بحث
بحث

البالة:صراع وزارتي الصناعة والتجارة..والترفيق لـ”الفرقة الرابعة”

جريدة المدن الالكترونية. 

ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، بقرارين متناقضين، يحملان توقيع وزير التجارة الداخلية وحماية المُستهلك في حكومة النظام عبدالله الغربي، أولهما يمنع بيع الألبسة المُستعملة ومصادرتها على امتداد الأراضي السورية، والثاني ينقض الأول بحجة أن قرار منع بيع البالة “يضر بالمواطن”.

واستيراد الألبسة المُستعملة في سوريا ممنوع بموجب قوانين صدرت عام 2011 بحجة تشجيع الصناعة الوطنية وتصريف البضائع المحلية، لكن تدخل كبار تجار البالة حال دون تنفيذ تلك القوانين. التدخل ذاته، أجبر الغربي على التراجع عن قراره الأخير بعد أيام على صدوره منتصف تموز/يوليو 2018.

البالة التي كانت تدخل سوريا، بكميات محدودة قبيل اندلاع الثورة، كانت حكراً على الفقراء وأصحاب الدخل المحدود بسبب وجود صناعة محلية ذات جودة عالية، فضلاً عن افتتاح كبرى ماركات الألبسة العالمية مصانع لها في دمشق تضخ بضائعها في الأسواق السورية. وتغيّرت الأحوال مع اندلاع المعارك ودمار معظم تلك المصانع، وسحب الشركات الأم لتراخيصها من المصانع السورية، فضلاً عن العقوبات الاقتصادية التي منعت التجار من استيراد القماش والآلات من أوروبا وتركيا. وأدى ذلك إلى انخفاض جودة البضائع المحلية وارتفاع أسعارها بشكل كبير تزامناً مع غلاء المواد الأولية والنقص الحاد في اليد العاملة.

وتنقسم البالة اليوم إلى قسمين؛ الأول لا يزال لعامة الناس والفقراء، والثاني للطبقة “المُخملية” وهي ملابس أوروبية تدخل سوريا على أنها مُستعملة وتُباع في أفخم محلات أبو رمانة والمالكي والشعلان من العاصمة دمشق، فضلاً عن انتشار عشرات المنازل المُخصصة لبيع الألبسة الأوروبية والتركية في أرقى أحياء دمشق.

البالة لم تعد بيد صغار التجار، بل أصبح لها حيتان مدعومين من شخصيات سياسية وعسكرية في سوريا، وباتت تجارة تُدر مرابح خيالية على التاجر والجهة التي “تُرفّق” البضائع من الحدود الجوية والبرية والبحرية؛ “الفرقة الرابعة” التي يقودها ماهر الأسد.

وتتنوع الطُرق التي تدخل بها حاويات البالة باتجاه مدينة دمشق، فبعضها يدخل عبر تركيا إلى الشمال السوري، ذات منشأ أوروبي أو تركي، وهي الطريق الأسهل لنقل البضائع بين المناطق الخاضعة لسيطرة المُعارضة المُسلحة، وتلك التي يُسيطر عليها النظام السوري. ويتم بيع  تلك البضائع في اللاذقية وطرطوس، ونقلها إلى المحافظات الأخرى بـ”الترفيق” من قبل “الفرقة الرابعة” ومليشيا “الدفاع الوطني”.

في حين أن القسم الأكبر من البالة يدخل من لبنان عبر البر، يزور فيها تجار البالة شتورا الحدودية التي تصلها البالة عبر أحد كِبار التُجار السوريين “مجهولي الهوية”. وبعد انتقاء البضائع المرغوب بإدخالها، يتم حزمها وإدخالها إلى سوريا عبر شبكة من المُهربين التابعين للتاجر الكبير، لتصل إلى منطقة الصبورة في ريف دمشق بكلفة تصل إلى 3 يورو للكيلو الواحد. وصول البضائع إلى أسواق العاصمة، ليتم تفريغها في مراكز البيع مُباشرة، يرفع نسبة أجور النقل إلى 20 في المائة من قيمة البضاعة، بإشراف مُهربين عسكريين من “إدارة الجمارك” و”المكتب الأمني” في “الفرقة الرابعة”.

ضباط “الجمارك” و”الفرقة الرابعة”؛ آصف علوش، وفواز الأسعد، والرائد بسيم، باتوا يشكلون مجموعة مشهورة على خط التهريب شتورا-دمشق، قادرة على دخول الأراضي اللبنانية في أي وقت وبسيارات شخصية، لمفاوضة تجار البالة الأوروبية والألبسة التركية لنقلها باتجاه دمشق والمُحافظات الأخرى.

الطريقة الثالثة لإدخال البالة تتم عبر مطار دمشق الدولي. فبعد وصول بضائع الشحن الجوي مروراً ببيروت أو الإمارات، يتم الاحتفاظ بتلك الحاويات تحت بند “الأمانة” داخل المطار أو في مستودعات الجمارك، بتنسيق مع ضباط “الفرقة الرابعة”، ليتم من بعدها التلاعب بالبيانات الجمركية وإخراج البضائع عبر طرود صغيرة لا تتجاوز قيمة الطرد الواحد 1000 دولار، كمستلزمات شخصية لصاحب البضاعة، للتهرّب من الضرائب الجمركية وقوانين منع استيراد الألبسة. وتُنقل بعدها البضائع المُصرح عنها من قبل جمارك المطار إلى المحال التجارية بترفيق من “الفرقة الرابعة”.

