في ظل التطورات الجديدة التي تشهدها الساحة القضائية السورية، أعلنت وزارة العدل تحديد اليوم الاثنين موعداً أخيراً لمقابلة القضاة المنشقين عن النظام السابق، والراغبين في العودة إلى سلك القضاء، في خطوة تهدف إلى احتضان الكفاءات القضائية وإتاحة الفرصة لمن فاتهم الموعد السابق في 4 آذار الماضي، وفي إطار الجهود الرامية إلى إعادة تفعيل المحاكم المتوقفة عن العمل.
وتشترط الوزارة على الراغبين بالعودة تقديم طلباتهم واجتياز مقابلة تقييمية والتعهد بعدم الانتماء لأي جهة سياسية، بالإضافة إلى الخضوع لفحص أمني دقيق.
وتفاوتت آراء الخبراء والقانونيين في تقييم هذه التطورات؛ إذ يرى البعض أن عودة المنشقين تمثل فرصة لإعادة اللحمة إلى الجسم القضائي، بينما حذر آخرون من ضرورة وجود آلية تقييم مستقلة تضم ممثلين عن منظمات حقوقية، ويشيد محامون بقرار مقاطعة أحد القضاة في حلب باعتبارها خطوة هامة في تعزيز الرقابة المجتمعية.
ويقول القاضي مأمون العفيف من السويداء، والذي أعلن انشقاقه عام 2012، لـ “العربي الجديد”، إن هذه الخطوة تمثل فرصة ذهبية لإعادة اللحمة إلى الجسم القضائي. الكثير من المنشقين كانوا ضحايا ظروف قسرية وليسوا جزءاً من منظومة الفساد.
يضيف: “العبرة ليست بالانشقاق. فالقاضي لم ينشق لغاية الحصول على امتياز، إنما نتيجة موقف واعتراض على الفساد القضائي في زمن النظام المخلوع”. ويشدد على ضرورة إرفاق آلية رقابية صارمة منعاً لتسلل عناصر كانت جزءاً من منظومة القمع الأسدية سابقاً.
وعن المخاطر المحتملة، بحسب العفيف، تتمثل في محاولات استغلال القرارات لأغراض سياسية لصعوبة التوثيق في ظل ضعف الأرشيف. ويرى أن ضمانات النجاح تأتي من خلال تطبيق الشفافية الكاملة في عمليات التقييم، وإشراك المجتمع المدني في الرقابة من خلال بناء نظام رقابي مستقل، معتبراً أن “الإصلاح الحقيقي يحتاج إلى جرأة في المحاسبة وعدالة في الفرص”.
ويقول إن هذه المبادرات تشكل نواة لإصلاح حقيقي، لكنها تحتاج إلى دعم رسمي ومجتمعي.
من جهتها، ترى الحقوقية لينا أبو حرب أن الإدارة الجديدة تحتاج إلى كفاءات وقضاة يساهمون في سدّ النقص العددي في المحاكم، محذرة من دخول من فصلوا قبل عام 2011 لأسباب أخلاقية ومهنية. فهؤلاء قد يدعون أنهم انشقوا، ما يلزم التوثيق.
وفي سياق متصل، سجلت نقابة المحامين في حلب سابقة تاريخية بقرارها مقاطعة أحد القضاة المشتبه في تورطه في انتهاكات وجرائم ضد الشعب السوري، ويدعى حسين فرحو. وكتب المحامي عارف الشعال على صفحته على “فيسبوك”، أن “هذا القرار الجريء يهدف إلى إعادة الهيبة للنقابة بعد عقود من السيطرة الأمنية، ويشكل ضغطاً على مجلس القضاء الأعلى للإسراع في مساءلة القضاة المتورطين في انتهاكات وجرائم ضد الشعب السوري.
أضاف أن هذا القرار يعيد للنقابة دورها الحقيقي رقيباً على العدالة. ولن نسمح باستمرار من تسببوا بمعاناة الشعب”. واعتبر أنه قرار شجاع يضع النقابة في موقعها الطبيعي سلطةً رقابية، آملا أن يمتد إلى كل المحاكم.
إلى ذلك، يقول المحامي عمار عز الدين، لـ “العربي الجديد”، إن هذه التطورات تشكل اختباراً حقيقياً لإرادة الإصلاح في سورية، وإن النجاح يتطلب الموازنة بين العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية الحقيقية، والحفاظ على استقلالية القرار القضائي، وبناء ثقة المجتمع بالمؤسسات العدلية.
