في صيف عام 2020، أحبطت الشرطة الإيطالية صفقة مخدرات ضخمة كانت في طريقها إلى الموانئ الأوروبية، بعدما تمكَّنت عناصر الأمن في ميناء “ساليرنو” الإيطالي من ضبط ثلاث سفن قادمة من ميناء اللاذقية السوري وعلى متنها كمية من مخدر “الكبتاغون” (Captagon) -القائم على مادة الفينيثايلين- يبلغ وزنها 14 طنا، وتُقدَّر قيمتها بنحو مليار يورو، وتضم نحو 85 مليونا من الأقراص الصغيرة مخفية داخل شحنة من قطع غيار الآلات ولفائف الورق الصناعية.
سرعان ما اتجهت أصابع الاتهام نحو النظام السوري وحليفه حزب الله اللبناني، لكن بعد بضعة أشهر على الواقعة، خرج زعيم حزب الله اللبناني “حسن نصر الله” نافيا الاتهامات الموجَّهة لحزبه، ومنتقدا استهداف الحزب بـ”أخبار كاذبة ودعاية غربية” على حد تعبيره، ولم يكتفِ زعيم الحزب بذلك، بل قال صراحة في خطابه المتلفز: “موقفنا من المخدرات بكل أنواعها واضح، يحظر دينيا تصنيعها وبيعها وشراؤها وتهريبها واستهلاكها”.
لكن ذلك لم يكن كافيا لوقف الشبهات، فبعد عام واحد من نفي نصر الله مسؤولية حزبه عن صفقة إيطاليا، اتسعت قائمة الاتهامات المُلقاة على عاتق الحزب وحلفائه السوريين، إذ كشفت مضبوطات الكبتاغون في شتى أنحاء العالم حينئذ عن وجود تجارة قيمتها مليارات الدولارات لهذا العقار جابت العالم مُنطلقة من سوريا، وهو العقار الذي أُنتِج لأول مرة في الغرب في ستينيات القرن الماضي من أجل العلاج، قبل أن يُحظَر بسبب خصائصه التي اتضح أنها تُسبِّب الإدمان.
على مدار سنوات، أُغرِقَت أنحاء الشرق الأوسط، لا سيما دول الخليج العربي، بأقراص الكبتاغون، المعروفة بـ”كوكايين الفقراء”، وضُبِطَت شحنات متتالية من هذا العقار في السعودية والكويت والأردن ومصر قادمة من لبنان وسوريا اللذين أصبحا البلدين الأبرز في تصنيع وتصدير الفينيثايلين بالمنطقة. هذا وتُشير الأرقام إلى ضبط أكثر من 250 مليون حبة كبتاغون عالميا عام 2021، وهو رقم يعادل 18 ضِعْفا للكمية التي ضُبطت قبل أربع سنوات فقط.
رحلة حزب الله ونظام دمشق مع المخدرات
رغم أن نصر الله ذكر في معرض نفيه لوقوف حزبه خلف صفقة المخدرات الإيطالية آنفة الذكر أن “أي تورط في تجارة المخدرات محظور من قِبَل علماء الدين، حتى لو كانت الخطة هي نقلها إلى العدو”، فإن سجلات مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (FBI) التي رُفعت عنها السرية عام 1994 أكَّدت أن أنشطة الحزب في مجال المخدرات متجذرة وممتدة، إذ تعود إلى إباحة بعض علماء الدين المرتبطين بالحزب لتلك التجارة آنذاك إذا ما بيعت المخدرات إلى أعداء الإسلام في سياق الحرب ضدهم.
منذ التسعينيات إذن والحزب ينخرط في تجارة المخدرات ويُبيحها نظريا، مُستعينا في ذلك بعلاقاته مع جماعات راسخة في هذه التجارة في سهل البقاع اللبناني التي طالما اعتبرتها مصدرا ماليا رئيسيا لها. الأكثر من ذلك أن عناصر حزب الله أقاموا علاقات أيضا مع عصابات المخدرات في أميركا اللاتينية، التي تملك روابط اقتصادية قديمة برأس المال اللبناني، حيث شكَّل الطرفان فيما بعد شبكات مُتقنة لتهريب المخدرات وغسيل الأموال، برَّرها الحزب لنفسه في الأخير بتمويل عمليات وأهداف أكثر أهمية من الضرر الذي تُحدثه المخدرات.
