لم تكن المهمة سهلة قط؛ فالوجهة المرجوة إلى مشفى البيروني لعلاج السرطان شرق دمشق، كانت لا تستغرق أكثر من 10 دقائق من محطة باصات تُعرف باسم “كراج العباسين” بالعاصمة، لكنّها اليوم في ظل الحرب الدائرة، باتت تصل حدّ الساعة إن لم تكن أكثر.
ولأن المشفى السوري، الأضخم المتخصص بمعالجة الأورام، يقع على حافة طريقٍ سريع قديم، بالقرب من ضاحيتي الأسد وحرستا، ويطل على تخوم منطقة معارك مشتعلة بين النظام والمعارضة المسلحة- فإن الطريق إلى المشفى والمعروف بـ”أوتوستراد حرستا” تحوّل إلى أخطر الطرق في البلاد.
خطورة الوصول إلى المشفى
من كراج العباسين انطلقت الرحلة في الحافلة، والتي كان من المقرر أن تسلك طريق حرستا لنصل إلى المشفى. لكنّ السائق سلك طريقاً آخر وهو “برزة”؛ بسبب تأزُّم الوضع هناك في الفترة الأخيرة بشكل كبير.
انتهت آخر محطة للحافلة في ساحة الضاحية، حيث نزل الركاب وكنا جميعنا أمام حلّين للوصول إلى مشفى البيروني؛ إما الذهاب مشياً وهو طريق قد يستغرق ربع ساعة، ويحمل كل أشكال الخطر من احتمال الموت بقذيفة أو رصاصة قناص أو أخرى طائشة لا يعلم أحد وجهتها، وإما ركوب سيارة أجرة، يقلّ فيها الخطر لكن لا ينعدم.
وعلمت أن غالبية السائقين يتقاضون أجراً يبلغ نحو 500 ليرة؛ أي ما يعادل الـ10 دولارات، وبالفعل تجمّع في المكان عدة أشخاص كانوا يتفاوضون مع أحد سائقي سيارات الأجرة، وبعد جدال طويل، وافق على أن يأخذني وراكب آخر مقابل 500 ليرة فقط.
وبسرعة الريح، انطلقت السيارة متجهة نحو المشفى، وكانت المخاطرة تقلّ تارة وتزداد تارة أخرى كلّما اقتربنا أكثر؛ فوجه المدينة بدأ يتغير، وكانت ويلات الحرب المتواصلة منذ سنوات، تلقي بثقلها على الأبنية التي انهار بعضها وعمّت الثقوب بفعل القذائف والصواريخ بعضها الآخر.
وعند اقترابنا من مشفى البيروني الذي يشرف على أحد خطوط الجبهة، لاحظنا وجود ساتر ضخم، اتضح لاحقاً أنه نُصب لمنع القناصة من رؤية باب المشفى للحدّ من الحوادث.
لم تكن حال المشفى أفضل بكثير من الخراب الهائل الذي كان يحيط به في كل مكان؛ فآثار القصف والشظايا ظهرت في الحفر الموجودة داخل ممراته وعلى الجدران، لكنّه ما زال من الناحية الفنية والعمرانية جيداً، لا سيما أن ورشات إصلاح تعمل في المكان لإصلاح بعض ما تضرر.
قبل أن نصل إلى جناح الأطفال، التقيت في المشفى سيدة حلبية تقبع وحيدة لتتعالج من مرضها، تاركةً في حلب طفلتيها الصغيرتين.
وتقول إنها لم تكن قادرة على اصطحابهما معها؛ بسبب وضعها الصحي، وطول مسافة السفر من حلب إلى دمشق والتي تصل إلى نحو 10 ساعات.
وخلال حديثنا، سقطت قذيفة في مكان مجاور للمشفى، فاهتز المبنى برمته، فأشارت بيدها لتخبرني بأن هذا أحد أسباب تركها بناتها في حلب، فهي تتكبد خطورة قطع هذه المسافات وحيدة شرط ألا تعرض بناتها لمثل هذا الرعب.
أما جناح الأطفال المصابين بالسرطان، فكان شبه فارغ، فالآباء الذين وصلوا بالفعل، واجهوا خياراً مريعاً: إمَّا السفر مع أطفالهم بطول طريقٍ يعلمون أنَّه كان هدفاً لقذائف الهاون إلى مشفى يشرف على أحد خطوط الجبهة، وإما أن يظلوا في بيوتهم ويدعوا أن ينتهي الصراع قريباً، وهم يدركون أنَّ المرض قد ينتشر في أجساد أطفالهم. واضطر بعض الآباء إلى ترك أطفالهم الآخرين وراءهم في مدنٍ تتعرَّض للقصف، غير قادرين على رؤيتهم شهوراً، والعيش وحيدين في ملاجئ وفنادق رخيصة التكلفة؛ كي يتمكَّن أطفالهم من الحصول على علاج.
