بحث
بحث
عملة من فئة الدولار الأمريكي - انترنت

دولرة الليرة السورية… اقتصاد حائر بسعر صرف لا يعترف به أحد

لم يعد الحديث في سوريا عن سعر صرف الدولار مجرّد مسألة تقنية محصورة بالمصارف أو التجار، بل أصبح جزءاً من الهمّ اليومي للمواطن السوري، ومعياراً يعكس مستوى معيشته ومدى استقرار حياته، ولو جزئياً، في بلدٍ يحاول طيّ صفحة الحرب وما خلّفته من إرثٍ ثقيل، إلّا أن وهم الاستقرار لا يكفي لنقول إنّنا بخير، في بلد يُقال فيه الكثير عن الأمن، ويُقال أكثر عن الاقتصاد، لكنّ ما لا يُقال هو أنّهما لا يملكان القدرة على الحياة إن تُركا منفصلين.

وفي ثنائية الأمن والاقتصاد، لا يمكن تجاهل خطوات الحكومة السورية في الملف الأمني، من عودة مظاهر الطمأنينة، وإرساء الحلول السلمية بدلاً من الانتقام، والحلول الدبلوماسية بدلاً من العنف واستخدام القوة، في نتائج فاقت التوقعات.

ولكن، هل يكفي هذا؟ أم أنه يبقى في دائرة الهشاشة إن لم تُبنَ تحته قاعدة اقتصادية صلبة؟ فلا أمن يدوم إذا لم تُشترَ السلع، ولا استقرار يتحقق إن بقيت الأسعار تُنطح السقف، و”الرواتب” الخجولة تجرجر نفسها، في بلدٍ يُذهلك بتناقضاته، من غلاءٍ يفوق التوقّعات في أسعار وإيجارات عقاراته، وارتفاع أسعار سلعه، أمام دخلٍ هو أقرب إلى الصفر المتحرّك، ما يجعل الأمن على حافةٍ قد تنهار سريعاً، لا قدّر الله.

الدولار بين تسعيرتَين

المفارقة أن مصرف سوريا المركزي حدّد سعر الدولار بـ11 ألف ليرة سورية، في حين يتداول الناس الدولار في السوق السوداء بسعر يتأرجح بين 9,500 و10,200 ليرة، في تفاوتٍ غريب بين السعر الرسمي وسعر السوق غير النظامية. فأيهما يملك القيمة الحقيقية؟ أمام امتناع المركزي عن بيع الدولار أو شرائه، وترك موازين العرض والطلب مفتوحة أمام السوق، فإن ذلك يدل صراحةً على أن المركزي لا يملك القدرة على مجاراة السوق، وأنه فقير بالقطع الأجنبي والعملة المحلية.

السعر المتداول لا يمكن أن يكون حقيقياً، وإلّا فأين إعلان الدولة عن تخفيض سعر الدولار؟ ولماذا لم يشعر به أحد؟ بل على العكس، فرغم التحسّن المزعوم، ما تزال الأسعار مرتفعة، ما يعني أن الدولار لا يُسعّر على أساس اقتصادي، فالميزان التجاري مختل تماماً على خلفية الواردات والصادرات، أمام انفتاح السوق السورية المتعطّشة للسلع وشرائها بالدولار، مقابل وارداتٍ متواضعة جداً حتّى اللحظة.

إذاً، السعر الرسمي الذي لا تعترف به السوق هو سعرٌ نظري، لا يُصرف به الدولار في الواقع، وبالتالي يصبح بلا قيمة عملية، ما قد يُضعف شرعية المؤسّسة النقدية، ويؤدي إلى فقدان ثقة المواطن والمستثمر، خصوصاً أن المركزي لا يوفّر الدولار، لا للمواطن ولا للمستورد، ما يدفع الجميع إلى التوجّه نحو السوق السوداء لتأمين العملة الصعبة، وبالتالي تعكس هذه السوق السعرَ الحقيقي الناتج عن العرض والطلب.

والمشكلة الكبرى تكمن في انعكاس هذا التفاوت على آلية التسعير: هل يجري التسعير على أساس السعر الرسمي أم سعر السوق؟ الباحث الاقتصادي ملهم جزماتي اعتبر أن الفجوة بين سعر الصرف في المصرف المركزي والسوق السوداء هي إحدى أشكال التشوّهات الاقتصادية، ودلالة على شح السيولة النقدية لدى المركزي، لذلك لا يستطيع شراء العملة الأجنبية بالسعر الأعلى الذي يحدّده بنفسه.

كما رأى أن تأثير هذه الفجوة يتمثل في اتساع رقعة الاقتصاد غير الرسمي، وتذبذبٍ مستمر لسعر صرف الليرة مقابل العملات الأجنبية، وبالتالي فقدان الثقة بالعملة المحلية، وتفضيل أكبر للاحتفاظ بالعملة الأجنبية، وفقدان المركزي السوري لدوره الأساسي ضابطاً للسوق النقدية في البلاد.

وأضاف أن هذه الحالة من شأنها إضعاف الثقة بالاقتصاد السوري على المدى البعيد من المستثمرين، الذين يرغبون بوجود هيكل إداري قادر على إدارة السياسة النقدية، واستمرار هذه الحالة سيثير الشكوك حول أهلية المركزي في أداء أدواره الاقتصادية التقليدية.

هل يعكس سعر الصرف عجز الدولة؟

لا تحتاج قراءة الواقع المعيشي للمواطن السوري، إلى أرقامٍ مبهرة أو تقارير أممية لتوصيفه. الراتب الشهري، في كثير من الحالات، لا يتجاوز مئة دولار، بينما إيجار غرفة واحدة قد يتخطّى هذا الرقم. الأسعار قد تقفز، ربما ليس بفعل ارتفاع الدولار، بل أحياناً بفعل الإشاعة، أو المزاج، أو انقطاع مادة معينة. الناس يأكلون أقل، يسافرون أقل، يضحكون أقل.

