كيف قلبت الحرب في سوريا ميزان القوة في الشرق الأوسط رأسا على عقب؟ تجيب مراسلة صحيفة “التايمز” في الشرق الأوسط “حنا لوسيندا سميث” أن الانتفاضة السورية بدأت بهدف متواضع: “الاحتجاج على اعتقال وتعذيب ناشطين ثوريين صغار كتبوا شعارات على الجدران”. ومن بين كل الانتفاضات العربية، فقد كان مصيرها التلاشي بدون أن تترك أي أثر.
وبعد عقد من الزمان، فالنار التي أشعلت هذه الاحتجاجات لم تحرق سوريا، التي أصبحت مجرد قشرة عما كانت عليه، بل وانتشرت في كل المنطقة محطمة التحالفات القديمة ومؤسسة لتحالفات جديدة وخالقة مناطق قوة لقوى صاعدة قد تستمر لجيل أو أكثر.
وأصبحت بغداد والقاهرة وبيروت ودمشق التي كانت مرة قلب الحياة السياسية والثقافية للمنطقة، مراكز خلفية ونائية، حيث انتقلت عملية صناعة القرار إلى الهامش. وبصراحة، تحولت دول أربعة إلى مراكز دفع في الشرق الأوسط وهي: إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل.
ويقول مايكل ستيفنز، الزميل في المعهد الملكي للدراسات المتحدة بلندن: “اعتاد الناس على الاستماع للموسيقى السورية واللبنانية ومشاهدة الأفلام المصرية، من يفعل هذا اليوم؟”. و”بناء على كل مؤشر- اجتماعي، سياسي، ثقافي- فهذه الدول غير موجودة، ولا تستطيع إظهار القوة ولهذا فالقوة تنعكس في داخلها”.
والمفارقة أن الرئيس بشار الأسد لا يزال في قصره، مع أنه أضعف لدرجة أنه أصبح مجرد تابع لموسكو وطهران، وكل شيء غير هذا فقد تغير.
وتركيا التي كان ينظر إليها كنموذج للديمقراطية الإسلامية في المنطقة وخرجت من عقود من الديكتاتورية العسكرية، رمت نفسها خلف المعارضة السورية، لكنها غيرت مسارها عندما شاهدت صعود تنظيم “الدولة” والأكراد السوريين، إلى درجة باتت فيه أنقرة اليوم شبه معزولة عن جوارها الأوروبي وفي الشرق الأوسط. ولكن الرئيس رجب طيب أردوغان يتمتع بتأثير شخصي قوي كمدافع عن الإخوان المسلمين، الحركة التي سيطرت على الربيع العربي.
وقال عضو البرلمان التركي السابق والزميل في مركز الدراسات التطبيقية التركية في برلين: “وضعت تركيا قدمها بشكل دائم في الشرق الأوسط والسبب وجودها في سوريا. وهذا يعني أنها ستستثمر طويلا هناك. وهي الآن جزء من لعبة الشرق الأوسط”، و”لكنني لا أعتقد أن تركيا قوية على المسرح الدولي، وذهبت فكرة أنها ستكون نموذجا لكل المنطقة، فهي بلد لا يستطيع التنافس مع أي مكان، لا الشرق أو الغرب أو حتى العالم السلافي. وتجد صعوبة في جعل آرائها مقبولة”.
أما السعودية التي دعمت في البداية الثورة السورية، فقد قامت بإصلاحات محلية، وإن كانت تجميلية، مثل السماح للمرأة بقيادة السيارات. وعلى المستوى الآخر فهي ديكتاتورية أكثر من أي وقت مضى. ووطد ولي العهد محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي سلطته عبر سلسلة من تهميش وملاحقة منافسيه. وزاد من الرهانات مع أردوغان، حيث يحاول تحويل السعودية لمركز للإسلام السني ولكن بدون أن يكون للإخوان المسلمين مكان فيه.
ورسمت الرياض أيضا خطوط المواجهة مع إيران التي شلتها العقوبات الأمريكية، إلا أن طهران استخدمت سوريا والفوضى فيها لتوسيع سيطرتها وتأثيرها في منطقة البحر المتوسط. وفعلت هذا بدعم الجماعات الوكيلة لها في لبنان وسوريا والعراق واليمن. ومن خلال الحصول على عقود إعادة إعمار في سوريا، بما في ذلك إدارة ميناء طرطوس والذي يقول المحللون إن إيران تستخدمه لنقل السلاح. ونقل حزب الله اللبناني الذي يواجه إسرائيل منذ عقود جنوده قريبا من الحدود السورية مع إسرائيل.
ورغم هذه الخريطة العسكرية التي تنذر بالخطر، إلا أن إسرائيل ربما كانت الرابح الحقيقي من حرب سوريا، فقبل عقد كانت فلسطين هي القضية المركزية في العالم العربي، حيث وقفت إسرائيل على جانب، والبقية على الجانب الآخر. لكن حرب سوريا وصعود إيران أدى لتغير خطوط الصدع لتصبح النزاع السني- الشيعي، وبخاصة من خلال التنافس السعودي- الإيراني، بدلا من النزاع العربي- الإسرائيلي. مما أدى للتقارب بين دول الخليج وإسرائيل باعتبار أن إيران هي العدو المشترك الآن.
واتخذت إسرائيل خطوات لتحسين موقفها بين المعارضة لنظام الأسد من خلال توفير العناية الصحية لمقاتلي المعارضة والمدنيين الذين يعيشون قريبا من حدودها ومساعدة 98 من المتطوعين في الخوذ البيضاء وعائلاتهم- عددهم الإجمالي 400- على الفرار من سوريا.
والسؤال إن كانت إسرائيل ستستخدم الفرصة لجذب عقول وقلوب العرب بدلا من بناء علاقات مع الحكومات العربية فقط. وتقول كارميت فالنسي، المؤلفة المشاركة في كتاب “قداس سوري: الحرب الأهلية وتداعياتها” والباحثة في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي بتل أبيب، إن “النزاع في سوريا أسهم وبوضوح في اعتراف دول عربية، وبخاصة دول الخليج بالحاجة لمحور جديد يتكون من دول مستقرة وبراغماتية ويمكن أن يجلب الإزدهار للمنطقة وتلعب فيه إسرائيل دورا”.
و”أصبح النهج قويا في المنطقة مع اكتشاف أن الولايات المتحدة لا تخطط البقاء في الشرق الأوسط أو خوض حروب الآخرين”. و”بالنسبة لإسرائيل يجب أن يكون التطبيع نقطة انطلاق لمبادرات جديدة، مع لبنان مثلا وتقوية العلاقات مع المجتمعات المحلية في سوريا وأبعد”.
ترجمة: القدس العربي