تتهادى سيارة “اللادا” ببطء، من الجسر الأبيض، باتجاه شارع الحمرا، وينفث السائق دخان سيجارته، كلما أعادت أم كلثوم المقطع: “وعمري ما اشكي من حبك مهما غرامك لوّعني..”، في حين يبدو السائق الأربعيني، في أعلى درجات “السلطنة”، وهو يؤكد حنينه لماضٍ، لا مكان لنشرات الأخبار فيه، ويقول: “15 عاماً من الحرب، أهرمتنا يا أخي.. ألا يحق لنا ساعة صفا؟”.
نخبره بأن ما يشعر به، يسمى النوستالجيا، أو الحنين للماضي، التي تعصف بالإنسان، عندما تشتد عليه الضغوط. فيبتسم، متمنياً عدم إعطاء الموضوع أبعاداً سياسية أو فلسفية، ويصف الحالة بالنزوع للراحة الفردية والشعور بأنه يعيش حياة طبيعية، أسوة بالبشر في بقية البلدان.
النوستالجيا، أصبحت “متلازمة” تستحق الدراسة، في حياة السوريين. في الطقوس اليومية، واللباس وزيارة الأمكنة، يبدو الناس مشغولين باستعادة شيء مفقود، سلبهم سكينتهم، لكنهم لا يعرفون تحديده تماماً. في ظل وضع اقتصادي متهالك، وفقدان مقربين كثيرين قتلوا في أثناء الحرب.
نوستالجيا نسيان ويلات الحرب، والشعور بالأمن والاستقرار، تصطدم بالعديد من العوائق، فعائلة “إياد” المغرمة بزيارة منطقة “الربوة” قبل الحرب، كل يوم جمعة، اضطرت اليوم إلى تعديل مشروعها، بسبب غلاء الأسعار في مطعم “أبو وحيد”، المحبذ لأفراد العائلة، لتقتصر الزيارة، على حمل بعض الأكلات المنزلية، واستئجار عدة كراس على ضفة النهر، من أجل قضاء يوم متقشف، لكنه مليء بالحنين.
يقول إياد: “النوستالجيا الخاصة بنا، أصبحت نحيفة، مختصرة، لكنها تفي بغرض الهروب من الآلام والخوف الذي عشناه سابقاً، نريد أن نشعر بأن الحياة طبيعية فقط، فهل هذا كثير؟”.
ومع انحسار مستوى مياه نبع الفيجة، لأدنى مستوياتها، بسبب قلة الأمطار، أصبح نهر بردى ساقية صغيرة مليئة بالمخلفات، وهو ما جعل نوستالجيا إياد وعائلته، في موقف لا تحسد عليه.
النوستالجيا.. السوريون يلتقطون أنفاسهم
تقول الباحثة الاجتماعية أليسار فندي: “إنها حالة تدرس في نفسيات الشعوب، بعد تعرضها لهزات مهولة من العنف والقسوة. سلوك يشبه التقاط الأنفاس وشحذ النفس من جديد، بهدف الحصول على توازن الشخصية، حتى ولو تم الأمر على كومة من الخراب.
وهذه النوستالجيا السورية، لا تقتصر على زيارة الأماكن والاستماع للأغنيات القديمة، بل تشمل العودة إلى إحياء علاقات الحب القديمة، التي عصف بها الفراق في أثناء الحرب. وإن أسوأ ما يصيب المرء، هو فقدان مقومات الشعور بنوستالجياه الخاصة، نتيجة غياب الأشخاص ودمار المعالم، وتبدل المشهد الذي ستعتمد عليه النوستالجيا، حتى تؤدي مهمتها في نقل الإنسان للسكينة”.
العودة إلى الدراما السورية ما قبل الحرب
هرع السوريون إلى جوانب مختلفة، لإحياء حديقة النوستالجيا الخاصة بهم، فعاد بعضهم إلى الدراما السورية ما قبل الحرب، وكانت مسلسلات شهيرة مثل “ضيعة ضايعة” و”الفصول الأربعة” و”الزير سالم”، نوستالجيا غير مكلفة، تتطلب فقط اتصالاً جيداً بالإنترنت، من أجل مشاهدة مسلسلات، هرم أبطالها اليوم، لكنها في ذلك الوقت، حصدت متابعات جماهيرية كبيرة.