زاد إقبال الحزب اللبناني على تلك التجارة بعد عام 2006، فبعدما كبَّدته الحرب الإسرائيلية تبعات مالية فادحة، لجأ إلى طهران التي زوَّدته بالمعدات الصيدلانية اللازمة لتصنيع نسخة مُقلَّدة من الكبتاغون، العقار الذي صُنِع لعلاج الاضطرابات النفسية ابتداء. ومع توسُّع الالتزامات العسكرية والمالية للحزب، المُحاصَر اقتصاديا في السنوات الأخيرة بفعل العقوبات الأميركية والانهيار الاقتصادي في لبنان، زاد التنظيم من اعتماده على تهريب المخدرات لتمويل عملياته التي تشمل الآن مساحات واسعة من سوريا. في هذه الأثناء، لم يكن النظام السوري مُعفى من التورط في تلك التجارة، فقد تحكم الجيش السوري في لبنان لسنوات قبل الانسحاب منه، وفي تلك الفترة، تمتَّع بسلطات واسعة لوقت طويل في سهل البقاع اللبناني، وهو المصدر الرئيسي لزراعة الحشيش.
على كل حال، انتقل الإنتاج الضخم للمخدرات إلى داخل الأراضي السورية بعد عام 2011، إذ احتاج النظام في البداية إلى مكافأة مقاتليه المحليين الذين استقدمهم للقتال بمنحهم عقار الكبتاغون. ثم بعد مشاركة حزب الله في الحرب السورية بدءا من عام 2012، لم يكتفِ الحزب بضم مساحات شاسعة عبر الحدود في جبال القلمون السورية لزراعة الحشيش وتطوير صناعته، بل إنه نقل بعض منشآت التصنيع إلى داخل سوريا هربا من الملاحقة القانونية اللبنانية والدولية، مدعوما بالطبع من الحكومة السورية.
لفترة طويلة، ساهم الموقع الجغرافي لسوريا الواقعة على مفترق الطرق بين الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا في جعل البلاد نقطة عبور للمخدرات القادمة من أوروبا وتركيا ولبنان، في طريقها إلى الأردن والعراق والخليج، لكن ما فعله حزب الله هو تحويل سوريا من مجرد محطة توقُّف إلى موقع إنتاج رئيسي للمخدرات، حيث زوَّد منتجي الكبتاغون في سوريا بالخبرة الفنية والحماية، مما أدَّى إلى تزايد الإنتاج السوري لأكثر المنشطات شعبية حتى تجاوز إنتاج لبنان نفسه.
مع وقوعه تحت الحصار الدولي، اعتمد نظام الأسد على تهريب المخدرات بوصفه شريانا للحياة يدرُّ عليه مئات الملايين من الدولارات سنويا (مليارات الدولارات في بعض التقديرات)، ويوفر تمويلا للأسلحة والمقاتلين للحرب المتواصلة منذ أكثر من عقد الآن. وكما يذكر تقرير مركز التحليل والبحوث العملياتية البحثي، الذي يركز على الوضع في سوريا: “أصبحت سوريا دولة مخدرات لنوعيْن رئيسيَّيْن يثيران القلق هما الحشيش والكبتاغون”. وأضاف التقرير أن “في عام 2020، وصلت قيمة صادرات سوريا السوقية من الكبتاغون إلى ما لا يقل عن 3.46 مليار دولار. ورغم أن تهريب الكبتاغون كان في السابق من مصادر تمويل الجماعات المسلحة المناهضة للدولة، فإن استعادة تلك المناطق مَكَّنت نظام الأسد وحلفاءه من تعزيز دورهم بوصفهم مستفيدين (منها)”.
تتأكد الأرقام ذاتها في التقرير الصادر عن مركز تحليل العمليات والبحوث (COAR)، وهو شركة استشارية مقرها قبرص، حيث يُشير إلى قيام النظام السوري بتصدير مخدرات بقيمة لا تقل عن 3.4 مليارات دولار عام 2020. تُكلِّف الحبوب القادمة من أراضي النظام السوري نحو 25 دولارا أميركيا للحبة الواحدة في دول الخليج، أي أكثر من 50 ضِعْف تكلفتها في بلد المنشأ، ما يجعل العقار مصدرا لا يُستهان به للعملة الصعبة للنظام.
