الرافضون، فقد انتقدوا تجاوزات بعض مقاتلي الفصائل، خلال العملية، التي اعتبروها بمثابة “اقتحام” لبلدة ببيلا، مؤكدين اصطفافهم مع الطويل ومشروع “المصالحة”، ومندّدين بفصائل الجيش الحر، كما طالبوهم بالخروج من جنوب دمشق إلى الشمال وإتمام “التسوية” مع النظام. وقد عبّر عن هذا الرأي من خلال الحراك النسوي الذي استمر خلال الأيام الماضية بشكل شبه يومي.
في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في جنوب دمشق، إثر المستجدّات الأخيرة، تستمر عملية التدافع بين جمهوري الثورة و”المصالحة”، ضمن وتيرة متفاوتة، تتصاعد حيناً وتنخفض حيناً. وفي ظل غياب المؤشرات الدّالة على تحرّك النظام لحسم ملف المنطقة، المعقّد أصلاً، والمتشابك مع مصالح متعددة وأطراف متنوّعة، من المليشيات الشيعية وحلم “الضاحية الجنوبية”، إلى تنظيم “داعش” ومصيره، إلى الجيش الحر ومستقبل بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم وحي القدم، يمكن القول إن النظام سيتجه على المدى المنظور إلى إعادة ضبط بوصلته، بناءً على علاقات القوّة الصاعدة في المنطقة، وسيسعى إلى تأسيس صيغة تفاهمات مؤقّتة مع قوى المنطقة بحيث يضمن صفاء الأجواء وعدم تفلّت وضع الجنوب الدمشقي من بين يديه.