تؤكد “أم علي”، أن أبناءها يضحكون عليها من كل قلبهم، وهم يشاهدونها تضحك، على حلقات المسلسل الكرتوني الشهير “توم وجيري”، الذي تتابعه يومياً، في حين لا يمانع زوجها من مشاهدة “جزيرة الكنز” وأغنيتها الشهيرة “سبعة عشر رجلاً ماتوا من أجل صندوق”. ويقولان: “نبحث عن طفولة فرّت من بين أصابعنا، خلال 15 عاماً من القلق والخوف”.
“تعا ننسى.. تعا ننسى.. أيام اللي راحت”، للراحل ملحم بركات، تصدح في أرض حديقة الجيران، في حين تقوم ابنتهم بشطف البلاط وسقاية النباتات العطشى.. تتبعها أغنيات عصام رجي وطوني حنا، التي ازدهرت منذ عقود. ابنة الجيران “سارا”، غدر بها العمر، وشعرت بأنها تجاوزت الأربعين فجأة بغمضة عين، تؤكد أن أحلى سنين عمرها ذهبت سدى بسبب الأحداث.
وتقول: “النظام البائد حرمنا كل شيء، حتى متعة نبش الذاكرة، فمنذ أن كان عمري 30 عاماً، دخلت في حالة تشبه الكوما، ثم استيقظت لأتفاجأ أنني أصبحت في الـ45! والآن ليس لدي سوى أغنيات بركات وحنا ورجي، لأشعر ببعض ما كان ينتابني في ذلك العمر”.
الجميع يتمنون، لو بإمكانهم شطب تاريخ 15 عاماً من الحرب والخراب. لكن تمزيق مجموعة أوراق من التقويم، لا يعني إعادة الزمن للوراء، تعترف “يارا”، بتلك الحقيقة بحزن، وتتمنى أن تعود يافعة صغيرة، تمشط شعرها على أنغام أغنية فيروز “يارا الجدايلها شقر.. فيهم بيتمرجح عمر”، وتقول: “لقد قصّوا الجدايل، والعمر هوى على الأرض، وأنا اليوم أستخدم صبغات الشعر، والجدائل الاصطناعية، حتى أعطي ذلك الحنين، نوعاً من الواقعية”.
نوستالجيا من ماتوا!
نوستالجيا استعادة الأشخاص الميتين خلال الحرب، تعتبر الأصعب. فمن تمتلك جثته شاهدة قبر معلوم، يمكن زيارته في أيام الضيق، عندما تلح النوستالجيا، بالطرق على باب الحنين للماضي والانسلاخ عن الواقع، فالنوستالجيا عندهم، عبارة عن حفرة تضمّ كل الحياة السابقة، لكن هيهات، كيف يمكن الوصول إليها؟.
هذا النوع من النوستالجيا، عصف بالأطفال على نحو خاص، فمن كان عمره في بداية الحرب 5 سنوات، أنهاها وهو في الـ20، فكيف سيعثر على أشلاء أمه التي أودت بها قذيفة هاون في سوق الخضار بحي كشكول؟ يقول سامر: “ذراع واحدة، وكمشة أحشاء، وقطع متناثرة، هي كل ما تمكنا من الحصول عليه، قبل أن ندفن أمي، ولم أكن أفهم من ذلك شيئاً، لكنني أستوعبه الآن”.
رغم أن مصطلح “نوستالجيا”، يُعرف بأنه “ألم العودة للوطن”، إلا أن هذه الكلمة التي صاغها الطبيب السويسري يوهانس هوفر، عام 1688، تشعبت معانيها كثيراً، وباتت تستخدم لكل ما يتصل بالحنين للماضي. وتؤكد الأبحاث الطبية أن الذكريات الإيجابية، تساعد على إفراز الإندورفين، الذي يحسن المزاج ويشعرنا بالسعادة. هكذا يبدو السوريون، بحاجة لـ”كوكتيل” من النوستالجيا، القادرة على تجاوز سنين الحرب، وتحويل “ألم العودة للوطن”، إلى “سعادة الرجوع للبلاد”، كما نحبها أن تكون.. ونشتهي!.
المصدر: تلفزيون سوريا