السعودية: سوق الكبتاغون
يُعَدُّ الكبتاغون (أو أبو هلاليْن كما يُسمِّيه بعض الشباب السعودي نسبة إلى حرفَيْ C المنقوشيْن على أقراصه اللذيْن يماثلان هلاليْن) المُخدِّر المُفضَّل في المملكة العربية السعودية ودول الخليج في العموم. فخلال السنوات الأخيرة، تحوَّلت دول مجلس التعاون إلى الوجهة الأولى لسوق المخدرات ذات المنشأ اللبناني والسوري، وبالأخص الكبتاغون القادم عبر الطرق البرية من الأردن ولبنان، وهو ما دفع السلطات السعودية لخوض صراع كبير لكبح تلك الموجة والطفرة التي تسبَّبت بها الحرب السورية وما تبعها من أحداث.
بيد أن القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير، وقرَّرت على إثرها الرياض حظر استيراد الفواكه والخضراوات من لبنان، أتت في إبريل/نيسان الماضي حين صودرت أكثر من 5 ملايين حبة من الكبتاغون وُجِدَت موضوعة داخل ثمار الرمان. وقد قالت وزارة الداخلية السعودية إن “الحظر ضروري، لأن لبنان فشل في وقف تهريب المخدرات، على الرغم من محاولات المملكة العديدة لحث السلطات اللبنانية المَعنية على القيام بذلك، ولحماية مواطني المملكة والمقيمين فيها”.
في هذا السياق، يرى المسؤولون في المملكة أن استهداف البلاد بالمخدرات القادمة من لبنان وسوريا له هدفان في آنٍ واحد، سياسي ومالي. فمع حاجة الجهات النافذة في كلا البلدين إلى المال، يُستَبعد أن تكون عمليات التهريب قد تمت دون حماية قوى نافذة في بيروت ودمشق، ولكن ما يُجمع عليه المراقبون هو أن جهود المملكة لمواجهة تلك التجارة المتفاقمة، ومنها قرار الحظر الشامل، لا يمكنه أن يُحقِّق أهدافه كاملة، والدليل أن الصفقات تواصلت بعد حظر تصدير الفاكهة والخضراوات الذي ألحق أضرارا كبيرة بالمزارعين في لبنان، إذ سرعان ما يتكيَّف المهربون مع الحظر، إما باعتماد أساليب جديدة لتمويه أقراص الكبتاغون، وإما باستخدام طرق تهريب جديدة كليا.
الحرب على “أبو هلاليْن”
إذا طلبت مئة مليون حبة، فخلال خمسة أيام ستُعبَّأ، لا يستغرق الأمر الكثير من الوقت”، هذا ما قاله تاجر مخدرات لبناني يعيش في وادي البقاع اللبناني لموقع “ذا ناشونال”، متفاخرا بسهولة وسرعة إنتاج الكبتاغون الذي بات واحدا من أكثر صادرات لبنان درًّا للأرباح في خضم الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد. وتتجه الأنظار باستمرار نحو منطقة وادي البقاع اللبناني، معقل زراعة الحشيش في لبنان الذي تحوَّل لإنتاج وصناعة الكبتاغون، وبات جسرا، لا لنفوذ حزب الله العابر للحدود السورية-اللبنانية فحسب، بل وكذلك لتجارة المخدرات التي أبرم فيها المنتجون السوريون شراكات مع مهربين لبنانيين.
عزَّز من تلك الطفرة ما امتلكته سوريا سابقا من خبراء في مجال الدواء أدلوا بدلوهم في إنتاج الكبتاغون، أضف إلى ذلك مصانع البلاد التي كُرِّسَت لتصنيع المخدر، وكذلك سهولة الوصول إلى طرق شحن البضائع عبر البحر المتوسط إلى تركيا وأوروبا من جهة، وإلى الخليج برا من جهة. كان من المستحيل إذن أن يقاوم البلدان، الواقعان في أسر أزمة اقتصادية طاحنة ومنطقة أكلتها نيران الحرب، الانخراط في تلك التجارة التي سهَّلتها العوامل الجغرافية والفنية كافة، وعزَّزتها الأسواق الغنية في الجنوب والشمال.
