تواجه سوريا مخاطر أزمة تصعيد عسكري من عدة جبهات على خلفية الحرب الدائرة في غزة، إذ كثّفت إسرائيل هجماتها على مواقع موالية لميليشيات مرتبطة بإيران ودخلت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى الجبهة ذاتها، فيما تشهد مناطق شمال غرب سوريا مواجهات متفرقة بين قوات النظام السوري وفصائل المعارضة، إضافة لتصعيد تركي على مناطق الشرق السوري الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديموقراطية.
في ظل الاضطراب الذي تشهده المنطقة، أضحت الجهود الدولية المكرسة لاحتواء القتال في الأراضي السورية أمراً لازماً، إذ لابد لحمام دم استمر لأكثر من عقد أن ينتهي نهاية دبلوماسية، ثم إن ديمومة الهدنة في غزة قد تهدئ الأوضاع في سوريا بشكل كبير، وأن تضعف التوتر بين القوى الأجنبية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران التي تعتمد على وكلائها، بما أنها جميعاً تنشط عسكرياً داخل سوريا، حسب ترجمة موقع تلفزيون سوريا للتقرير الذي نشرته وكالة رويترز الخميس 7 شباط الحالي.
وفي حمص الواقعة غرباً أسفر هجوم بمسيرة لم يُعرف من شنّه عن مقتل وإصابة العشرات من طلاب الكلية الحربية وأهلهم وغيرهم في حفل تخرج أقيم بالأكاديمية العسكرية في الخامس من تشرين الأول الماضي، فما كان من جيش النظام السوري والقوات الروسية التي تدعم بشار الأسد إلا أن انتقمت عبر الإغارة على ما لا يقل عن 2300 موقع في شمال غربي سوريا حيث تسيطر المعارضة، وضمت تلك المواقع مدارس ومشافي وأسواقاً ومخيمات للنازحين. وقد تسبب ذلك بنزوح 120 ألف شخص معظمهم نزح عدة مرات، وبينهم من نزحوا بسبب الزلزال الهائل الذي وقع في شباط الماضي. كما أدى ذلك إلى مقتل أو إصابة ما لا يقل عن خمسمئة مدني في الحوادث التي وقعت منذ شهر تشرين الأول الفائت.
شملت الأسلحة المستخدمة الذخيرة العنقودية المحرمة دولياً، فيما يعتبر استمراراً للنهج المدمر الذي جرى توثيقه منذ بداية الحرب السورية في عام 2011. بيد أن هذه الاكتشافات كانت تثير موجة سخط وغضب واسعة، إذن ما الذي اختلف الآن؟ أصبح اهتمام العالم منصباً على مكان آخر.
زاد تنظيم داعش من نشاطه المدمر في الداخل السوري، إذ صار يهاجم مواقع مدنية وعسكرية على حد سواء، في مواصلة لإبراز إمكانياته في مجال تنفيذ العمليات ولاستعراض أيديولوجيته المتطرفة.
وفي هذه الأثناء تزيد تركيا في شمال شرقي سوريا من عملياتها ضد قوات سوريا الديمقراطية المرتبطة بأنشطة إرهابية على الأراضي التركية، كما حاربت “قسد” العشائر العربية في دير الزور في نزاع غذّته مظالم وأحقاد قديمة بسبب عدم توفير الإدارة المحلية الكردية للخدمات والحقوق الأساسية، وقد بقي عدد الضحايا بين صفوف المدنيين في هذا النزاع مجهولاً.
والمرعب أكثر من ذلك هو التوتر الإقليمي المتصاعد والذي نتج عن المذبحة في غزة وأدى لزيادة الهجمات على الأراضي السورية من طرف إسرائيل والميليشيات الإيرانية، فقد تعرضت القواعد الأميركية في سوريا لأكثر من 50 هجمة على يد ميليشيات منذ شهر تشرين الأول الماضي. وقبل فترة طويلة من هجوم 28 من كانون الثاني في الأردن الذي أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أميركيين، نفذت الولايات المتحدة ضربات انتقامية على مقار تابعة لجماعات مرتبطة بإيران، كما أدى مقتل الجنود الأميركيين في الأردن إلى موجة جديدة من الهجمات الانتقامية الأميركية في سوريا والعراق واليمن، ما خلق حالة تخوف من قيام نزاع أوسع.
في هذه الأثناء خرج المطاران المدنيان في سوريا عن الخدمة بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية التي يزعمون أنها تستهدف المقار التابعة لإيران ظاهرياً، بيد أن الحاجة ماسة لهذين المطارين من أجل تسليم المساعدات الإنسانية.
وفي خضم كل ذلك، يعيش السوريون محنة متصاعدة لا تطاق، إذ بات نحو 17 مليون نسمة من الشعب السوري بحاجة إلى مساعدات إنسانية على رأسها الغذاء والماء والرعاية الصحية، بيد أن تسليم المساعدات ما يزال معلقاً على شعرة ويعتمد على اعتباطية النظام السوري وادعاءات أن العقوبات تعيق وصول المساعدات. وفي هذه الأثناء، ثمة نقص كبير في التمويل الذي تقدمه الجهات المانحة وهذا ما أجبر برنامج الغذاء العالمي على تعليق مساعداته الغذائية المنتظمة في سوريا، وجعل ملايين السوريين تحت رحمة الجوع.
حصدت الحرب السورية التي تعتبر من أشد الحروب وحشية في هذا القرن أرواح أكثر من 300 ألف إنسان في سوريا خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، ولهذا لا عجب أن يصل عدد طالبي اللجوء من السوريين في أوروبا خلال شهر تشرين الأول إلى أعلى مستوى له خلال سبع سنوات.
ولكن حالياً، يبدو أن كل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تفصل فيها المحكمة الجنائية الدولية قد ارتكبت في سوريا: مثل الاستهداف المتعمد للمشافي وللعاملين في القطاع الصحي، والهجمات المباشرة والعشوائية التي تقصف المدنيين، وبعضها يتم بالأسلحة الكيماوية، وكل ذلك تحت ستار محاربة الإرهابيين، فضلاً عن الإعدامات الميدانية والتعذيب والإخفاء القسري للآلاف من الناس، أضف لذلك الإبادة التي لم يتحدث عنها أحد والتي طالت الإيزيديين خلال الفترة التي حكم فيها تنظيم الدولة لأجزاء من سوريا.
ولهذا يتعين على الدول الأعضاء أن تعجل باتخاذ إجراء ينهي هذه النزعة المخيفة. إذ في شهر تشرين الثاني الماضي، أصدرت محكمة العدل الدولية أمراً يقضي بإنهاء التعذيب في سوريا، وخلال السنوات القليلة الماضية، دان مدعون عامون مجتهدون في أوروبا أكثر من 50 متهماً بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في سوريا، وينبغي مواصلة تلك الجهود ودعمها وتوسيعها لتشمل الجرائم التي ترتكب في كل مكان وليس فقط في سوريا
في هذه الأثناء، يمكن للانتهاكات الفظيعة أن تنتهي في حال توقف القتال، ولهذا نناشد المجتمع الدولي ألا يصرف نظره عن الأزمة السورية، وذلك لأن سوريا باتت بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى دبلوماسيين شجعان، ومانحين جريئين، ومدعين عامين عقدوا العزم على المحاسبة، ولكن قبل أي شيء آخر، تحتاج سوريا لوقف إطلاق نار شامل في كل المناطق بعد مرور نحو 13 عاماً على النزاع.
