عانى عشرات آلاف السوريين من الاعتقال التعسّفي والتغييب والإخفاء القسري منذ بداية الوحدة مع مصر في العام 1958، لكنّ الأمر تفاقم مع انقلاب حزب البعث عام 1963، حيث ازدادت حالات التصفية والاعتقال لأسباب سياسية بشكل كبير. ومع انقلاب حافظ الأسد واستلامه السلطة عام 1970، انتقل الملف إلى مستوى جديد نوعياً وكمّياً، فقد أصبحت سياسة الاعتقال ممنهجةً، وتخضع لاعتباراتٍ كثيرة، وتحقق أهدافا كثيرة. وكان قمع نظام بشار ثورة عام 2011 نقلة جديدة في منهج والده. تحاول هذه المقالة التطرّق إلى هذا الملف، برسم خطوط عريضة قد تصلح نقطة انطلاق لمقاربة جدّية ونافعة.
لملف المعتقلين في سوريا طبيعة خاصّة، جعلت منه ورقة ابتزاز من نظام الأسد على جميع الأصعدة، فهو ورقة ضغط على المجتمع السوري، فإرهاب الأفراد والجماعات من موضوع الاعتقال سياسة ممنهجة، اتبعها النظام منذ استيلاء حافظ الأسد على الحكم، وتابعها وريثه بشار.
كما أنّه ورقة ابتزاز لأهالي المعتقلين، فقد شكّل هذا الملف مورد رزق لزبانية النظام من ضباط الأمن، ومن مرتزقة وحاشية محيطة بهم، وقد قدّرت رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا المبالغ التي ابتزّها هؤلاء من أهالي المعتقلين بمئات ملايين الدولارات. هو أخيراً ورقة ابتزاز خارجية بحقّ الدول، فثمّة رعايا لدول أجنبية معتقلون لدى النظام، يساوم عليهم سياسيا.
بقي ملف المعتقلين خارج أطر البحث والتفاوض، لأسبابٍ كثيرة ومعقّدة، منها عدم وجود معلومات دقيقة وإحصائيات موثوقة لأعداد المعتقلين وأماكن اعتقالهم ونقلهم ما بين الفروع الأمنية ومقارّ الاحتجاز ودور التوقيف والسجون والمعتقلات السرّية، وتواريخ اعتقالهم، وعدم امتلاك القدرة على التأكد من أعداد المتوفين منهم أو الذين قتلوا إعداماً أو تحت التعذيب، وعدم وجود أدوات للضغط على النظام بشأن ملف المعتقلين، فطبيعة النظام وطبيعة تعامله مع الملفّ تجعل أدوات التأثير في سلوكه والضغط عليه معدومة من السوريين ومن غيرهم.
هناك أيضاً عدم وجود إرادة دولية للتقدّم في هذا الملف، ما تبيّن في اعتباره ملفاً إنسانياً غير تفاوضي يجب التقدّم في إنهائه بمعزل عن المفاوضات أو تقدّم العملية السياسية، وهذا ما جعله ملفاً منسياً مركوناً على الرفّ. وكان انعدام قدرة المعارضة على مساومة النظام في هذا الملف بما لديها من أسرى أحد العوامل التي مكّنته من التمادي في سياسته تلك، فقد أثبت النظام عدم اكتراثه بأي أسير لدى المعارضة مهما كانت صفته أو رتبته. ويجب ألا ننسى قدرة النظام الدائمة على ممارسة الاعتقال، وبالتالي، عدم وجود أي وسيلةٍ لمنعه من إبقاء الملف وإعادة استغلاله.
تعود أسباب تراجع ملف المعتقلين في سجون النظام وقوى الأمر الواقع المختلفة لأسباب متعدّدة أيضاً، منها ما يتعلق بطبيعة الملف ذاته، ومنها ما يتعلق بالفاعلين الدوليين. كان لانقسام المجتمع الدولي تجاه الأزمة السورية أكبر الأثر في ملف المعتقلين، فحماية روسيا والصين نظام الأسد في مجلس الأمن، وعدم رغبة الدول بممارسة ضغوط حقيقية على النظام، منعا من إبقاء الملف مفتوحاً باستمرار. كذلك كان نقص المعلومات بشأن ملف المعتقلين قد تسبّب بانعدام القدرة على استثمار الملفّ إعلامياً. وبالتالي، تسبّب بانعدام القدرة على التأثير في الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي. وأخيراً، جعل انشغال الدول بحماية مصالحها وتثبيت مراكز وجودها في سورية ملفّ المعتقلين من آخر اهتماماتها.
نظراً إلى التعقيدات الكبيرة التي ترافق ملف المعتقلين لدى أجهزة النظام، ولدى بقية قوى الأمر الواقع، يمكن أن تتضمّن الحلول المقترحة لتحريك الملف عدّة خطوات، منها دعوة المنظمات السورية العاملة في مجال حقوق الإنسان وقضايا المعتقلين إلى عقد مؤتمر وطني خاص به، وإشراك أكبر عدد ممكن من المنظمات العربية والإقليمية والدولية العاملة في هذه المجالات للتنسيق معها والاستفادة من خبراتها، ثم يُصار إلى عقد المؤتمر سنويا أو كل نصف سنة، للاطلاع على أعمال لجنة المتابعة التي سيتم إنشاؤها في ختام المؤتمر وتقييم إنجازاتها.
يمكن إجمال مهام المؤتمر بوضع خطّة استراتيجية بعيدة المدى، وإنشاء لجنة متابعة لتنفيذها، وبقيّة توصيات المؤتمر، ومن ثمّ إنشاء لجنة خاصّة بأهالي المعتقلين وذويهم، وكذلك إطلاق حملة مناصرة عالمية وفق أسس علمية مدروسة بعناية، والاستعانة بخبرات المنظمات والأفراد المتخصصين بذلك.
سيكون من المهام الأساسية للجنة المتابعة إنشاء قاعدة بيانات خاصة بملفّ المعتقلين وتحديثها باستمرار، والتواصل مع الدول والمنظمات الدولية في كل ما يتعلّق بهذا الملف، للحصول منها على الدعم السياسي والإعلامي والتمويل والتسهيلات الأخرى المختلفة، وإطلاق حملات مناصرة منهجيّة مدروسة بهذا الشأن.
ستكون مهام هذه اللجنة متعدّدة، وعلى سبيل المثال، يمكنها التواصل مع ذوي المعتقلين والمفقودين لإطلاعهم على نتائج أعمال المؤتمر، كما عليها الاستفادة من معلوماتهم وتدقيقها وإدراجها ضمن قاعدة البيانات وتحديثها باستمرار، وتستطيع تقديم النصح والإرشاد وسبل الدعم المعنوي والمادي إن أمكن، ويمكنها نقل وجهات نظرهم إلى الدول والمنظمات الدولية والجهات الفاعلة في الملف. كما تستطيع اللجنة أخذ التقييمات والمراجعات النقدية منهم. ويجب التخطيط لحملة المناصرة جيدا، بحيث تكون مستمرّة لا تتوقف عند حد زمني، مدروسة من متخصصين في قضايا المناصرة، وشاملة ملف المعتقلين والمختفين والمغيّبين في جميع مناطق سورية وأمام جميع قوى الأمر الواقع.
هذه مقارباتٌ أوليةٌ لملفّ إنساني وسياسي معقّد جداً، وقد يكون من المفيد التركيز عليه في قادم الأيام بما يمكن أن يخفّف معاناة أصحابه وأهلهم.
المصدر: العربي الجديد