ويُعتبر محمد الطبّاع ونضال العمادي، ورجال محمد حمشو، وبعض التجار من آل المحايري، من أكبر التجار والمُخلصين الجمركيين المُختصين بتمرير البضائع وشحنها عبر مطار دمشق الدولي. ولا علاقة لهذه المجموعة بطريق بيروت أو طريق الشمال السوري. فالبضائع التي تأتي عبر المطار ذات جودة عالية، يُباع بعضها بالدولار في دمشق، ويُعرض في المولات التجارية، أو في منازل البيع غير الرسمية لـ”الطبقة الراقية”.

وبعد وصول البضائع إلى سوق الاطفائية، مركز بيع ألبسة البالة في دمشق، تنتهي مهمة الترفيق المُوكلة لـ”الفرقة الرابعة”، وتبدأ بعدها مهام “فرع فلسطين” ومليشيا “الدفاع الوطني”، المسؤولتين عن حماية الحي. وتُعطي هذه الجهات موافقات شفهية وتقوم بالإشراف على تفريغ البضائع في المتاجر والمستودعات، مقابل مبالغ مالية مُعينة، بحسب كمية وجودة البضاعة. وفي حال مغافلة أحد التجار لهم وإدخال البضائع تتم مصادرتها وتحويل القضية إلى الجمارك ليُغرم صاحب البضاعة “المُهربة” بمبلغ مليون ليرة سورية، أي ما يعادل 2000 دولار أميركي.

صراع كبير جرى على مدى شهور بين الصناعيين وتجار الألبسة المحلية، مدعومين من وزارة الصناعة من جهة، ووزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك من جهة أخرى، تمت فيه مطالبة وزارة التجارة الداخلية بإيجاد حل لموضوع البضائع المُهربة التي تدخل تحت اسم “البالة”، بعد كساد آلاف الأطنان من البضائع المحلية، واستحالة تصديرها بسبب سوء الجودة وعدم مطابقة المواصفات المطلوبة خارج سوريا.

الضغط الذي شكله الصناعيون، شكّل أزمة واضحة في سوق الملابس، وظهر فيه صراع الحيتان واضحاً، وانتهى بإجراء تغيرات كبيرة على مستوى الجمارك طالت مدير جمارك دمشق مجدي حكيمة، الذي ألصقت به تهمة فساد خرج على إثرها من منصبه وتمت إحالته إلى التحقيق قبل أن يُطوى الملف بشكل نهائي بعد تدخل كِبار تجار الألبسة المُهربة، والذين كان حكيمة يُشرف على تجارتهم عبر الحدود البرية والجوية.

التغييرات والتناقلات في الضابطة الجمركة طالت رمزي السلوم، زوج مديرة الشؤون المالية في إدارة الجمارك ريم زيتون، ابنة رئيس “شعبة المخابرات العامة” اللواء ديب زيتون. ونقل سلوّم إلى جمارك عدرا، كنوع من إخفاء ملف الفساد والتهريب الخاص به، وإبعاده عن الطريق الذي تسلكه بضائع البالة.

وتزامنت حملات التغيير والنقل التي جرت بأوامر عُليا مع حملات منظمة لدوريات من الجمارك مدعومة بعناصر من “الأمن العسكري” و”أمن الدولة” استهدفت أسواق البالة في دمشق، ونجم عنها مصادرة أطنان من البضائع المُهربة، لكبح غضب الصناعيين ووزارة الصناعة وتشجيع شراء البضائع التي تُصنع محلياً.

لم توقف الحملة التي نفذها النظام بحق تجار الألبسة وضباط الجمارك تهريب البالة باتجاه الأراضي السورية، فما هي إلا أسابيع من تثبيط النشاط حتى عاود التجار مزاولة أعمالهم عبر ضباط جُدد، لا يمكن أن يعترضوا على ما يجري وما يُدخله هؤلاء التجار، تحت تهديدات بالنقل أو إلصاق تُهم فساد بهم، وربما التصفية إن لزم الأمر.

قرارات وزارة التجارة الداخلية التي تم إلغاؤها بعد 24 ساعة على صدورها، توضح آلية الصراع الدائر لإيقاف عمل تجار الألبسة المُهربة، والضغط الكبير الذي يُمارسه هؤلاء التجار المدعومين من أزلام النظام على الوزارة للابتعاد عن طريق تجارتهم.

بين فرحة الفقير بالقطعة الأجنبية ذات السعر المقبول، ورضا صاحب المال بوصول القطع الأجنبية إلى منزله دون الحاجة إلى السفر، تجري معارك تجارية كبيرة لا يعلم بها المُستهلك الذي يقصد تلك الأسواق أو المنازل لشراء البالة.

 

اترك تعليقاً