بعد سنوات طويلة من “الشعب الواحد”، الذي هو جزء من “الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة”، صرنا فجأة “الشعب السوري بكل أديانه وطوائفه ومذاهبه وإثنياته”، العبارة التي تختصر عادة بـ”الشعب السوري بكل فئاته”.
وطبعاً “فئات” لا تعني العمال والفلاحين والمحامين والتجار. بل تعني: العرب، والأكراد، والسنة، والدروز، والمسيحيين، والعلويين.
ولقد صارت “بكل فئاته” لازمة نكررها في كل مناسبة وكل لا مناسبة. حتى أن مسؤول المياه في ريف دمشق صرح، منذ يومين، أن الخزان الجديد سوف يسقي جميع سكان البلدة الفلانية بكل فئاتهم دون تمييز!
ولا شك أن الرجل ينطلق، في تصريحه، من نوايا طيبة ومن فهم معين لمسؤوليته الوطنية، ومع ذلك فليشرح لنا عاقل هذه الجملة. ماذا يعني أن يسقي الخزان جميع سكان البلدة بكل طوائفهم ومذاهبهم؟ وهل يمكن أن يحدث العكس أصلًا؟ هل يمكن أن يصل أنبوب المياه إلى مسيحي دون أن يمر على جاره العلوي؟ وهل يمكن أن تنزل حنفية العربي ماء وتنزل حنفية الكردي هواء؟ هل تملأ المياه خزان سني وتستعصي على الخزان المجاور لأن صاحبه درزي؟!
وإذا كان الرجل قد حسم موضوع الماء اليوم، فماذا عن الكهرباء غدًا؟ هل ستكون الشبكة الجديدة لطائفة واحدة فقط؟ وماذا عن الإنترنت؟ هل سيتيح جميع المواقع لـ”فئة” ويحجبها كلها، أو بعضها، عن بقية “الفئات”؟ إثبات البدهيات، تأكيد المؤكد، أمر يثير السخرية حينًا والحنق أحياناً.
“الشعب السوري بكل فئاته”. طيب، لا بأس. لكن فئات الشعب السوري جميعها تنتمي إلى الجنس البشري، وبالتالي كلها تحتاج إلى الماء والكهرباء والإنترنت، وبالقدر نفسه تماماً.
لذلك ارحمونا هنا من ذكر “فئاته”، على الأقل لأن تعدادها صار مضجراً للغاية.
***
اعتدت، لسنوات عديدة أن أهرب من جاري في الحارة. هو قيادي بعثي سابق، رجل متجهم، صارم وجدي جداً، ومخلص لعقيدته، وعقيدته تتلخص ببساطة في أننا كي نهزم الأعداء (لم يحددهم مرة قط) علينا أن نكون دولة قوية متماسكة، يأخذنا رجل واحد في طريق واحد إلى هدف واحد. ولا مكان للأصوات الضعيفة المشككة ولا للرأي المخالف.
وبالطبع كان هناك خلفية فلسفية تاريخية تسند هذه العقيدة: فنحن شعب عربي عالمثالثي، وريث عهود طويلة من التخلف والفرقة، وبالتالي لا نُحكم إلا بالحديد والنار ولا ينفع معنا إلا “البوط” العسكري.
وفي سبيل هذه العقيدة كان يبرر كل شيء، فالذين تنكل بهم حواجز النظام ما هم إلا مجموعة من المخربين العاطلين، والذين تزدحم بهم المعتقلات لو كانوا في الخارج لأكلوا بعضهم بعضًا، وبالتأكيد لا بأس في أن تزهق أرواح آلاف أو عشرات آلاف مقابل أن تنعم الدولة بالاستقرار والازدهار.
وكان يكرر: “كي نتيح للسنابل أن تنمو وتثمر لا بد من اقتلاع العشب الضار من حولها”. يقولها محدقًا في وجهي بنظرة تثير في الاضطراب، إذ أعرف أنه يروزني متفكرًا فيما إذا كنت مشروع سنبلة مثمرة أم مجرد عشبة ضارة يجب اقتلاعها.
وليس لهذا فقط كنت أهرب منه، بل هناك سبب آخر، ذلك أنني ارتكبت خطأ فادحًا إذ قلت له مرة، ولم أكن في وعيي طبعًا، إن الحل هو الديمقراطية. ولكم أن تتخيلوا ماذا فعل بي. لقد أراني كل صنوف التنمر، وحولني إلى موضع سخرية، فصار اسمي في الحارة “أبو الديمقراطية”. “أبو الديمقراطية راح، أبو الديمقراطية أتى، ها هو أبو الديمقراطية يدخن”.
بعد سقوط النظام اختفى الرجل تمامًا، إلى أن شاهدته منذ بضعة أيام جالسًا على كرسي خشبي على ناصية الحارة، يدخن غليونه وهو سارح في الأفق. سألني:
– هل ترى كيف خربت الأمور؟
قلت:
– نعم.. الأسعار ونقص السيولة وبعض القرارات الإدارية.
قاطعني بفظاظة:
– ماذا تقول يا رجل؟ هذه كلها ترهات لا أهمية لها. الأهم هو الخطر المحدق بالحرية. بصراحة أنا قلق على مستقبل الديمقراطية في هذا البلد.
***
أدخل إلى الفيسبوك بحذر الخائف، وما هي إلا دقائق حتى أجدني متلهفًا إلى الخروج بسرعة. يصيبني بالإحباط والقلق، بل والذعر أحيانًا. وفي كل مرة أعود إلى ترديد العبارة نفسها التي قالها نجيب محفوظ على لسان الشيخ عبد ربه التائه: “إن نجونا فهي الرحمة، وإن هلكنا فهو العدل”.
المصدر: الترا سوريا