بحث
بحث
صورة تعبيرية ـ موقع درج

“الزرافة وخطّو حلو”… ماذا تعرفون عن لغة السوريين السريّة؟

لو كُتِبت لغة السوريين السرية على ألواح طينية، لفهم العالم بعد آلاف السنين معنى الحاجة إلى الحرية

لو كُتِبت لغة السوريين السرية على ألواح طينية، لفهم العالم بعد آلاف السنين معنى الحاجة إلى الحرية، معنى أن تحرم من التعبير بلغتك، وأن تختلق لغة مواربة وغير مكتملة، لغة تبدو ناقصة لمن حولك لكنها كاملة ومفهومة لمن يعيش في الداخل.

أطلب من أخي تصريف مئة دولار إلى الليرة السورية، التصريف داخل سوريا محفوفٌ بالمخاطر، وفي كل مرة أطلب منه ذلك، يلاحقني الشعور بالذنب، خوفاً من وشايةٍ تصل إلى الأمن السوريّ، فالتعامل بالدولار ممنوعٌ في سوريا وله ضوابط كثيرة، إذ يمنع التحويل خارج مصارف الدولة التي تفرض خسارة تصل إلى ألف ليرة سورية في الدولار الواحد يعرف أخي أحد صرافيّ السوق السوداء، يتصل به ويسأله: “بكم سطل الدهان اليوم؟” يجيبه الأخير: “وأربعمية وخمسين”.

يعرف صاحب متجر الدهان دون شك أن سؤال أخي يعني بكم سعر تصريف الدولار اليوم لا الدهان، ولا يذكر الرقم كاملاً لكن أخي أيضاً يعلم أنه يعني ثلاثة آلاف و450 ليرة سورية، هذه هي باختصار لغة السوريين السريّة التي تعينهم على مواجهة قرارات النظام التي تزيد المعيشية رداءة.

“ح.ز.ب god، الزرافة، المخووث طالع، المخووث نازل، راح لعندن، بسلامتك راح وما عاد يرجع، خطو حلو”، إنها نماذج من المصطلحات التي يتناقلها السوريون لشرح أحوالهم، من دون أن يفهم النظام المقصود، فلا يملك بالتالي دليلاً قاطعاً لاعتقال شخص ما، فالتعامل بالدولار في السوق السوداء قد تصل عقوبته إلى السجن 7 سنوات،  لذلك يصبح الدولار سطل دهان، أو قنينة عطر أو “المخووث”. المعتقلون لا يشار إليهم بـ”المعتقلين”، يصار إلى تحوير الكلام، إذ يقال عمن تم اعتقاله “راح لعندن” أو “بسلامتك راح وما عاد يرجع”.

ولحماية هذه اللغة من أعين الوشاة ورجال الأمن سنذكر أكثر الكلمات شهرة والتي قد يعرفها النظام مسبقاً وسنحتفظ بتلك الأكثر سرية لتبقى ملجأ للسوريين، فمن الاستهتار فضح هذه اللغة بخاصة في ظل منع النظام في سوريا كلّ أشكال الحرية، وقد يتسبب الحديث عن جهات سياسية بعينها مشكلة لصاحبها. تظهر في محادثات الهواتف المحمولة غرابة هذه اللغة وقدرة السوريين على اختلاقها أثناء الحديث، المدهشُ في كلّ هذا هو قدرة الطرف الآخر على فهم ما يُكتب من المرة المرة الأولى وإن بدا معقداً أو غير واضح. 

كلمة “الزرافة” يعرفها الجميع فهي تعني بشار الأسد ولأنها باتت مكشوفة، تراجع استخدامها كثيراً، وتم استبدالها بمفردات أخرى، أشهرها “هداك، الي فوق، الحمار الكبير” وهي كلمات تدل غالباً على رأس السلطة أو التابعين لها وتبقى أكثر أماناً من كلمة “زرافة”.

