تحول حوض غاز شرق المتوسط الاستراتيجي إلى بؤرة للتوترات الإقليمية نتيجة تنازع الدول المتشاطئة على البدء في استثمار حصصها في خزان الغاز الذي تحدث تقرير هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية الصادر في آذار 2010 عن احتوائه على احتياطي بنحو 1.7 مليار برميل من النفط، و122 تريليون قدم مكعب من الغاز.
كما أشارت التقارير الجيولوجية إلى إن الغاز موجود على عمقٍ واحد تقريبا في هذا الحوض الممتد من شواطئ شبه جزيرة سيناء جنوبا، مرورا بشواطئ فلسطين ولبنان وسوريا وقبرص، وصولاً إلى سواحل تركيا.
وهذا الأمر يعني ضمنا إن من يبدأ بالاستخراج أولاً سيكون بإمكانه الحصول على حصته وجزء من حصص الدول المجاورة، وقد دفع هذا الأمر إسرائيل للمباشرة مبكرا في استخراج واستثمار غاز شرق المتوسط منذ سنوات، وقد غيرت خريطتها الاقتصادية بالتحول من بلد يستورد الغاز الطبيعي من مصر قبل 2010 إلى بلد يصدر الغاز إلى دول العالم.
وتشير وزارة النفط والثروة المعدنية السورية في تقارير غير رسمية صدرت في عام 2013 إلى إن الحصة السورية في حقول غاز شرق المتوسط تقدر بنحو 6.5 في المئة من إجمالي كميات الغاز في هذه المنطقة.
هذا الأمر لم يشجع المستثمرين الأجانب على الدخول في تنافس على عمليات التنقيب والاستخراج، لكن العلاقة الاستراتيجية بين سوريا والاتحاد السوفييتي التي ورثتها روسيا الاتحادية، جعلت الروس يتمسكون بموطئ القدم المهم في منطقة الشرق الأوسط عبر شراكات عسكرية واقتصادية بين حكومتي موسكو ودمشق.
ودخلت إلى سوق الطاقة السوري شركة “سيوز نفتغاز” عام 2004 هذه الشركة التي يرأس مجلس إدارتها يوري شافرانيك الذي عمل وزيرا للطاقة الروسية في الفترة 1993-1996 وهو رجل تلطخت سمعته بملفات فساد وردت في تقرير لجنة التحقيق المستقلة حول الفساد في برنامج “النفط مقابل الغذاء” التي شكلتها الأمم المتحدة عام 2004.
وبناء على تقرير “فولكر” الذي صدر عام 2005 تبين أن شركة “سيوز نفتغاز” تورطت في تلك الفضيحة، إذ حصلت عبر رئيس مجلس إدارتها شافرانيك على أكثرمن 25 مليون برميل من النفط العراقي المهرب، وهو جزء من كمية أعادت شركات روسية تسويقها وبيعها في السوق الأوروبية إبان فترة العقوبات الاقتصادية على العراق.
كذلك، ونتيجة الضغوط المتبادلة بين روسيا من جهة والولايات المتحدة دول الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، والتي لعب فيها سوق الطاقة دورا محوريا، كان لحكومة بوتين دورا أساسيا في الضغط على الأسد لرفض مشروع تقدمت به الدوحة لسوريا عام 2009 يسمح لقطر، التي تمتلك واحدا من أكبر احتياطيات العالم من الغاز الطبيعي، بتصدير غازها إلى أوروبا بمشروع أنابيب تمتد عبر سوريا وتركيا، لكن المشروع أُجهض نتيجة العلاقات الوطيدة التي تربط الأسد بروسيا.
ومع اندلاع الحرب في سوريا عام 2011 اصبح أمر الاستثمار في قطاع الغاز والنفط السوري أكثر صعوبة بالنسبة للشركات العالمية، لكن هذا الأمر منح شركة “سيوز نفتغاز” أولوية لتكون أول شركة أجنبية تحصل على حق التنقيب عن النفط والغاز وإنتاجهما في الجزء السوري من حوض شرق المتوسط بموجب العقد الذي منحته وزارة النفط والثروة المعدنية السورية لها يوم 25 كانون الأول 2013.
وقد تضمن العقد إجراء عمليات المسح والتنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الممتدة من جنوب شاطئ مدينة طرطوس إلى محاذاة مدينة بانياس وينص العقد على تنفيذ العمل على عدة مراحل، بدأ بمرحلة التنقيب التي تضمنت قيام الشركة الروسية بتنفيذ أعمال المسح الاهتزازي وإصدار الدراسات الفنية النهائية بهدف تحديد فرص الحفر الممكنة.
