ظهر الزلزال السوري في أيامه القليلة وجغرافيته المحدودة بمثابة تكثيف لما أصاب السوريين وبلدهم على مدار الاثني عشر عاماً الماضية، ففي أقل من أسبوع واحد قُتل وجُرح وشُرد من السوريين ودُمر من ممتلكاتهم أكثر مما لحق بهم في أي واحد من أسابيع الأعوام الماضية، بل إن المحصلة الإجمالية التي ستظهر لوحتها الأوضح مع انتهاء عمليات رفع الأنقاض، وانتهاء البحث عن المفقودين، يمكن أن تضاعف أرقام خسائر السوريين من الزلزال في سوريا وتركيا، بحسب صحيفة الشرق الأوسط.
ويضاف إلى الألم والمعاناة الإنسانية وحجم الخسائر المادية الكبير الناتج السياسي للزلزال، وما يتركه من أثر على السوريين وقضيتهم في مستويات مختلفة، وخصوصاً على مواقف وسياسات الأطراف السورية حيال ما جرى.
وتبدأ مواقف وسياسيات السوريين من نظام الأسد الذي لم يحدث أي تبدل عما اعتاد عليه من مواقف وسياسات، وخصوصاً لجهة الاستخدام السياسي لأي حدث وتطور، ووضعه في خدمة سياسات النظام قبل أي أمر آخر، وقد أكد النظام طوال الوقت عدم اهتمامه بما يصيب السوريين من ترديات وتدهور أوضاعهم، وخصوصاً في المناطق الخارجة عن سيطرته، ولذلك سعى نحو جعل المساعدات الدولية تمر من خلاله، مما يفتح أبواب تطبيع علاقاته مع الدول والمنظمات التي ما زال بعضها يرفض العلاقات معه، وكي يتاح له التصرف في المساعدات بطريقته لتوزيعها على بطانته، على حساب حصة بقية السوريين ذوي الحاجات الملحة، وقد حفلت وسائل التواصل الاجتماعي في مناطق سيطرة النظام بإشارات ارتكابات المؤيدين في سرقة المساعدات وبيعها علناً في مدن تخضع لسيطرة النظام.
وتعامل النظام على نحو ما درجت عليه عادته مع التحديات التي تواجه السوريين، فأظهر أقل قدر من المسؤولية مع الزلزال وتداعياته، حتى في مناطق سيطرته، فلم يعلن الحداد، ولا أعلن أي منطقة باعتبارها منطقة منكوبة، ولم يدفع حكومته وأجهزته للاستجابة للمطلوب، وحتى الزيارة التي قام بها رأس النظام إلى حلب، فإنها بدت نزهة، لم ينقطع الأسد وزوجته ومرافقوه خلالها عن الضحك، وكأنهم في احتفالية؛ بل وفرح أساسه أن الزلزال المدمر كفاه اللجوء إلى البراميل والصواريخ التي اعتاد استخدامها لقتل السوريين، والتدمير العشوائي لممتلكاتهم طوال سنوات.
وأكد الزلزال وتداعياته سياسات النظام ومواقفه المعروفة من السوريين، وأوضح بأشد الصور وضوحاً أمام العالم كله، أنه لم ولن يتغير في كل الظروف، وهو أمر مستمد وينطبق بصورة مماثلة على مواقف داعميه الأساسيين من الإيرانيين والروس، وجدد الأخيرون مواقفهم من قصة المعابر التي ستكون قريباً مادة للبحث على طاولة مجلس الأمن الدولي.
ويضم الجانب الآخر في كشف الواقع السوري، قوى المعارضة السورية السياسية والمسلحة وقوى الأمر الواقع، وفي مقدمتها “هيئة تحرير الشام” وأساسها “جبهة النصرة” فرع “القاعدة” في سوريا و”قوات سوريا الديمقراطية”.
وقد صمتت تنظيمات المعارضة، وفي مقدمتها “الائتلاف الوطني” الذي يوصف بأنه “ممثل الشعب السوري”، وكان الأهم في تحركه زيارة مناطق أصابها الزلزال، وقد جاءت بعد زيارة الأسد إلى حلب بأيام.
ولم يكن موقف الجماعات المسلحة في الشمال بأحسن حالاً من مواقف الائتلاف؛ إذ اختارت الصمت، وامتنعت عن المشاركة في إنقاذ الضحايا وتقديم المعونات لهم في مواجهة الظروف الجوية الصعبة؛ بل إن الحكومة السورية المؤقتة التابعة الائتلاف منعت دخول مساعدات إغاثية قادمة من شرق الفرات.