نعم، الحكومة تتحدث عن خطط ورؤى ومشاريع استثمارية وعلاقات اقتصادية خارجية، لكن المواطن لا يراها سوى وعود، قد تتحول إلى هواجس بشأن قدرة الدولة على أداء دورها بوصفها ضامناً اقتصادياً، وبأن الحكومة عاجزة عن ضبط السوق، وتوفير السلع والخدمات والطاقة، وحماية الرواتب من التآكل.

ولا بدّ من التذكير بأن سعر الصرف هو مؤشّر، لا على وضع العملة فحسب، بل على حال الاقتصاد كلّه، فعندما ترتفع الليرة في السوق السوداء، ليس بالضرورة أن يكون ذلك مدعاة للفرح أو التفاؤل، لأنها ظاهرة قد تكون نتيجة جمود اقتصادي، أو تباطؤ في الطلب على الدولار، أو تراجع في الاستيراد. إذاً، كلها مؤشرات على الركود لا على التعافي.

ما يعني، في قراءة أعمق، أن أدوات السياسة النقدية باتت تلهث خلف السوق بدل أن تقودها. فلا يخفى على المراقب الحصيف أن هذه الظاهرة لا تُقرأ بالأرقام وحدها، بل هي في عمقها تعبيرٌ عن خللٍ مزدوج في وظيفة الدولة ومنطق الاقتصاد.

فالسعر الرسمي، الذي لطالما اعتُبر أداة سيادية لضبط السوق، أصبح حبراً على ورق، بينما السوق الموازية، التي يُفترض أن تكون جريمة مالية، تحوّلت إلى ملاذٍ آمن للناس والمؤسّسات، وحتى لبعض دوائر الدولة نفسها.

ولا نعني بذلك رفع يد الدولة أو السيطرة بالقوة، بل الدعوة إلى إدارة السوق بأدوات رقابية حقيقية لضبط الأسعار ومنع التلاعب، إضافة إلى تعزيز ثقة المواطن بأن البنوك قادرة على تلبية احتياجات السوق من العملات الأجنبية والمحلية، بوصفها مؤسساتٍ فاعلة، وبشفافيةٍ تشجّع المغتربين على التحويل من خلال المصارف المعتمدة.

سوريا تعلن اعتمادها على مواردها

في تأكيدٍ لتصريحٍ سابق، أكد حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر حصرية أنّ بلاده لن تستدين من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، وأن سوريا، بأمرٍ من الرئيس الشرع، لن تلجأ إلى الديون الخارجية، مبرّراً الخطوة بسعي الحكومة لبناء اقتصادٍ صحي قائم على الإنتاج والصادرات، من دون الاعتماد على فوائد مرتفعة أو مغريات استثمارية محفوفة بالمخاطر.

تصريحٌ تُرفع له القبعة، كما يُقال، لكن أين هذه الموارد؟ إذا كان النفط خارج السيطرة، والزراعة، بصفتها مقوّماً من مقوّمات الاقتصاد السوري الرئيسية، تصارع الجفاف وتقنياتٍ منتهية الصلاحية، والصناعة في الرمق الأخير، والسياحة معطّلة، فما هي المقوّمات إذاً؟ وأين البيئة الاستثمارية المؤهلة لتوفير عوائد مستقرة للمستثمرين؟ وما هي ملامح استعادة النشاط الكامل لقطاعات الاستثمار التي صرّح بها المسؤول؟، فبعيداً عن الانتقاد المنفلت، هي مجرد أسئلة بسيطة، تضع المواطن أمام تناقض الخطاب الرسمي والواقع الاستثماري والمعيشي، ليتولّد ما هو أخطر من الفقر؛ وهو الشّك.

عند سؤال الأكاديمي والمحلل الاقتصادي فراس شعبو، قال إنّ القرار، من وجهة نظر اقتصادية، صحيح، والمشكلة ليست في الدَّين، فهناك دولٌ متقدمة وناشئة تتعامل بالدين، لكنها تستطيع إدارة هذا الدين واستثماره بوجود مؤسساتٍ قوية.

وأضاف أن المشكلة لدى الدول النامية تكمن في تحويل هذا الدين إلى مشاريع استهلاكية، لا إنتاجية، مثل مصر ولبنان وتونس، ما أغرقها بسبب الفوائد الكبيرة وعدم قدرتها على السداد.

وبالعودة إلى الواقع والسياق السوري، اعتبر شعبو أن الوضع قد لا يتوافق مع أي فكر اقتصادي، خصوصاً أن معظم الموارد تحتاج وقتاً أطول لإعادة تأهيلها واستثمارها، وبالتالي، سيسهم ضعف التمويلات والدعم الخارجي في إبطاء عملية التنمية وسرعة التعافي.

واعتبر أن القرارات الحكومة في الخصخصة، وفي دعم القطاع الخاص وتخفيف تدخل الحكومة، وإزالة الدعم عن المحروقات والخبر، وتحرير سعر الصرف، تتوافق مع شروط صندوق النقد الدولي، فإمكانية الاقتراض على شكل منح أو ديون ممكنة، ومطلوبة إن توجهت توجهاً صحيحاً في الاستثمار ودعم الإنتاج.

ويبقى سؤال المواطن السوري الأبرز؛ متى ستقرّر الحكومة السورية تبديل العملة التي ما تزال تذكّرهم بالنظام السابق، وإلى متى سيحملون أكياساً مكدّسة بالأوراق النقدية لشراء سلعة بسيطة؟

المصدر: العربي الجديد