شريط ذكريات من القنص
ويحدثني طبيب شاب في المشفى (فضّل عدم ذكر اسمه)، وملامح الهدوء بادية على وجهه مع ابتسامة رضا لا تفارقه، بأن الأيام التي يمضيها في المشفى أشبه بكابوس.
لكن الضرورة هي السبب حسب قوله؛ “فأولاً مساعدة هؤلاء المرضى من فقراء البلد، وثانياً حاجتي لمأوى أمّنه لي المشفى حينما منحني سكناً مقبولاً دون أي مقابل مادي، في وقت لم أكن أستطيع فيه التفكير في استئجار أي شقة سكنية مهما صغر حجمها أو بعُد مكانها”.
ويوضح الطبيب أن الأوضاع في المشفى لم تكن على الوتيرة نفسها دائماً، ويقدم لي تواريخ دقيقة لمراحل الحرب هناك، مشيراً إلى أن الأوضاع بقيت جيدة في المنطقة حتى شهر مارس/آذار من عام 2013، إلا أنه قبل ذاك التاريخ كانت السيارات تسلك أوتوستراد حرستا المؤدي إلى المشفى بسلام ولم يكن هناك مشاكل تُذكر رغم اندلاع الأحداث في البلاد.
ويضيف: “المشفى كان ممتلئاً بكل غرفه وأقسامه وأيضاً بكادره كاملاً، ولكن الأمور تغيرت بعد شهر مارس/آذار، واشتعلت الحرب في تلك المنطقة لدرجة أن المرور من طريق الأوتوستراد كان مستحيلاَ، فالقذائف والقنص وتبادل إطلاق النار كانت عنوان تلك المرحلة، لهذا تم استبدال هذا الطريق بطريق آخر يمر من منطقة تُعرف باسم التل توجد في ريف دمشق أيضاً. وبعد فترة، عادت السيارات الخاصة للمرور من الطريق الأول، في حين بقيت سيارات المشفى والسيارات العامة كافة بعيدة عنه”.
ويعود الطبيب بذكرياته إلى الوراء قليلاً، متحدثاً عن سقوط القذائف في محيط المشفى وعلى بابه بشكل متواصل، لا سيما عند فترة خروج الموظفين.
لكن حاجة المرضى للعلاج جعلت من الحياة في المشفى أشبه بالطبيعية، فواظبوا على التردد رغم أن أعدادهم قلّت، وفق ما ذكره الطبيب.
ويقول شارحاً: “هؤلاء المرضى لا يملكون حلاً آخر، فهم في غالبيتهم من الفقراء والقادمين من محافظات بعيدة، حتى إن بعضهم اضطر إلى الإقامة في المشفى نفسه رغم خطورة البقاء هناك؛ لأنهم غير قادرين على الاستئجار ولا حتى على العودة إلى مدنهم البعيدة أو قراهم؛ إذ إن التنقل خلال فترة الحرب لم يعد كما كان سابقاً”.
حل جزئي
ورغم هذه الأوضاع، فإن المشفى واصل عمله، فبحسب إحصاءات صادرة عنه، فقد وصل عدد العمليات الجراحية التي قام بها خلال عام 2015 إلى 1050 عملية، فيما بلغ عدد المرضى المعالَجين دوائياً إلى 33130، والمعالجين بالحقن إلى 47928.
في حين وصل عدد مرضى صرف الدواء الكيماوي الخارجي إلى 11556، أما عدد المرضى المقبولين الجدد للمعالجة الإشعاعية للكوبالت والمسرع الخطي والسيزوم واليود إلى 6156 مريضاً.
وهذه الأرقام لا تتقارب طبعاً مع ما كانت عليه قبل الحرب؛ إذ كانت تبلغ أضعاف ما ذُكر، وقد ساعد في تقلصها ما قامت به وزارة التعليم العالي عام 2015 حينما قدمت حلاً جزئياً ومؤقتاً لمسألة صعوبة وصول المرضى إلى منطقة حرستا، وخصصت قسماً من جراحة القلب لمصلحة مشفى البيروني ضمن حرم مستشفى المواساة، وبذلك أصبح بإمكان المرضى مراجعة البيروني بفرعيه حرستا أو المزة (داخل دمشق)، وكذلك بات الأطباء والموظفون يتقاسمون العمل بالتناوب بين المقرين.
ويذكر لي الطبيب هنا، أنه بعد سبتمبر/أيلول 2015، “تركّز العمل تقريباً في منطقة المزة، وتراجع عدد طلاب الدراسات العليا الموجودين في حرستا، وكذلك الأمر بالنسبة للمشرفين؛ نظراً إلى خطورة المكان. وفي تلك الأيام، كان الوضع سيئاً وكانت القذائف تتساقط كالمطر على المشفى وعلى الأوتوستراد الذي تم إغلاقه من جديد. ومنذ ذلك التاريخ ولليوم، بقي الوضع على حاله تقريباً، مع تفاوت في حدة الاشتباكات ومع استمرار فتح وإغلاق الأوتوستراد”.
