إدلب- بعد أكثر من أربع سنوات من تهجيرها إلى شمال غرب سوريا ما يزال التواصل مع سحر (اسم مستعار) بالنسبة لإخوتها المقيمين في الغوطة الشرقية “خط أحمر”، خشية الملاحقة الأمنية من الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري.
كانت أمها “المرسال” بين سحر، ذات 38 عاماً، المقيمة في مدينة إدلب، وعائلتها في الغوطة الشرقية، ورغم تحذيرات ابنها من خطورة التواصل مع شقيقته، ردت الأم بحزم “دعهم يعتقلوني”، كما قالت منى لـ”سوريا على طول”.
استمرت سحر في التواصل مع أمها حتى عام 2019، حين “أرسلتُ مقطعاً صوتياً عبر الواتساب مساء، وجاءني الرد في صباح اليوم التالي من هاتف أمي بأنها توفيت. لا أدري إن سمعت رسالتي أم لا”، بحسب قولها.
“كنت أرسل لأمي مقاطع صوتية، وتسمعها بعد أسبوع أو عشرة أيام، حسب الشبكة عندها”، وحين كانت ترد على رسائل سحر “كنت أترك كل شيء للحديث معها. هي فرصة لن تتكرر بسهولة”، وفقاً لسحر، لكنها لم تتوقع أن تفقد الاتصال مع أمها نهائياً.
سحر واحدة من أصل 78 ألف شخص تم تهجيرهم من الغوطة الشرقية في آذار/ مارس ونيسان/ أبريل 2018، بعد عملية عسكرية للنظام السوري ضد فصائل المعارضة، انتهت بتوقيع اتفاقية تسوية تقضي بخروج فصائل المعارضة والمدنيين الرافضين للتسوية إلى شمال غرب سوريا.
عودة إلى ذكريات التهجير
ما يزال يوم التهجير حاضراً في ذاكرة سحر، مستذكرة وقع قرار زوجها الخروج إلى الشمال السوري عليها، “لم أتفاجأ، لأنني كنت أعلم أنه لا مفر من ذلك”، لكن وداع والدتها “كان قاسياً. لم أستطع النظر في عيني أمي”، قالت سحر.
أثناء استعدادها لمغادرة الغوطة الشرقية، بعد خمس سنوات من القصف والحصار، كانت سحر تجّهز حقائب السفر، بينما أمها تصنع الفطائر، “طيلة الوقت لم تلتق عينيّ بعيني أمي، وعندما حان وقت الرحيل أجهشنا بالبكاء”.
حاولت سحر إقناع أمها بالخروج معها، لكنها رفضت، “فجعنا بمقتل أخي في الهجمات الأخيرة على الغوطة، ولم نعثر على جثمانه، لذلك أصرت أمي على البقاء على أمل العثور عليه”.
تستذكر نيفين حوتري ذكريات التهجير بقولها “كنا في حالة من التخبط، خاصة أننا لا نعلم صحة قرارنا”، كما قالت السيدة التي تشغل حالياً منصب رئيسة مجلس الإدارة لوحدة دعم وتمكين المرأة في ريف حلب الشمالي لـ”سوريا على طول”.
في الأيام الأخيرة بالغوطة الشرقية “كنا في أقبية منفصلة عن بعضنا البعض”، ولم يكن هناك تواصل بين نيفين والدائرة المحيطة بها من العائلة والمقرّبين، لذلك “كان مؤلماً أننا غير قادرين على التخطيط أو التفكير بكيف سنترك بعضنا”، وفق نيفين.
لم يبق لنيفين أقرباء من الدرجة الأولى في ضواحي دمشق “خرجنا كعائلة واحدة كبيرة”، ومن بقي من الأقرباء “انقطعت اتصالاتنا بهم تماماً”، كما أوضحت، مشيرة إلى أن أيّاً منهم لم يحاول التواصل معي “وأنا لست مستعدة للتواصل خشية تعريضهم للخطر”.
تواصل حذر
بعد وفاة والدتها، استقبلت سحر “رسائل تعزية من بعض الأقارب” المقيمين في الغوطة الشرقية. وفي مطلع عام 2022 عاد التواصل مع إخوتها وأبنائهم “بحدوده الدنيا وبحذر شديد”، وأحياناً “يتخلل الاتصال فترات انقطاع”.