وقامت الشركة الروسية بتغطية كل نفقات العمليات الاستكشافية والتي قدرت بـ100 مليون دولار، ونقل مراسل وكالة “نوفوستي” للأنباء عن المتحدثة الرسمية باسم وزارة النفط السورية منال زيتي قولها: إن “الشركة الروسية أنفقت في مرحلة الاستكشاف حوالي 15 مليون دولار لتحديد فرص الحفر الممكنة تمهيدا لحفر بئر استكشافية واحدة كحد أدنى”. وقد علق الخبير الروسي المستقل ميخائيل كروتيخين حينذاك بقوله إن “شركة سيوز نفط غاز مُقبلة على عمل محفوف بالمخاطر نتيجة الوضع الأمني المضطرب في سوريا”.
لكن يبدو أن تعثر مسار الشركة الروسية كان متزامنا مع ملف الغاز السوري. فقد كشف تحقيق استقصائي حول ملف الغاز السوري عدة نقاط من بينها ملفات فساد وسوء إدارة وتهرب ضريبي.
وأشار الخبير الدولي محمود سلامة الباحث المتخصص في شؤون الطاقة إلى أنه “رغم مشاركة (سيوز نفتغاز) في إدارة مشاريع طاقة داخل روسيا وحول العالم، إلا أنها شركة خدمات وأيضًا مدير استثمار، وعندما يتعلق الأمر بالتنقيب عن النفط والغاز في المياه السورية، سيكون لها دور استشاري فقط” ورجح أن “الحكومة الروسية ستطلب من شركات النفط والغاز الروسية الكبرى مثل شركتي روسنفت وغازبروم القيام بالتنقيب والحفر الحقيقيين في مرحلة لاحقة”.
بعد نحو 18 شهرا من حصولها على الترخيص أعلنت شركة “سيوز نفتغاز” الروسية أنها لن تستطيع تنفيذ التزاماتها التعاقدية في سوريا، إذ أعلن يوري شافرانيك في أيلول 2015 أن القرار جاء “بسبب الصراع” كاشفا عن أن المشروع سيحال إلى شركة روسية أخرى لم يذكر اسمها، لتظهر بعدها شركة “أيست ميد عمريت” المسجلة في بنما، والتي طالتها هي الأخرى الكثير من شبهات الفساد والتهرب الضريبي التي ظهرت لاحقا في تسريبات “أوراق بنما”.
بات النزاع على غاز شرق المتوسط محصورا في كتلتين، الأولى هي كتلة “منتدى غاز شرق المتوسط” الذي تم تأسيسه في القاهرة في كانون الثاني 2019 والذي ضم إسرائيل ومصر والأردن واليونان وقبرص وإيطاليا والمناطق الفلسطينية من جهة، يقابلها في الكتلة الثانية تركيا التي عقدت اتفاقا مع ليبيا في تشرين الثاني 2020 لهذا الغرض، بينما استبعدت لبنان وسوريا من الأمر.
هذا الوضع دفع موسكو للعب دور الممثل الفعلي للمصالح السورية في غاز شرق المتوسط، إذ دخلت موسكو بقوة إلى ميدان الصراع وتم الإعلان عن توقيع 40 اتفاقية بين موسكو ودمشق في أيلول 2020 وقد تم توقيع الاتفاقيات الجديدة أثناء زيارة الوفد الروسي لدمشق الذي ترأسه نائب رئيس مجلس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف.
وقد أعلن عن “إعادة بناء البنية التحية لقطاع الطاقة السوري، بعد أن تم التوقيع على عقد عمل جديد لشركة روسية للتنقيب واستخراج النفط والغاز قبالة الشواطئ السورية”.
تسارعت تحركات موسكو للإمساك بقوة بملف غاز شرق المتوسط عبر الاستثمار في مجال النفط والغاز السوري منذ شباط 2021 إذ أعلنت صحيفة “الثورة” السورية، في 16 آذار 2021 عن إتمام المصادقة على عقد جديد طويل الأمد تم توقيعه بين وزارة النفط والثروة المعدنية السورية من جهة وشركتي “كابيتال ليميتيد” الروسية و”ايست ميد عمريت” صاحبة العقد القديم من جهة أخرى.
ويمثل العقد الجديد خط المشروع لعمليات التنقيب عن النفط والغاز في البلوك البحري مقابل ساحل محافظة طرطوس حتى الحدود البحرية الجنوبية السورية اللبنانية بمساحة 2250 كيلومتراً مربعاً.
العقد مدته حوالي ثلاثين عاما مقسم إلى مرحلتين الأولى: ثلاث سنوات للاستكشاف، يعقبها 25 عاما قابلة للتمديد تمثل مرحلة التنمية والتطوير والاستثمار.
يشير عدد من المراقبين اليوم إلى إن موسكو أثبتت أنها تحركت بذكاء لتأمين وجودها في منطقة الشرق الأوسط الحيوية من دون ضجيج؛ فبعد تدخلها العسكري في سوريا سنة 2015 ثم لاحقا في ليبيا، جاء تدخلها في ملف الصراع على غاز شرق المتوسط ليحولها إلى رقم أساسي في أي مفاوضات لرسم ملامح المنطقة في المستقبل، وهو ما سيكون له تأثير على التحالفات الإقليمية التي ستتشكل على هامش الصراع على الغاز في المستقبل.
المصدر: القدس العربي