حددت روسيا لنفسها مهمة مشتركة مع إيران لطرد الولايات المتحدة من سوريا أو بالأحرى من الشرق الأوسط بأكمله، وتسبب للغزو الروسي الشامل لأوكرانيا وما تلاه من تنامي التوافق مع طهران تأثير معاكس، إذ أنّ الوجود الأميركي في المنطقة آخذ في الازدياد بحسب دراسة أخيرة نشرها موقع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
وتوضح الدراسة أنه بات للولايات المتحدة مبررها الواضح لمواصلة حملتها في سوريا فكلما تورطت روسيا في الشرق الأوسط بات التعامل مع أوكرانيا أكثر صعوبة بالنسبة لموسكو.
كما أن الوضع داخل سوريا نفسها آخذ في التصاعد وروسيا تتعامل أيضا مع مشاكل دمج قوات فاغنر المتبقية وسط القوات المسلحة الروسية هناك، بعد تفكيكها والموت الدراماتيكي لقائدها يفغيني بريغوجين.
هذه الصعوبات المتزايدة باتت تحول البلد الذي مزقته الحرب إلى صداع لموسكو، وتقوض الآمال بأن سوريا لن تصرف انتباه القيادة الروسية عن الحرب في أوكرانيا.
وكثفت روسيا أنشطتها في سماء سوريا منذ آذار الفائت فبالإضافة إلى الضربات ضد المسلحين، يجري توجيه هذا النشاط ضد القوات الأميركية المتواجدة في البلاد والطائرات المقاتلة والمسيرات الروسية تحلق فوق المنشآت العسكرية الأميركية خلافا للاتفاقات بين القوتين التي تحدد مجال الطيران.
وأبلغ الجيش الأميركي مراراً عن مناورات خطرة قام بها طيارو القوات الجوية الروسية، بينما يدعي الجيش الروسي بدوره أن الحوادث في السماء ناتجة عن انتهاك الأميركيين للاتفاقيات.
واحتوت الولايات المتحدة جزءا من مهمة القوات الروسية في سوريا ولكنها في السابق كانت مسؤولية القوات البحرية إلى حد كبير.
وتضطر موسكو إلى تحويل التركيز إلى الطيران حيث لا يكاد توجد أي سفن روسية متبقية في البحر الأبيض المتوسط بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وإغلاق تركيا مضيق البوسفور أمام السفن العسكرية ما عزل أسطول البحر الأسود الروسي عن سوريا.
تنسيق مع إيران
تزامنت الزيادة في الحوادث بين الطائرات الحربية الروسية والأميركية مع تصاعد الاشتباكات بين الأميركيين ووكلاء إيران في سوريا، لذا لجأت كل من طهران وموسكو لتنسيق تحركاتهما في إطار جهد مشترك لطرد واشنطن من المنطقة، فيما يضغط الطيران الروسي على الولايات المتحدة في الجو تقوم القوات الإيرانية بشن ضربات صاروخية ضد أهداف أميركية في كل من سوريا والعراق.
وتهدف هذه الهجمات إلى التخويف أكثر منها إلحاق الضرر وعادة ما تخطئ الصواريخ الهدف عن عمد لتنفجر في مكان قريب، لكن هذا ليس هو الحال دائما فقد أدت بعض عمليات إطلاق الصواريخ إلى مقتل وإصابة أفراد بالقاعدة الأميركية، وبعد هجوم مماثل في عام 2020 أمر الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترمب بقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني.
تصعيد أميركي
وترى الدراسة أن جهود روسيا وإيران لإخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، لها تأثير معاكس تماما، إذ إن الوجود العسكري الأميركي في المنطقة آخذ في الازدياد.