على الجانب الآخر يمتلك الأمن السوري لغته الخاصة وغير السريّة، إذ إنه لا يسعى إلى  إخفائها أو تغييرها، لأنه أوجدها بالفعل بهدف إخافة الناس وبث الذعر في نفوسهم، على سبيل المثال عبارة “بدنا تزورنا” أو “شرّف لعنا” تعني أن الأمن يود من الشخص الذهاب إلى أحد الفروع لاستجوابه أو طرح بعض الأسئلة عليه، وعادة ما تعني هذه العبارة أن الشخص قد يخرج بعد طرح بضعة أسئلة عليه، لكن الهدف الحقيقي هو إخافته بعد الشك به أو وصول وشاية عنه أو ارتكابه مخالفة صغيرة كالتواصل مع أحد المحسوبين على المعارضة بهدف السلام والكلام، لأنه في حال كان هذا التواصل بغرض العمل ضد السلطة، فالأمن سيأتي لاعتقاله ولن ينتظر زيارته.

اختراع لغات سرية أو مشفرة ليست بالأمر الجديد، الهدف الأساسي منها هو حماية الأشخاص أو تسهيل التواصل في ما بينهم أو منحهم مساحة من الحرية التي قد لا توجد في اللغة المتداولة. استخدمت النساء في مقاطعة هانون في الصين على مرّ التاريخ لغة مشفرة، دُعيت “لغة النساء”، وهي نظام الكتابة الوحيد في العالم الذي أنشأته واستخدمته النساء، إذ كانت حرية التعبير غير متاحة وكن مجرد تابعات لأزواجهن وعائلاتهن، فعبرن عبر لغتهن عن أفكارهن الحميمية وأحزانهن وشعورهن بالظلم في مجتمع ذكوري يفصلهن عن عائلاتهن ويمارس سلطته عليهن. تمكننا إذاً تسمية لغة السوريين هذه “لغة السوريين السرية” الناتجة عن نظام ديكتاتوري، تكلف فيه الكلمة حياةً، وقد يخسر الشخص مستقبله بكلّ بساطة إذا قال إنه لا يحب بشار الأسد، لكن وعلى عكس لغة “النساء السريّة” فلغة السوريين لا تخضع لضوابط ولا تمتلك أحرفاً خاصة، ولا تتوارث في فئة محددة وهي قابلة للتطور مع كل حدث جديد وقد تكون كنايات أو أحرف مفصولة أو رموزاً على “واتس أب”، لن يفهمها سوى أهل المعاناة ذاتها.

في مرحلة ما كانت الرسائل النصية التي تحوي كلمة “دمشق” أو “الشام” أو أي مكان داخلها لا تصل إلى المرسل إليه فكان السوريون إما يلصقون الكلمات ببعضها أو يقطّعونها لأجزاء فتصبح الرسالة “أناجايعشام” والتي تعني أنا آتٍ إلى دمشق!

أو يرتبون الأحرف فوق بعضها لتغدو أشبه باللغة الصينية، فعبارة بسيطة كـ”سآتي إلى دمشق” قد تتسبب في تأخير موعدٍ ما لأنها لن تصل في الأساس بينما يعتقد المرسل أن المرسل إليه ينتظره تحت “جسر الرئيس” مثلاً.

لغة السوريين اليوم يجب ألا تُكشف والحديث عنها يتم في حده الأدنى، لذلك قد نلخصها اليوم بكلمة الزرافة فلن نقدم للأمن السوري هذه اللغة على طبق من ذهب، لكن لو كُتِبت لغة السوريين السرية على ألواح طينية، لفهم العالم بعد آلاف السنين معنى الحاجة إلى الحرية، معنى أن تحرم من التعبير بلغتك، وأن تختلق لغة مواربة وغير مكتملة، لغة تبدو ناقصة لمن حولك لكنها كاملة ومفهومة لمن يعيش في الداخل.

المصدر: موقع درج