ومن الأحداث المؤلمة التي عايشها، يتذكر تعرض إحدى حافلات المشفى لقذيفة هاون في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2016، تسببت في مقتل 4 أشخاص وإصابة الكثيرين، كما شهد تعرض عدة مرضى لشظايا أو قذائف تسببت في زيادة أوجاعهم.
ويمر في شريط ذكرياته قصة سيدة كانت تعاني وضعاً صحياً سيئاً جاءت للمشفى برفقة زوجها، فتعرض الأخير لقذيفة خلفت عدة كسور في جسده.
أما عن وضع مشفى المزة، فيؤكد الطبيب أنه صغير الحجم نسبياً إذا ما تمت مقارنته مع فرع حرستا، وهو “يستقبل يومياً مئات الحالات التي غالباً ما تضطر إلى التكدس في الممرات والغرف؛ لعدم توافر مكان لها، كما أن هذا المشفى لا يوفر خدمة النوم للمرضى إلا لعدد محدود جداً ولفترات قصيرة، ولهذا يضطر البعض إلى الذهاب لحرستا والإقامة هناك”.
ويضم قسم المزة شعبة العلاج الإشعاعي، وقسماً من شعبة التشخيص الشعاعي، وآخر للمعالجة الكيماوية “الحقن السريع” أحدث في بداية عام 2014، إضافة إلى افتتاح عيادات بمختلف الاختصاصات لمراجعة المرضى ومكتب قبول جديد لاستقبال المرضى؛ نظراً إلى ظروف المنطقة الموجود بها المركز الرئيس للمشفى.
لا مكان للتنفس
عندما وصلت إلى مشفى فرع المزة، حيث لا يمكن لأحد أن يجد مكاناً فارغاً ليقف فيه، تمكنت من الدخول بصعوبة، ووسط تلك الوجوه المتعَبة والمصفرة، حاولت أن أفتح باب الحديث مع الموجودين.
وأخبرتني سيدة في أواخر الأربعينيات من عمرها، بأنها جاءت كي تخضع للجرعة الدورية الخاصة بها، وأنها بسبب المخاطر الكبيرة التي عاشتها في حرستا قررت الانتقال إلى فرع المزة، إلا أنها صُدمت بسبب الازدحام الكبير الذي يصل لمرحلة الاختناق.
فقررت السيدة تلقي العلاج على نفقتها الخاصة، ولكنها تضطر للقدوم إلى هنا كي يتم حقنها ومتابعة ملفها ومراقبة مرضها، ولا تنكر أن المبلغ الذي تدفعه كبير جداً، فالأدوية التي تشتريها يبلغ سعر بعضها 15 ألف ليرة سورية؛ أي نحو 30 دولاراً، وبعضها الآخر 55 ألف ليرة؛ أي ما يعادل 100 دولار، كما أن تكلفة الجرعة قد تبلغ 600 ألف ليرة سورية، وهو رقم يفوق الـ1000 دولار.
ولا يكاد أحد الموجودين في مشفى فرع المزة يتذكر الحرب أبداً، فرغم الازدحام والكثافة الكبيرة للمرضى، فإن أحداً منهم يفكر في الأزمة وما فعلته الأطراف المتنازعة.
وفي إحدى زوايا المشفى حيث كنت أقف، كان رجل يتحدث إلى صديقه بلهجته الديرية (دير الزور) عن الأوجاع التي يعانيها بسبب العلاج وعن أسماء الأدوية ومصادرها، وآخر ما حملته تحليلاته المخبرية.
وعندما سألتهما عن حالهما خلال فترة العلاج، علمْت أنهما جاءا من قرى دير الزور، وأنهما يقيمان حالياً بأحد فنادق المرجة الرخيصة، التي فتحت أبوابها خلال الأزمة للمهجَّرين وللوافدين من المحافظات، مقابل مبالغ بسيطة ومستوى متدنٍّ من النظافة وأحياناً من الخصوصية؛ بسبب تشارك عدة أشخاص في غرفة واحدة.
ويكشف لي أحدهما عن الويلات التي عايشها حتى تمكن من مغادرة قريته في دير الزور، وكيف اضطر إلى الاستعانة بمهرّب لمغادرة مناطق تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وهو لا يعلم كيف وصل إلى دمشق.
ويتابع: “ما زاد الطين بلة، أنه حينما قررت مباشرة العلاج نصحوني بالذهاب إلى حرستا، وخلال الطريق ذقت الأمرّين حتى وصلت، وبعد الاستفسار والسؤال، اكتشفت وجود فرع آخر في المزة فقررت الانتقال إليه للعلاج”.