بحث
بحث

المركزي السوري وحركة درغام التصحيحية

يشهد “مصرف سوريا المركزي” حراكاً كبيراً، أشبه بانقلاب سلبي على الواقع. فبعد القرارات التي أًصدرها حاكم المصرف السابق أديب ميالة، والتي كان من شأنها حصر الأعمال المالية بيد المركزي وسماسرته من شركات الحوالات، يأتي حاكم المصرف الحالي دريد درغام، ليقول بوجود “حركة تصحيحية جديدة” لمقابلة نتائج “الانتصارات الميدانية”. وهنا لا ينفك موظفو المركزي عن العمل من أجل “تصحيح” ما أقترفه ميالة.

دريد درغام، وعد بغدٍ أفضل لا للسوريين، بل للنظام ورجال أعماله. فما مصلحة السوريين من انضمام كافة المصارف السورية إلى “نظام التسويات الإجمالية السوري SyGS”، وهل تحقيق الاستقرار للتجار ورجال الأعمال سينعكس إيجاباً على المواطنين السوريين؟ ونظام “التسويات الاجمالية” سيسهل انجاز حركة الحوالات في يوم واحد، من دون عمولات على الحوالات بين المصارف. وبالتالي سيسرّع الحركة التجارية، ويخفف من التعامل النقدي، مقابل مراقبة أوسع للعمليات، وحجم تحويلات أكبر. القرار هنا يخص حصراً رجال أعمال سوريين، وكثيرون منهم أثروا مستغلين اقتصاد الحرب.

قرار منح القروض من مصرفي التوفير والتسليف الشعبي روّج على أنه أحد “العطاءات” التي سوف تفيض بها سوريا لاحقاً. إلا أن المستفيدين من مبلغ القرض، وهو بحدود 500 ألف ليرة سورية، سيستخدمونه لسداد ديونهم والتزاماتهم المالية المتعثرة خلال السنوات الماضية. فلا حجم الإقراض يكفي السوري ليعيش في “بحبوحة”، ولا راتبه يغري مؤسسات التمويل لمنحه قروضاً بمبالغ أعلى.

الحاكم حثّ المصارف الخاصة والعامة على منح القروض “خاصة لدعم المشاريع المتوسطة والصغيرة”، إلا أن التجاوب ما زال ضعيفاً جداً، فالمصارف مؤتمنة على حقوق المساهمين، وليست بوارد دخول مغامرات في الإقراض على حساب وجودها المالي، وسمعتها المرتبطة مباشرة بالمصارف اللبنانية العالمية. فهل هناك أي أمل بأن تعود المصارف، في ظل حالة التضخم المرعبة، في يوم قريب، للإقراض المبني على الحاجة الفعلية؟

وكان قرار المركزي رقم 1168/2/1 للعام 2013، في عهد ميالة، الخاص بالتريث في منح القروض والتسهيلات الائتمانية المباشرة لأغراض تمويل المستوردات وإيقاف منح التسهيلات الخاصة بعمليات تمويل المؤونات، قد جاء بعد “تكشف سوء استخدام التسهيلات الممنوحة لتمويل المستوردات عن طريق عمليات تمويل وهمية بهدف المضاربة على سعر الليرة السورية”، بحسب قرار المركزي. إلا أن معظم رجال الأعمال السوريين كانوا قد هرّبوا، قبل القرار، أموالهم النقدية عبر المصارف الخاصة في سوريا من خلال الشركات الأم لها في لبنان.

العمليات المصرفية في سوريا، كانت اختُزلت منذ سنوات، على متابعة القروض والتسهيلات الائتمانية المتعثرة. فنتيجة ارتفاع مخاطر التمويل في زمن الحرب، توقفت البنوك عن منح القروض والتسهيلات الائتمانية. قرار المركزي بالتريث، فرض نوعاً من الجمود والخوف، وتأثرت عملية سداد القروض الممنوحة سابقاً بتراجع وتوقف الأعمال، وعدم قدرة المُقترضين على السداد.

فريق درغام دفع لتعديل القرار رقم 15 للعام 2015، بغرض التخفيف من تداعيات “مكافحة غسل الأموال” على التاجر السوري، خاصة في ما يتعلق بموضوع التعرف على العميل “KYC”، وسقف المبلغ المطلوب لبدء عملية التتبع عنده. التعديل ساهم بتمرير جزء من العمليات التجارية من دون اتباع اجراءات المصارف الصارمة في تتبع أعمال التجار، مثل مصادر الأموال، وحجم الأعمال. إلا أن الأثر الفعلي ظل خفياً، فقرارات المركزي المتعاقبة لـ”مكافحة غسيل الأموال”، خاصة القرار 15 للعام 2015، جاءت متأخرة جداً، بعدما انتقل غاسلو الأموال الى مرحلة دمج أموالهم في العجلة المصرفية اللبنانية والتركية والإماراتية.

