شهد سعر صرف الدولار الأميركي قفزات متتالية بقرارات رسمية من مصرف سوريا المركزي ليحقق أعلى رقم في تاريخه على مستوى التعاملات المالية الرسمية في مناطق سيطرة النظام السوري، في محاولة من الأخير للسيطرة على عمليات التصريف في السوق السوداء.
وفي نشرة الأسعار المحددة من قبل المصرف الصادرة يوم أمس الثلاثاء 14 آذار الجاري، بلغ سعر صرف الدولار الأميركي 7250 ليرة سورية، ليقترب من سعر صرفه في السوق السوداء البالغ حوالي 7500 ليرة، للمرة الأولى منذ عام 2011، في خطوة يتوقع خبراء اقتصاديون أن تزيد من معدلات التضخم في الأسواق مع تدهور القيمة الشرائية لليرة، بحسب موقع تلفزيون سوريا.
وقال مدير العمليات المصرفية في مصرف سوريا المركزي “فؤاد علي” في سياق تبريرات رفع أسعار الصرف إن ذلك سيسمح للمواطنين الراغبين في استلام الحوالات الخارجية وتصريف المبالغ النقدية باختيار أي مصرف أو بنك خاص مرخص له التعامل بالقطع الأجنبي، وفق نشرة الأسعار التي سيصدرها المصرف المركزي بشكل يومي وهي قابلة للتغيير بحسب المعطيات.
ويضيف علي أن المصرف قرر تحرير سقف السحب والتصريف بشكل كامل للمواطنين بعد أن كان سقف السحب 15 مليون ليرة، وضرب مثلاً على ذلك قائلاً: “إذا صرّف الشخص دولارات بقيمة 10 ملايين ليرة سورية يمكن سحب قيمتها مباشرة”.
ويهدف القرار وفق التبرير “للحد من السوق السوداء والتوجه نحو الأقنية النظامية، وبالتالي سيزيد المعروض من القطع الأجنبي ويخفض من سعر سوق التداول ولن يكون له أي أثر على ارتفاع الأسعار، بل على العكس سيزيد من القدرة الشرائية ويخفض الأسعار”.
وأصدر رئيس النظام السوري خلال العام 2020 المرسومان رقم 3 و4 القاضيان بتشديد العقوبات على المتعاملين بغير الليرة السورية، لكن وعند سؤال “علي” عن إمكانية مساءلة المواطنين الراغبين بتصريف القطع الأجنبي لكون حكومة النظام تجرم التعامل بغير الليرة، أجاب بأن قرار المصرف المركزي ومجلس النقد اللذين يعدان أعلى سلطة نقدية في البلاد واضح، فلن يكون هنالك أي مساءلة مهما كان المبلغ.
أهداف متعددة للنظام السوري
قرأ خبراء اقتصاديون الخطوات الأخيرة للنظام برفع سعر الدولار، بأنها تسّرع من عملية تعويم الليرة السورية، وتمهد للدولرة في البلاد، ويتطلب ذلك من حكومة النظام طباعة كمية نقدية جديدة سواء بورقة جديدة من فئة 10 آلاف أو من الفئات القديمة، ما سيزيد من التضخم جداً.
بينما يرى آخرون أن السعر الرسمي للدولار في المصرف المركزي لا يعني كثيراً وهو اعتراف بعدم إمكانية ضبط هبوط الليرة السورية، حيث أن التخفيض الأخير لليرة ليس الأول ولن يكون الأخير ما دام النظام مصراً على سياسة “المكابرة” الاقتصادية وتجاهل الحل السياسي الحقيقي.
وقال الخبير الاقتصادي الدكتور كرم شعار، إن رفع سعر الدولار من قبل مصرف سوريا المركزي يعد جزءاً من توجه واضح لحكومة النظام يهدف إلى المساواة بين أسعار الصرف المختلفة والتقريب فيما بينها، في محاولة لجعل التعاملات المالية عبر القنوات الرسمية، ويشمل ذلك التحويلات المالية من الخارج، أو التجار والمصدرين والمستوردين.
وأضاف شعار في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن الأسعار توحدت بالمجمل باستثناء السعر المفروض على الأمم المتحدة، الذي يأتي على شكل “خوّة”، فسعر الصرف المفروض عليها حتى الآن ما زال 4500 ليرة مقابل الدولار، كما أن الارتفاع لم يطرأ على الـ 100 دولار التي يضطرّ السوري إلى تصريفها عند دخوله للبلاد، لافتاً إلى أن النظام يهدف من ذلك بشكل عام إلى الحد من النشاط في السوق السوداء.
ويحاول النظام السوري الاستفادة من القطع الأجنبي الوارد عبر الحوالات الخارجية، من خلال جعلها عبر الأروقة الرسمية، وربط المحلل الاقتصادي الدكتور فراس شعبو القرارات المتتابعة من مصرف سوريا برفع سعر صرف الدولار، بحجم الأموال التي دخلت إلى سوريا بعد كارثة الزلزال، والتي تقدر بمئات ملايين الدولارات، وهي فرصة مناسبة للنظام لرفد خزينته بالدولار.