في تموز/ يوليو، تلقت سحر رسالة من ابن أخيها، أخبرها باعتقال أم صديقه “بسبب تواصلها مع أخيها”، المهجّر إلى شمال غرب سوريا، وطلب منها “عدم إرسال أي رسالة إذا لم يبادر هو بالتواصل”، كما قالت سحر، مشيرة إلى أن إحدى أخواتها “خصصت رقماً خاصاً للتواصل معي، حتى لا أتواصل معها على رقمها الرسمي”. سبق للنظام أن اعتقل أشخاصاً في الغوطة الشرقية على خلفية تواصلهم مع أقاربهم في شمال سوريا.
وفي المرات القليلة التي تواصلت سحر مع أخيها الكبير “الحنون، وصاحب القلب الرقيق”، كما وصفته، اقتصر سؤاله على زوجها وأطفالها “لا نستطيع الحديث أكثر من ذلك”، مشيرة إلى أنها لا تستطيع استخدام كثير من الكلمات عند الحديث مع سكان مناطق سيطرة النظام.
“لا نقول إدلب، أو عفرين، أو الغوطة”، في إشارة إلى أن مصطلح “الغوطة” لم يكن مستخدماً بين السكان قبل اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، لذلك فإن استخدامه قد يعرّض أهلها المقيمين هناك للمساءلة.
تعيش سحر مع زوجها في إدلب، على بعد 70 كيلومتراً من أهل زوجها، الذين وصلوا إلى عفرين عبر طرق التهريب في عام 2011، لكن ربما أهلها في الغوطة “لا يعرفون ذلك” لأن كثيراً من التفاصيل يتجنبون الخوض فيها.
أيضاً، إذا أرادت سحر الحديث مع إخوتها عن تركيا تقول “جارتنا”، وبدلاً من الغوطة تقول “عندكم”، وفي الحديث عن مناطق المعارضة في شمال غرب سوريا تقول “عندنا”، من دون استخدام كلمات تحدد مكانها أو تعرض الطرف المقابل للخطر.
وعند الحديث عن الأسواق والأسعار “لا أذكر غير العملة السورية”، قالت سحر، ومثال ذلك “اشتريت لباساً بقيمة 200 ليرة تركية، وعندما أخبرتهم قلت أن سعره 70 ألف ليرة سورية”.
رافق الخوف والدة زوجها رغم خروجها من مناطق سيطرة النظام، لدرجة إذا تعرضت إدلب للقصف كانت تتصل للاطمئنان، فتقول “سمعنا صار عندكم عرس ورشوّا كثيراً من الشوكلاتة”. مثل هذه العبارات يستخدمها المدنيون في مناطق النظام كناية عن القصف.
خلافاً لسحر، تتواصل آمال (اسم مستعار) مع عائلتها بشكل شبه يومي “اتصل بهم يومياً مكالمة فيديو عبر الواتساب، ونشرب قهوة الصباح معاً”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، لكنها تتجنب الحديث في السياسة والأوضاع الاقتصادية.
“ماذا ستطبخين اليوم؟ ملوخية. وأنت؟. سأعمل مطبقة أي شرائح من اللحم المفروم مع البطاطا والبصل”، هذا الحديث المعتاد بين آمال وعائلتها في مناطق سيطرة النظام.
وصلت آمال إلى إدلب في مطلع عام 2021 للالتقاء بخطيبها المهجر منذ عام 2018، ورغم صعوبة الأوضاع المعيشية في شمال غرب سوريا، إلا أنها أفضل من مناطق سيطرة النظام السوري “لذلك لا أذكر كثيراً من تفاصيل حياتي، التي تعدّ بالنسبة إليهم رفاهية”.
تزوجت آمال بعيدة عن أهلها، وأجرت اتصال فيديو معهم أثناء حفلة الزفاف “بقي الاتصال لمدة أربع ساعات، لكن لم نذكر طيلة الفيديو بأن العرس في إدلب”، خشية عليهم.
تشتاق نيفين حوتري “لشوارع دمشق وليس للأهل والأصدقاء فيها فقط”، وتتوق آمال إلى حلّ يؤدي إلى فتح الطريق، قائلة: “سأكون أول شخص يعود حتماً لملاقاة أهلي”.
أما سحر، لا تتوقع عودة قريبة، “حتى لو عرضت علينا العودة بموجب مصالحات أو وعود دولية لن أعود، طالما النظام موجوداً، لأنه لن يتركنا”، هذا لا ينفي شوقها إلى عائلتها في الغوطة وأمنيتها في “زيارة قبر أمي”.
المصدر :سوريا على طول