وأرسلت واشنطن المدمرة يو إس إس توماس هودنر إلى الخليج العربي مع مقاتلات إف 35 وإف 16 في تموز الفائت لتنضم إلى القوات المتواجدة هناك وبعد بضعة أيام فقط جرت إضافة سفينتين أخريين مع قوات إنزال بحرية، بهدف معلن هو حماية السفن التجارية من أنشطة زعزعة الاستقرار الإيرانية في المنطقة، ونتيجة لذلك وصل عدد القوات الأميركية في الخليج إلى أعلى مستوى له في السنوات الأخيرة.
ولمواجهة السلوك غير المهني للطيارين الروس فوق سوريا تم إرسال مقاتلات إضافية من الجيل الخامس من طراز إف – 22 رابتور مباشرة إلى الأردن، ويدعي الجيش الأميركي أن هذه الطائرات الإضافية تساعد في ردع مثل هذا السلوك.
وأشارت الدراسة إلى أن الإجراءات الأميركية تتجاوز نشر وحدات جديدة ففي أواخر الصيف حاول الأميركيون توحيد جميع قوات التحالف في سوريا بما في ذلك الكيانات القبلية العربية في تحالف واحد حول القاعدة الأميركية في التنف وقوات سوريا الديمقراطية التي يتكون عمودها الفقري من وحدات كردية.
المعضلة الروسية
إن هدف روسيا المتمثل في الحفاظ على وجود منخفض نسبيا في سوريا من دون موارد مالية مفرطة و من دون صرف الانتباه عن الجبهات الأوكرانية، وأصبح هدفا غير واقعي بشكل متزايد لأسباب ليس أقلها الوجود الأميركي الأكبر الذي جلبته أفعال موسكو الاستفزازية هناك.
ولفتت الدراسة إلى وجود مشاكل أخرى لا تتعلق مباشرة بروسيا فقد استعاد النظام السوري السيطرة على غالبية سوريا لكن هذا لا يعني بالضرورة العودة إلى الحياة الطبيعية.
وبات الجوع والفساد جزءا لا يتجزأ من المشهد الاجتماعي والاقتصادي المحلي وبحلول نهاية الصيف اندلعت احتجاجات كبيرة في العديد من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري مصحوبة أحيانا باشتباكات واسعة النطاق، فالوضع هناك خطير لدرجة أن السلطات فقدت السيطرة جزئيا على محافظة السويداء.
وتعتبر الأوضاع في سوريا أبعد ما تكون عن الاستقرار إذ إن عدم الاستقرار آخذ في الازدياد وليس هناك حلول للمشاكل الاقتصادية في البلاد. وفي العام الحالي، عاودت فلول تنظيم داعش الظهور في البلاد سعيا لاستغلال موجة الاستياء الجديدة.
كل هذا يأتي في وقت تحتاج فيه روسيا إلى معرفة ما يجب فعله ببقايا جيش مرتزقة فاغنر وبحسب ما ورد فقد أدت المحاولات الأولية لتغيير فاغنر في سوريا بقوات عسكرية روسية، إلى وصول القوتين إلى شفا مناوشة مسلحة، ويبدو أن إضعاف نفوذ روسيا هناك أمر لا مفر منه.
وأدت ميليشيا فاغنر في سوريا، رغم تعامل وزارة الدفاع الروسية معها بشكل سيئ، هذه المهام هي تطوير الموارد النفطية والتواصل مع الجماعات المحلية ودعم الوجود الروسي في مناطق جديدة وعمل استطلاع وتقييم مدني.
النفط جائزة مغرية
تشدد الدراسة على أنه يمكن رؤية نتائج هذه الصعوبات في محاولات القوات الموالية لإيران السيطرة على المناطق التي كانت تسيطر عليها ميليشيا فاغنر في السابق ولذلك فإن حقول النفط السورية جائزة مغرية بدرجة كبيرة.
ولا يزال موقف روسيا في سوريا أبعد ما يكون عن الحرج لكن بعض التحديات لا مفر منها، فسوريا لم تفشل في أن تصبح قاعدة آمنة للقوات الروسية فحسب، بل إنها تولد أزماتها الخاصة بصورة متزايدة وإن كانت محلية في الوقت الحالي.