اللافت في الأمر هو استمرار النظام السوري في مجموعة “MENAFATF”، للعمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أجل “مكافحة غسل الأموال” و”تمويل الإرهاب”، والتي تعمل على غرار مجموعة العمل المالي “FATF”. إلا أن جميع المصارف الرئيسية في سوريا، من “المصرف التجاري السوري” إلى “بنك سوريا الدولي الإسلامي” إلى “بنك الشام الإسلامي”، خاضعة لعقوبات اقتصادية أوروبية وأميركية. فعن أي منظومة قادرة على تجنب العقوبات، يبشرنا بها درغام. الحاكم لم يتورع عن التنظير في مجال “مكافحة غسيل الأموال” و”تمويل الإرهاب”.

فريق درغام في المركزي، أصدر القرار رقم 1602 للعام 2017، الذي أفرج فيه عن الحوالات الواردة بالدولار، ما أعطى الحرية لحركة التحويلات بالقطع الأجنبي. ويعتبر ذلك عنصراً مهماً لدى المستوردين الحاليين، ولاحقاً للأفراد والشركات المساهمين في “إعادة الإعمار” من حيث القدرة على تسديد قيمة الاعتمادات والبوالص عبر الحوالات الخارجية وبالدولار الأميركي، وبالتالي يحمون أعمالهم من مخاطر تقلبات أسعار الصرف. وكان المركزي قد أصدر قرارات متتالية، بين العامين 2012-2017، للتوقف عن شراء وبيع العملات الأجنبية في المصارف الخاصة والعامة. شركات الصرافة وعرابو السوق السوداء، كانوا بطبيعة الحال قد استبقوا تلك القرارات، واكتنزوا الكثير من العملة الصعبة.

بعض الكوارث التي سبق واقترفها فريق ميالة، يبدو أنها غير قابلة للعكس، ولا ضمن أي حركة “تصحيحية”. القرار الخاص بتحرير أسعار الصرف في سوريا في العام 2012، مع جعلها محكومة بمنظومة العرض والطلب، كان له أثر كبير على المواطن السوري ولقمة عيشه، إذ وصل اليوم سعر الدولار إلى 450 ليرة بعدما كان 45 ليرة. اقتصاد البلاد الريعي القائم على تأجير أو بيع موارد الدولة للزبائن الخارجيين، لم يترك خياراً للكثير من الناس إلا بالعمل في المضاربة عندما تكون الفرصة مواتية خلال التقلبات المالية الطارئة.

نتائج “الحركة التصحيحية” التي يقوم بها “مصرف سوريا المركزي” تدل على الاستعداد لتطوير البنية المصرفية الخاصة بتسديد الديون الناجمة عن الحرب على السوريين، وباتت العقود التي تهبط على رجال الأعمال وأمراء الحرب، بالمظلات، لا تقل سرعة من تلك المساعدات التي ألقتها طائرات الأمم المتحدة على ديرالزور، والرقة وسقطت في حضن “داعش”.

ومن الصعب تنفيذ الوعود والتنازلات الضخمة التي التزم بها النظام مع حلفائه، لتسديد فاتورة الحرب، في ظل الهيكلية المصرفية المقيدة أيام ميالة. الحاكم السابق بحد ذاته، لم يعد مفيداً للنظم المالية التي ستشارك في المرحلة الجديدة من “إعادة الاعمار” وغيرها. فتسويات عقود النفط، والغاز والفوسفات، والمواد الغذائية، وغيرها، ستكون بمئات ملايين الدولارات، وأي خلل في طريقة تسديدها عبر المصارف العاملة في سوريا سيكون له الأثر الكبير على الواقع السياسي الذي يريده النظام.

الكثير من القرارات المصرفية التي تماشت مع الواقع الذي فرضته الحرب لصالح النظام، أصبحت اليوم هدفاً للتعديل والتغيير، وحتى الإلغاء. لكن هل يستطيع النظام عكس جميع قراراته لترجمة واقع سريع التحول؟ أم أن الموضوع يقتصر فقط على تبييض صفحات النظام السوداء، ورجال أعماله المقربين، وتسهيل أعمالهم التي تزداد قتامة يوماً بعد يوم.

المصدر: جريدة المدن الالكترونية. 

اترك تعليقاً