ويضيف: “نحمل ماضياً ثقيلاً، لكننا نريد بناء مستقبل يليق بأبناء سورية، وهذه القرارات تمثل بداية الطريق فقط.
ويتخوف أحد القضاة الذين بقوا خلال فترة النظام على رأس عملهم من أن تصبح هذه الخطوة سابقة خطيرة، متسائلاً عن الضمانة بألا يستغل بعض القضاة المنشقين هذه الفرصة لتصفية حسابات شخصية.
ويضيف في حديثه لـ “العربي الجديد” أن بعضهم يحمل روح الانتقام بعد سنوات المنفى. “الأجدر بنا التركيز على تخريج جيل جديد من القضاة بعيداً عن صراعات الماضي”.
ويصف القرار بـ “المتسرع”، قائلاً: “لدينا عشرات القضاة الشباب المؤهلين والعاطلين عن العمل. لماذا نستورد مشاكل الماضي بينما يمكننا بناء نظام قضائي جديد من الصفر؟.
وعن قرار نقابة حلب، يقول القاضي لـ “العربي الجديد” إنه قد “يكون سيفاً ذا حدين. نعم هو خطوة شجاعة، لكنه يفتح الباب أمام استخدام المقاطعة كسلاح سياسي”.
ويشير إلى أن “المفارقة أن بعض المنشقين كانوا أكثر قسوة من قضاة النظام. لا يجب أن ننسى أن الانشقاق لم يكن دائماً بدافع المبادئ، بل أحياناً بسبب خلافات شخصية أو صراعات على النفوذ، وكنا نتمنى أن تبدأ الإصلاحات بإقرار قانون جديد للسلطة القضائية يضمن استقلاليتها فعلاً، قبل استعادة العناصر القديمة بغض النظر عن انتماءاتها.
وتأتي هذه التطورات في سياق التحولات الجارية في المنظومة القضائية السورية التي عانت لعقود من التدخل الأمني والسياسي. وتشهد نقابات عدة للمحامين مبادرات إصلاحية مثل لجنة رصد انتهاكات حقوق الإنسان في درعا، ومشروع العدالة الانتقالية في حمص، إلا أن التحديات لا تزال قائمة، أبرزها محاولات استغلال القرارات لأغراض سياسية ومقاومة عناصر النظام السابق، ما يتطلب ضمانات نجاح أهمها الشفافية الكاملة ومشاركة المجتمع المدني وبناء نظام رقابي مستقل.
وكانت وزارة العدل السورية قد قررت في شباط الماضي إحالة 87 قاضياً نشرت أسماءهم وطبيعة عملهم، وهم ممن زاولوا مهام قضائية ضمن محكمة “قضايا الإرهاب”، إلى التحقيق.
وتضمن القرار إحالة قضاة إلى التحقيق ممن تسلموا مهام مختلفة في “محكمة الإرهاب” منذ تأسيسها في عام 2013. ورغم إعادة فتح المحاكم منذ مطلع العام الحالي في سورية، إلّا أنّ العمل القضائي ما زال شبه متوقف.
وبشأن قضاة التحقيق والإحالة وبداية الجزاء واستئناف الجنح والجنايات، فالعمل متوقف بالكامل لناحية تسجيل أي دعاوى أو إصدار أي أحكام قضائية في دعاوى سابقة، وفق ما جاء في صفحة “كل ما يهم القضاة والمحامين” على “فيسبوك”.
ويقتصر الأمر على إحالة شكاوى شخصيّة آنيّة وإحالتها إلى أقسام الشرطة. أمّا بالنسبة للقضاء المدني، فلا إصدار لأية أحكام قضائية فاصلة في الدعاوى المدنيّة السابقة لدى غالبية المحاكم.
وتقتصر غالبية العمل على تأجيل مواعيد الجلسات وتسجيل بعض الدعاوى الجديدة، مع توقّف تسجيل أي إشارة دعوى عينية عقارية على صحيفة أي عقار حتى تاريخه، إضافة إلى وجود مشكلة في عمليّة تبليغ الأطراف لدى أغلب المحاكم.
المصدر: العربي الجديد