كما أشرنا سابقا، سرعان ما انتقل الإنتاج والتصنيع من سهل البقاع في لبنان إلى سوريا نفسها، وانتقل أيضا رجال المخدرات اللبنانيون إلى سوريا هربا من ملاحقة السلطات اللبنانية التي استجابت على استحياء للضغط الدولي الداعي لاتخاذ إجراءات قانونية تكبح تدفق المخدرات. على سبيل المثال، انتقل “نوح زعيتر” المعروف بـ”رب المخدرات اللبنانية” للعيش بشكل أساسي في سوريا، بعد أن حُكِم عليه بالسجن المؤبَّد مع الأشغال الشاقة من قِبَل محكمة عسكرية لبنانية.
تُقدِّم تجربة زعيتر صورة مصغرة عن نفوذ رجال المخدرات في لبنان وسوريا، إذ تحظى تلك التجارة بدعم من مسؤولين ذوي نفوذ في كلا البلديْن، ففي لبنان حيث تقلَّصت رواتب الجيش والشرطة والجمارك بأكثر من 90%، تُعَدُّ قوات الأمن الفئة الأكثر عُرضة للإغراء بالرشاوى من أجل تمرير تجارة المخدرات، وهو ما يعني أن الفساد -ومن خلفه الأزمة الاقتصادية وضَعْف الدولة- يقف عائقا قويا أمام مكافحة إنتاج وتجارة المخدرات بين لبنان وسوريا، وأن حلَّ الأزمة لا ينفصل عن حل الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عصفت بمنطقة الشام، ولم يكُن تدفُّق الكبتاغون سوى فصل من فصولها.
علاوة على ذلك، يقف وراء نمو صناعة وتجارة المخدرات في سوريا أصحاب النفوذ وأقارب رئيس النظام السوري بشار الأسد، وهُم باقون ما بقي الأسد، فعمليات الإنتاج والتوزيع التي تدر المليارات تتجاوز حصيلتها الآن الصادرات القانونية للبلاد، وتُشرف عليها الفرقة الرابعة المدرعة في جيش النظام حسب ما يُظهره تحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز”، ومن المعروف أن تلك الفرقة يقودها “ماهر الأسد”، شقيق الرئيس السوري وأحد أقوى رجال الدولة في سوريا اليوم.
تتعدَّد العقبات إذن أمام مكافحة الكبتاغون، إذ تحظى صناعته وتجارته بدعم من مستويات مختلفة من المسؤولين تتراوح من الرؤساء إلى ضباط الأمن، الذين تكمُن مصلحتهم جميعا في إغراق الأسواق ببضاعتهم. أما الأطراف الراغبة في كبح تلك العجلة، لحماية شبابها من جهة، ولتعطيل العجلة الاقتصادية للأسد وحلفائه في سوريا ولبنان من جهة أخرى، فهي دول الخليج في المقام الأول، ثم تركيا والقوى الغربية. ويخشى هؤلاء أن تنتهي موجة الكبتاغون تلك بترسُّخ الدور الاقتصادي للمخدرات في سوريا ولبنان -على غرار ما حدث في أفغانستان سابقا-، وأن يتحوَّل البلدان بمرور الوقت نحو تصدير أنواع مخدرات أخطر من الكبتاغون. هذا وبدأت الشبكة السورية التي أُنشِئَت لتهريب الكبتاغون في نقل مخدرات أخطر بالفعل مؤخرا، مثل مخدر الكريستال ميث.
بينما تتكيَّف تجارة الكبتاغون مع القيود والعقبات الجديدة، وتكتسب فعالية وتأثيرا اقتصاديا مستداما في خضم الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالشام منذ عقد من الزمان، ليس مُرجَّحا أن تُفلح جهود محاربتها في وقت قريب، إذ إنها ترتبط بتسوية الصراع السوري نفسه، وحل الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان، أما القوى الغربية والمؤسسات الدولية فلا تملك الكثير لفعله باستثناء تشديد قبضة الرقابة، ومعاقبة الشركات المتورِّطة في تجارة الكبتاغون، حتى تلوح في الأُفق تسوية شاملة تجتث جذور تلك التجارة قبل أن تصبح عصية على الاجتثاث، وقبل أن تصبح سوريا أفغانستان أخرى.
المصدر: الجزيرة. نت