بدايةً، لإزالة أي لَبسٍ ناجمٍ عن العنوان، لا نقصد به رفضاً مطلقاً للخصخصة كأداةٍ من أدوات إصلاح السياسة الاقتصادية في سوريا.
بل، ونقرّ، جزئياً، بصحة ما يقوله فريق من المتخصصين الاقتصاديين المتحمسين للَبرلِة الاقتصاد السوري، بأن حالة الإفلاس شبه الكامل في خزينة الدولة، تجعل سوريا أمام خيار لا مناص منه، باتجاه الخصخصة الجزئية أو الكلية لمؤسسات القطاع العام المتهالكة والفاشلة في غالبيتها العظمى. لكن، يبقى “الشيطان في التفاصيل”.
وقد تقصدنا استخدام كلمات ذات إيحاء ديني في العنوان، علّه يفلح في جذب “أخوتنا” في الإدارة السورية الجديدة، فتصل النصيحة إلى غايتها. وذلك إن أرادوا أن يفلحوا في “الدنيا قبل الآخرة”.
وكتوطئة للموضوع المُراد، نحن مضطرون لامتداح تلك الإطلالة الموفّقة لوزير الخارجية، أسعد الشيباني، في منتدى دافوس السويسري، قبل أيام. ونقرّ بأنه أجاد في الترويج لسوريا جذّابة، أمام قادة دول ورجال أعمال ومدراء تنفيذيين دوليين.
هذه التوطئة “المادحة”، كانت ضرورية كي لا يعتقد “أخوتنا” في الإدارة السورية الجديدة، أننا مجرّد متصيّدين للأخطاء، ومتحرّين عن السقطات.
وبعد هذه التوطئة الاضطرارية، نرجو أن يكون من المتاح قراءة ما سيأتي بعقل مفتوح، لا بموقف مسبق من أي شخص خارج “الفريق المنسجم”، الذي ترفض الإدارة السورية الجديدة الركون إلا إليه.
فـ”جهود الخصخصة”، التي تركّز عليها “الحكومة الجديدة”، وفق تصريحات الشيباني لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، قبل أيام، ليست قضية اقتصادية صرفة، بل هي أساس لشكل الحكم وبنيته العميقة، في سوريا المستقبل.
ومن غير المقبول اتخاذ قرارات باتجاهها، من دون تشاركية واسعة النطاق، مستندة إلى هيئة تمثيلية مُنتخبة. وفي ظروف تتوفر فيها درجة كافية من الحوكمة والشفافية والقدرة على مساءلة السلطة، ودرجة مقبولة من إنفاذ القانون وفعالية القضاء واستقلاليته.
سوى ذلك، فالخصخصة حينها ستكون مدخلاً لولادة “أوليغارشية- سلطوية” جديدة، تستنسخ تجربة بشار الأسد ذاته. وهي وصفة قاتلة، لكارثة اقتصادية- اجتماعية جديدة، في بلدٍ لا يتحمّل كوارث أخرى من هذا النوع. إذ أن سياسات الأسد الابن، الاقتصادية تحديداً، في العقدين ونيف الفائتين، كانت هي الأسباب العميقة لانفجار البلاد وانحدارها إلى ما وصلت إليه اليوم. وخصخصة جوانب من القطاع العام، لصالح ثلة من المقرّبين منه، أو لدول حليفة -روسيا وإيران- كانت من أبرز الميكانيزمات التي أدت تدريجياً، إلى انفضاض الحاضنة الموالية له، عنه. وصولاً إلى سقوط نظامه المدوّي في 8 كانون الأول الفائت.
وفي ذلك نحيل إلى دراسة ضخمة، صدرت عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، عام 2016، بحثت في سياسات الخصخصة وتجاربها العالمية والعربية، وخلصت إلى جملة نتائج.
من أبرزها، أن الكفاءة في أداء منشأة اقتصادية ما، لا يتوقف على نوع الملكية (عامة أم خاصة)، بل على البيئة المؤسسية التي تعمل المنشأة في ظلها، والقدرة على الخضوع لقواعد المنافسة في السوق. وتشير الدراسة إلى أن ضعف كفاءة المنشآت العامة مقارنة بالمنشآت الخاصة، لا يعود إلى نوع الملكية، وإنما إلى الفساد والتدخلات السياسية.
وبالإحالة إلى الفساد، نؤيد الشيباني في استلهامه للنموذج السنغافوري، بصورة خاصة. فهو الأنسب بالفعل، للحالة السورية.
لكن لا نعرف إن كان وزير الخارجية قد اطلع على ركائز نهضة سنغافورة، والتي لا تنحصر فقط في فتح الأبواب أمام رجال الأعمال، بل رافق ذلك أيضاً مكافحة الفساد إلى أقصى درجة ممكنة، بالتزامن مع اختيار أصحاب المناصب بناءً على الجدارة والاستحقاق، لا بناءً على الولاء و”الانسجام”.
ومن أبرز تجارب الخصخصة التي مُنيت بنتائج مأساوية، تلك التي حدثت في روسيا، في تسعينات القرن الماضي، وطالت ما يقرب من 45 ألف مؤسسة حكومية.
يومها انتهجت السلطات مبدأ الخصخصة المتسرّعة، واعتمدت طريق الإصلاح الاقتصادي بالصدمة، والعبور السريع إلى اقتصاد السوق بضربة واحدة، والتعجيل بتصفية النظام الاقتصادي القديم، وتحرير الأسعار من القيود لتفادي النقص في المنتوجات.
فكانت الحصيلة نهب ثروات وموارد البلاد، لصالح حفنة من المدراء التنفيذيين السابقين، الذين أصبحوا أقلية ثرية مؤثّرة في حكم البلاد، مع إفقار شريحة واسعة من الشعب بصورة جعلته يترحم على أيام “الشيوعية” في عهد الاتحاد السوفياتي.
في الدراسة التي أشرنا إليها أعلاه، تم البحث مطوّلاً في تجربة “دول الأداء العالي الآسيوية”، التي خاضت تجارب خصخصة ناجحة، دفعت إلى نمو وتنمية اقتصادية مميزة.
وهي تجارب تثبت عدم صوابية التطرّف باتجاه أصولية اقتصاد السوق. في الوقت ذاته الذي تثبت فيه عدم صوابية التطرّف بالاتجاه المعاكس القائل بملكية الدولة لوسائل الإنتاج.
وما بين الأصوليتين، اختطت “اقتصادات الأداء العالي الآسيوية” مساراً خاصاً بها، استند إلى جملة عناصر، أبرزها الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، وضبط الأسعار، وتعزيز عوامل الثقة بالنظام المصرفي، ونقل التكنولوجيا وتوطينها، ودور القادة التكنوقراطيين الكفوئين، والاهتمام بالتعليم.
وارتكزت هذه التجارب إلى ثلاثية: قواعد السوق، والتدرّج في الإصلاح الاقتصادي، والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية بصورة مضبوطة قانونياً.
في الختام، ليست الخصخصة بحد ذاتها، هي “الشيطان”. بل “الشيطان” يكمن في تفاصيلها.
متى وكيف تتم؟ في حالتنا بسوريا، نحن بحاجة للتوقيت المناسب والكيفية الملائمة لدرء “شيطان” الخصخصة. وإلا، فإن “بشار الأسد” سيُبعث من جديد، بحلّةٍ جديدة.
المصدر – جريدة “المدن” اللبنانية