تحول كبير في سياسة المصرف
وصفت مصادر وصحف مقربة من النظام أن قرار مصرف سوريا المركزي برفع سعر الدولار بأنه صائب، ورأت الباحثة الاقتصادية لمياء عاصي أن ذلك يعبّر عن تحول كبير في سياسة المصرف تجاه الحوالات الخارجية، مضيفة أنه “لم يكن مفهوماً لماذا يضحي المركزي بعائدات كثيرة من العملات الأجنبية ويعطيها لمكاتب الصرافة أو للسوق السوداء، إذ قدرت الحوالات الأجنبية بمعدل ستة ملايين دولار يومياً، ومن المأمول أن يكون انعكاس ذلك المزيد من حيازة المركزي على العملة الأجنبية وبالتالي السيطرة على السوق بشكل أكبر”.
بالمقابل أوضحت عاصي، أنه عادة في خطوات من هذا النوع “لن نلمس آثار تلك القرارات فوراً، بل تحتاج السوق إلى فترة لتتوازن أكثر، وقد نبدأ بتلمس آثار أو انعكاسات ذلك بعد مدة تصل إلى شهور قليلة، هذا إذا لم يحصل ارتداد كبير وارتفاع في أسعار الصرف من السوق السوداء كنوع من الدفاع عن مصالحها، لذلك سيتطلب الموضوع من المركزي الثبات على سياسته الجديدة برغم الارتدادات وتعديل تسعيرته لتبقى متوائمة مع التغيرات في سعر الصرف”.
الباحث الاقتصادي فاخر القربي قال لصحيفة “تشرين” المقربة من النظام، إن مثل هذا القرار يحقق نوعاً من الاستقرار في سعر صرف القطع الأجنبي بالسوق من جهة، ويحقق عملية توازن تسمح في جذب هذا القطع الذي يتم تحويله من الخارج، كما أنه حالة تشجيعية لعمليات التحويل التي تجري من الخارج، ويشكل فضاء أوسع للمحافظة على القطع الأجنبي المحوّل بدلاً من ذهابه إلى السوق السوداء.
وللقرار آثار سلبية حسب الباحث، منها تعدد أسعار الصرف وجعل التاجر يقيّم بضائعه على أساس السعر الأعلى للقطع الأجنبي، خاصة بالنسبة للبضائع المستوردة، ما يؤدي إلى تضارب الأسعار من قبل التجار وتجعل المواطن ضحية الغلاء تحت مسمى ارتفاع أسعار الصرف.
ما التداعيات المحتملة؟
رصد موقع تلفزيون سوريا رفع أصحاب بسطات للمواد الغذائية في دمشق الأسعار بشكل مفاجئ، مع توقف بعض محال المفرق في أحياء دمشق عن بيع بعض السلع مثل الزيت والمحارم والقهوة بحجة أنهم أنفقوا ما كانوا يعرضون، منتظرين الأسعار الجديدة واستقرار الأسواق.
تزامن هذا من إصدار وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك تعميماً الشهر الماضي يقضي بتحرير الأسعار، ألغيت بموجبه النشرات السعرية الرسمية، مع ترك مسألة تسعير المواد الاستهلاكية لفواتير تداولية تحرر من المنتجين وتجار الجملة والمستوردين.
ولوحظ أن قرار الوزارة الذي كان يقصد به ترك الأسعار للتنافسية ما يدفعها للانخفاض، زاد من الأزمة، حيث ارتفعت الأسعار بشكل كبير، في حين أرجعت الوزارة قرارها للمتغيرات المتسارعة في بنود التكاليف، خاصة سعر الصرف، وارتفاع تكاليف مستلزمات الطاقة، وحرصاً على استمرارية تدفق المواد في الأسواق، وتداول الفواتير الحقيقية.
ويتوقع رئيس اتحاد “غرف الصناعة” غزوان المصري، في تصريحات لصحيفة “تشرين”، أن “القرار لن يؤثر على خفض تكاليف الإنتاج ولن يسهم بانخفاض أسعار السلع أو ارتفاعها لأن الصناعي لا يحصل أصلاً على القطع الأجنبي من المصرف المركزي وإنما من شركات الصرافة الخاصة”، فيما أبدى مدير غرفة تجارة وصناعة اللاذقية سامر صوفي خشيته من أن “يسهم القرار برفع سعر الصرف في السوق السوداء كرد على إجراءات المركزي، ما يعني أنه في حال عدم التشدد بضبط الأسعار، فإن الأسعار سترتفع، لأن الصناعي يحصل على القطع بسعر السوق السوداء لا بسعر المركزي”. وبينما يؤكد مراقبون أن الحالة اليوم تتطلب أفكاراً إبداعية تحقق موارد وتخدم المواطن، بما لا يمسّ التكلفة وارتفاع الأسعار، يعتقد الباحث فراس شعبو في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، أن قرارات المصرف المركزي قد تزيد الفجوة بين الدخل والاستهلاك، وترفع الأسعار، مع عدم قدرة حكومة النظام على فعل أي شيء، سوى تخفيض الدعم عن المواطنين وحرمان جزء من الشعب السوري من المساعدات بحجة أنهم لا يستحقونها، وذلك سيقيّد المنتج السوري من المنافسة، ويعزز عجز المواطن في سد أولوياته الاستهلاكية.