المميز في مواقف التشكيلات السياسية العسكرية في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، كان موقف «قوات سوريا الديمقراطية» في شرق الفرات التي يقودها حزب “الاتحاد الديمقراطي الكردي! (PYd) الذي تعامل مع الزلزال المحدود في مناطق سيطرته في شرق الفرات، وأرسل مساعدات إلى غرب الفرات في خطوة لا تخلو من أهداف سياسية، والطرف الثاني هيئة تحرير الشام التي ظهر أميرها الجولاني يواسي ضحايا الزلزال، وعممت منصاتها صوراً تبين مشاركتها في التعامل مع تداعيات الزلزال، في خطوات لا تخلو من هدف تحسين صور الهيئة وحكومة الإنقاذ التابعة لها، في عيون السوريين.
ووسط لوحة من سواد مشهد، يشمل نظام الأسد، وجماعات المعارضة السياسية والعسكرية، وقوى الأمر الواقع في شرق الفرات وفي إدلب، تجسد غياب المسؤولية السياسية والأخلاقية، وتكرس التخاذل وسوء التصرف؛ بل والفساد المقصود في التعامل مع الزلزال وتداعياته، وخصوصاً في تقصير الجميع في إنقاذ السكان وإغاثتهم من خلال استخدام الإمكانات المتاحة، وفي تلك المناطق مئات الآلاف من القوى العسكرية والأمنية والمسلحين وعشرات الآلاف من الآليات، وكان بإمكانها أن تحدث فرقاً في الاستجابة وفي نتائجها.
وقد وجد الكشف السوري في مستوى قوى السيطرة (من نظام الأسد وغيره، وعلى الرغم من التفاوت في الحجم والتأثير ومستوى الخراب بين مختلف الأطراف) سنده الرئيس في تواطؤ استجابة المحيط الإقليمي والدولي في البداية في مواجهة الزلزال وإغاثة السوريين؛ حيث التبس على البعض دور العقوبات الدولية، وتحجج البعض بها للتأخر في تقديم المساعدات، بينما اعترضت تركيا مسار المساعدات إلى الشمال الغربي في موقف غير مفهوم؛ حيث هي صاحبة السيطرة الرئيسية على المعابر.
غير أنه وبموازاة السواد الشديد المحيط بالكارثة السورية، ظهر وميض من خطين، كان الأول خط «الخوذ البيضاء»، وهي منظمة مدنية في عضويتها نحو 3 آلاف متطوع، عملوا بقدرات وإمكانات محدودة في السنوات الماضية على مهمات النجدة والإنقاذ، في مواجهة اعتداءات النظام وحلفائه على شمال غربي سوريا، وأثبتوا نجاحات كبرى، أهَّلتهم للقيام بدور ولو محدود مع منظمات أخرى صغيرة وغير متخصصة في مواجهة الزلزال، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. والخط الثاني مثلته مبادرات سورية واسعة، شملت أماكن انتشار السوريين في سوريا وخارجها؛ حيث نظمت حملات تضامن واسعة، وإلى جانبها حملات تبرع مالية وعينية هدفها تغطية ما أمكن من احتياجات السوريين في تركيا وسوريا. والأهم في الحملات أنها ركزت على نوعين من الخطاب: أحدهما خطاب توحيدي للسوريين، والثاني حض الدول والمنظمات والرأي العام على الإسراع في تقديم مساعدات مختلفة، للتغلب على نتائج الزلزال وتداعياته.
وإذا كانت الانكشافات الأولية سلبية الطابع، كشفت حقيقة التردي في واقع السلطة والجماعات السياسية والعسكرية وسلطات الأمر الواقع، فإن الموجة الثانية أكدت الجوانب الإيجابية في حراك السوريين عبر جماعاتهم المدنية والإغاثية، كما كشفت الروح الإيجابية التضامنية وسط السوريين في كل مناطق وجودهم وانتشارهم، والأمر في الحالتين موضوع أمام نخبة السوريين، لا سيما الشباب منهم، من أجل الأخذ بالمعطيات والوقائع والبناء عليها في التغيير السوري المرتقب، عبر بناء وتحديث قوى سياسية جديدة ومستقلة، تستجيب لمصالح السوريين واحتياجاتهم، وتأخذهم نحو تحقيق أهدافهم في السلام، وبناء نظام يوفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين.